افْتِقَار
عبدالعزيز بن محمد
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَمَّا بَعْد:
· (ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)
· (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً)
· ( ياأيها الذي أمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً)
أيها المسلمون: يتباهى العظماءُ بعظمتهم، ويتظاهرُ الكُبراءُ بِسُلطانِهِم، يَستَعرِضونَ كُلَّ معاني القوةِ، ويفتِعِلونَ كُلَّ أسبابِ الهيبةِ، ويستجلبونَ كلَّ أسباب التَعْظِيْم. وما مِن عظيمٍ مِنَ الناسِ يعلو مقامُه.. إلا سَيَكْسِفُ يَوْماً ضوؤُهُ، وسيخبو يوماً ذِكُرُهُ، وسَيَضْمَحِلُّ يوماً أمرُهُ. وسيطويِه من ظَهرِ البسيطةِ طاوٍ. فما مُلْكٌ لِمَخلُوقٍ سيبقى، ولا عِزٌّ وسلطانٌ يدومُ.
المُلْكُ حقاً مُلْكُ مَن ملَكَ المُلكَ.. رَبٌّ عليٌّ يُقِيمُ الكونَ أجمَعَه، يُدَبِرُ الأمرَ في الدنيا وفي الأخرى. يُعطي ويمنعُ، يُدني ويَرفَعُ، لا نِدٌّ ولا سندٌ، ولا شَرِيْكٌ، ولا كُفؤٌ ولا عَضِدُ. حَيٌّ.. تعالى عن الأشباهِ لا يُماثِلُهُ شيءٌ، ولا يُحِيطُ بِعِلْمِ الله مخلوقُ. الكُلُّ يفنى ويبقى اللهُ منفرداً.. تفنى الخلائقُ والقيومُ قَيُّومُ. {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} أقامَ أمرَ حياةِ الخلقِ قاطبةً.. فالكلُّ مُفُتَقِرٌ للواحدِ الصَّمَدِ. قامت بأمْرِهِ السماواتُ والأرضُ، يدَبِرُ الأمرَ يحكم ما يُريد. لا مانِعَ لما أعطى، ولا مُعطِيَ لما مَنَع. هو المَلِكُ رَبُّ العالمين. {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
إلهٌ واحدٌ لا إله غيرُهُ، على العرشِ اسْتَوى، مُتفردٌ بالألوهيةِ. في السماواتِ يُعبَدُ ويُدعى، وفي الأرض يُسألُ ويُرجى، وكُلّ مخلوقٍ في الكونِ لَه عبدُ {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}
هو المَلِكُ لا إله إلا هو، هو الخالِقُ لا إله إلا هو، هو العظيمُ لا إله إلا هو، هو القويُّ لا إله إلا هو، هو الغني لا إله إلا هو، هو الجبارُ لا إله إلا هو، هو العزيزُ لا إله إلا هو. هو رَبُ السماواتِ والأرضِ وهو خالِقُهُما. هو ربُّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، هو إله الأولين والآخرين. هو منشئُ الكونِ مِن العَدَم. {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} هو اللهُ ربُ العالمين، حفيظٌ حافظ. قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها، {وعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} خَضَعَت لِعَظَمَتِهِ عظائمُ المخلوقات، وسَبحت له الأرض والسماوات، {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}
الطيرُ سَبّحَه والوَحشُ مَجّدَه. ** والموجُ كبّره والحوتُ ناجاه
والنملُ بين الصُّخورِ الصُّمِّ قَدّسَه ** والنَّحلُ يهتِفُ حمدًا في خَلاياهُ
{يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) مِنْ شأنه أنْ يُجِيْبَ دَاعياً، وأن يُعْطِيَ سَائِلاً، وأن يَفُكَ عَانِياً، وأن يَشْفِيَ سَقِيْمَا، وأن يَكْشِفَ كَرْباً، وأن يغفرَ ذنباً، وأن يَرفعَ قوماً، وأن يخفض آخرين. يُدَبِرُ في عبادِه ما يشاءُ من أقدارِه، فهو الملِكُ المُدَبِّرُ القدِيرُ. كُلُّ مَخلوقٍ وإنْ عَظُمَ فهو مُفتَقِرٌ إليه، وهو الغنيُ ــ تعالى ــ عن كُل أحد {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إلى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: قَالَ اللَّه عزَّ وجلَّ: (يَا عِبَادِي: إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُه بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالَمُوا. يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْته، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ. يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْته، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ. يَا عِبَادِي! إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا؛ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ. يَا عِبَادِي! إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْت كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَته، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ. يَا عِبَادِي! إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ" رواه مسلم
{إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}
بارك الله لي ولكم..
الحمد لله رب العالمين، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو على كل شيءٍ وكيل، وأشهد أن محمداً عبدُهُ ورسوله، خيرُ داعٍ إلى الله وأعظم دليل، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن آمن بالتنزيل وسلم تسليماً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم
أيها المسلمون: مَنْ أظْهَرَ للهِ فقراً أغناه، ومَنْ أَظْهَرَ لَه ضَعْفاً قَوَّاه، ومَنْ أَظْهَرَ لَه حاجةً أعطاه، ومَن أظْهَرَ لَه تواضُعاً رَفَعَه، ومَن أظهرَ لَه رَغبَةً نَفَعَه، ومَن أظهرَ له توبةً رَحِمَه، ومَنْ أَظْهَرَ لَه انكساراً واضطراراً أغاثَه {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ}
عظيمٌ يُحبُ مَن إليه افتقر، غنيٌ له ملك السماوات والأرض، قادرٌ لا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، كريمٌ يُجْزِلُ العطاءَ للسائلين، حكيمُ بمنْعِهِ حكيمٌ بِعطائه، رَحيمٌ بِخَلْقِهِ لَطِيفٌ بِقضائه.
أَسْلِمْ نفسَكَ إليه، وَجِّهْ وَجْهَكَ إِليه، وَفَوِّضْ أَمْرَكَ إليه، وأَلْـجئ ظَهْرَكَ إليه، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إليه. افْزَعْ إليْهِ في نَوَائِبِكْ، واعْتَرِفْ له بِالفَضْلِ في أيامِ رَخائكْ. واعلم أَنَّهُ ما أَوْجَدَكَ إلا لأمرٍ واحدٍ.. وبعَدَ الموتِ عنهُ حتماً سيَسْأَلُك. {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أقِمْ عبوديتَك لله وَحْدَه.. استقِم إليه كما أمَرَك. الزم سبيلَه ولا تَكُن مَعَ الهالكين {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}
واعلَمْ.. أنَّ مَنْ عَظَّمَ اللهَ حَقّاً عَظَّمَ أَمْرَه. ومَن وَقَّرَ اللهَ صِدْقاً لم يَبِعْ دينَهُ بِـهَواه. هل للعبادِ مِن دونِ اللهِ مَفْزَع؟ وهل للعبادِ من دونِ الله مُعْتَصَم. إنْ يَرضَ رَبيْ.. فما يضيرُ إنْ سَخطَ العبادُ؟ لكِنَّ سُخطَ اللهِ يُورِثُ حسرةً.. أين الفرارُ وعنده الميعادُ؟
كُلُ العبادِ لجودِ اللهِ مُفتَقِرَة ** وكُلُ نفسٍ لَهُ لا رَيْبَ مُنْكَسِرَة
يَغتَرُّ غِرٌّ بأَنَّ الله أَمْهَلَهُ ** فيرتمي بِدُرُوبٍ كُلُّها وَعِرَة
فِسقٌ ومعصيةٌ والله مُطَّلِعٌ ** والله يُمِهِلُهُ والنارُ مُسْتَعِرَة
يُجادِلُ اللهَ في تَشْرِيعِه ولَه ** رأيٌ بِحْكْمَتِهِ، والدينُ يَحْتَقِرَه
لا يرعوي لسبيل الله ممتثلاُ ** درب الرسولِ وفي القرآنِ مُعْتَبَرَه
يا أيها العبدُ مهلاً لا تَكُنْ وَقِحاً ** أيامُ رَبِّي بأهلِ الغَيِّ مشتهرة
أوثِق حبالَك بالرحمن مُعتَصِماً ** وحاذر الذنبَ وَارْجُ اللهَ يَغَتَفِرَه
اللهم اهدنا لهداك.. واجعل عملنا في رضاك، واجعلنا من عبادكَ المخْلَصين.
المرفقات
1636096617_افتقار ــ 30ــ3ــــ1443هـ.doc