اغتنم خمساً قبل خمس

د. عبدالعزيز الشهراني
1442/03/01 - 2020/10/18 09:12AM

أيها المؤمنون: عن عبدالله بن عباس قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لرجلٍ وهو يَعِظُه : اغتنِمْ خمسًا قبل خمسٍ : شبابَك قبل هَرَمِك، وصِحَّتَك قبل سَقَمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك. [أخرجه الحاكم والبيهقي في الشعب وصححه الألباني]. فقد أرشَدَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُمَّتَه إلى اغتنامِ الفُرَصِ في الحياةِ؛ للعمَلِ للآخِرةِ بِـمَلْءِ الأوقاتِ بالطاعاتِ؛ لأنَّها هي عُمرُ الإنسانِ في الدُّنيا، وذَخيرتُه في الآخرةِ. فهذه الوصية الجامعة يوصي فيها النبي صلى الله عليه وسلم أن يسابق المسلم إلى الخيرات في مراحل العطاء والقوة قبل أن يشغل أو تسلب منه أحد هذه النعم الشباب الصحة والفراغ والغنى والحياة.

عباد الله: في هذا الحَديثِ يقولُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "اغْتَنِمْ" مِن الاغْتِنامِ؛ وهو أخْذُ الغَنيمةِ والعَطِيَّةِ، "خَمسًا"، أي: خمسةَ أحوالٍ يكونُ عليها الإنسانُ، والمرادُ: التنبيهُ والتعريفُ على مَواطنِ الاستفادةِ في حياةِ الإنسانِ، "قبْلَ خَمْسٍ"، أي: قبْلَ خَمْسٍ مِن العوارضِ الـمُتوقَّعةِ في المستقبَلِ: "شَبابَك قبْلَ هَرَمِك"، أي: اغْتنِمْ زمانَ قُوَّتِك في الشَّبابِ على العِبادةِ، وغيرِها مِن أعمالِ الخيرِ قبْلَ كِبَرِك وضَعْفِك عن الطاعةِ، "وصِحَّتَك قبْلَ سَقَمِك"، يعني: اغْتَنِمِ الأعمالَ الصالحةَ في الصِّحَّةِ قبْلَ أنْ يَحُولَ بيْنك وبيْنها السَّقَمُ والـمرَضُ، واشْتَغِلْ في الصِّحَّةِ بالطاعةِ بحيثُ لو حصَلَ تَقصيرٌ في المرضِ انْـجبَرَ بذلك؛ فيَستفِيدُ الإنسانُ مِن صِحَّتِه ما قد يُضْعِفُه المرضُ عنه يومًا مَا، "وغِنَاك قبْلَ فَقْرِك"، أي: اغْتَنِمْ قُدْرتَك على العِباداتِ الماليَّةِ والخيراتِ والـمَبَرَّاتِ الأُخرويَّةِ في مُطْلقِ الأحوالِ، مِثْلُ التَّصدُّقِ بفَضْلِ مَالِك ونَـحْوِه، قبْلَ فَقْدِك المالَ في حياتِك، أو قبْلَ الـمَماتِ، وفَقْدِك المالَ الذي تُعطِي منه في وُجوهِ الخيرِ، فتَصِيرُ فَقيرًا في الدارَينِ، "وفَراغَك قبْلَ شُغْلِكَ"، أي: على الإنسانِ أنْ يَستغِلَّ أوقاتَ فَراغِه ويَعمَلَ فيها بالخيرِ قبْلَ أنْ تَشْغَلَه الشواغِلُ؛ كالزَّواجِ، والأولادِ، وطَلَبِ الرِّزقِ، ونَحْوِ ذلك، "وحَياتَك قبْلَ مَوتِك"، أي: اغْتَنِمِ الأعمالَ الصالحةَ في الحياةِ قبْلَ أنْ يَحُولَ بيْنك وبيْنها الموتُ، وهذه الخمْسةُ لا يُعْرَفُ قَدْرُها إلَّا بعدَ زَوالِـها .

أيها المؤمنون: قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله : " يعني أن هذه الخمس أيام الشباب والصحة والغنى والفراغ والحياة هي أيام العمل والتأهب والاستعداد والاستكثار من الزاد فمن فاته العمل فيها لم يدركه عند مجيء أضدادها ولا ينفعه التمني للأعمال بعد التفريط منه والإهمال في زمن الفرصة والإمهال فإن بعد كل شباب هرما وبعد كل صحة سقما وبعد كل غنى فقرا وبعد كل فراغ شغلا وبعد كل حياة موتا فمن فرط في العمل أيام الشباب لم يدركه في أيام الهرم ومن فرط فيه في أوقات الصحة لم يدركه في أوقات السقم ومن فرط فيه في حالة الغنى فلم ينل القرب التي لم تنل إلا الغنى لم يدركه في حالة الفقر ومن فرط فيه في ساعة الفراغ لم يدركه عند مجيء الشواغل ومن فرط في العمل في زمن الحياة لم يدركه بعد حيلولة الممات فعند ذلك يتمنى الرجوع وقد فات)أ.هـ.

عباد الله: وحياة المرء في هذه الدنيا ليست حياةً دائمة بل إنه يعقبها موت، ولكل أجلٍ كتاب، وإذا جاء أجل المرء لن يستقدم عنه ساعة ولا يستأخر، والعاقل -عباد الله- من يحرص على اغتنام حياته في طاعة الله تبارك وتعالى وما يقرب إليه؛ بحيث تكون كل ساعة يحياها وكل يوم يُفسح له في هذه الحياة امتدادًا في الطاعة والإقبال على الله جل وعلا، وفي الدعاء المأثور عن نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم : " اللهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ " .  وهي دعوة عظيمة مباركة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلنجمع -يا معاشر المؤمنين- لأنفسنا بين حسن الدعاء والالتجاء، وحسن العمل والإقبال على الله تبارك وتعالى، والرعاية للأوقات والحفظ للأعمار وحُسن الإقبال على الله العزيز الغفار.

 

(الخطبة الثانية )

أيها المسلمون: ، جاء في ( شعب الإيمان ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال : " يا أيها الناس ، إن لكم علمًا فانتهوا إلى علمكم ، و إن لكم نهايةً فانتهوا إلى نهايتكم ؛ فإن المؤمن بين مخافتين :بين أجل قد مضى لا يدري كيف صنع الله فيه ، و بين أجلٍ قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه ، فليتزود المرءُ لنفسه من نفسه ، و من دنياه لآخرته ، و من الشباب قبل الهرم ، ومن الصحة قبل السقم ، فإنكم خُلقتم للآخرة ، و الدنيا خُلقت لكم . والذي نفسي بيده ما بعد الموت من مُستعتبٍ ، و ما بعد الدنيا دارٌ إلا الجنة أو النار " .

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها *** إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخيـر طـاب مسكنه *** وإن بنـاها بشـرٍ خـاب بانيهــا

وجاء عن أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه أنه قال في إحدى خُطبه : " إنكم تغدون وتروحون إلى أجلٍ قد غُيبَ عنكم ، فإن استطعتم أن لا يمضي هذا الأجل إلا وأنتم في عملٍ صالحٍ فافعلوا " .

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم وَالْعَصْرِ ۝ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ۝ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3] 

المشاهدات 1790 | التعليقات 0