اغتنام مواسم الخير

محمد بن عبدالله التميمي
1444/09/08 - 2023/03/30 11:57AM

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي أنزل على عبده الآيات، فأحيا القلوبَ من الممات، أحمده سبحانه تابعَ مواسم الخيرات، ومنَّ علينا بتيسير سُبُل الطاعات، وأَجزل العطية بمضاعفة الحسنات، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له من البريّات، وأشهد أن محمدًا المبعوثُ بخاتَم الرسالات، والمخصوصُة أمتُه بفضائلَ ومضاعفات، ومن ذلك شهْرُ رمضان سيدِ الشهور الذي تجتمع فيه أصول العبادات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسانٍ وثبات، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:

فاتقوا الله تعالى واقْدُرُوا شهركم، بالاجتهاد في بلوغ مرضاة ربكم، مسارعةً في الطاعات، وإقصارًا عن السيئات، فالمَغْبُونُ من اشتغلَ بمعصية الله في رمضان، فأهونُ الصيام: تركُ الشرابِ والطعام، ففي صحيح البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال: «مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ بِهِ والجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حاجَةٌ أنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ».  

عبادَ الله.. اغتنامُ مواسم الخيرات فتحٌ من الله لمن أحب من عباده، وما تقرب عبدٌ لله بشيءٍ أحبَّ إليه مما افتَرَضَ عليه، فكونوا محافظين عليه، وبالنوافل مسارعين إليه، يُحْبِبكم، وبفضله يَخصُصْكم، وفي أسماعكم وأبصاركم يُسدِّدكم، ومن الفتن المُضلَّة يحفظكم، قالَ رَسُولُ الله ﷺ: «إنَّ اللَّهَ قالَ: مَن عادى لِي ولِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أحَبَّ إلَيَّ مِمّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوافِلِ حَتّى أُحِبَّهُ، فَإذا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، ويَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِها، ورِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِها، وإنْ سَألَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وأنا أكْرَهُ مَساءَتَهُ»

والعبدُ لا غِنَى له عن ربه طرفةَ عين، والسعيدُ مَنْ قَرُبَ من الله بإنزال حوائجه، بطلب مرغوبٍ، أو زوال مرهوب، مع تحرِّي أزمانِ وهيئاتِ الإجابة؛ كالسجود، ووقت السحر، ونهار رمضان، وهو سبحانه قريبٌ مِنْ سائليه، ووعد بإعطاء السائل حاجته: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، والإكثارُ من دعاء الله مِنْ كمال العبودية له، ورِفعةُ العبدِ على قدر انكساره بين يدي الله، والدعاءُ عبادةٌ وقُربةٌ، ولن يَهلَكَ مع الدعاء أحد، به يصل العبد لمناه ويدرك مطلوبه، فكم قَرَّب من بعيد، ويسر من عسير، ومَظِنَّةُ زمن إجابة الدعاء ما كان في جوف الليل الآخر، وإذا انكسر العبد بين يدي ربه أجاب الله سُؤْلَه، والصائمُ لا تُرَدُّ دعوتُه، قال الحافظُ ابنُ رجبٍ رحمه الله: (الصائمُ في ليلِه ونهارِه في عبادة، ويُستجاب دعاؤُه في صيامِه وعند فِطرِه، فَهُوَ في نهاره صائمٌ صابرٌ، وفي ليلِه طاعمٌ شاكر).

عباد الله.. في رمضان عباداتٌ تُكفِّرُ الخَطِيَّات؛ فالصيامُ تُغفِرُ به الزلاَّت؛ وكذلك القيام، وكلُّ سجدة ترفع درجة وتَحُطُّ خطيئة، قال عليه الصلاة والسلام: «مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ»؛ متفق عليه، ومن حافظَ على صيامِه كان وِقايةً له من النار؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «الصيامُ جُنَّة»؛ متفق عليه، قال ابن حجرٍ رحمه الله: (إذا كفَّ نفسَه عن الشهوات في الدنيا، كان ذلك ساتِرًا له من النار في الآخرة). وحريٌّ بالمسلم أن يستعين بالصيام عَلَى القيام، قال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» متفق عليه، وفي المسنَد أنه عليه الصلاة والسلام قال: «اعْلَمْ أنَّكَ لَنْ تَسْجُدَ لِلَّهِ سَجْدَةً إلّا رَفَعَ اللَّهُ لَكَ بِها دَرَجَةً، وحَطَّ عَنْكَ بِها خَطِيئَةً».

عباد الله.. كلُّ امرئ في ظل صدقته يوم القيامة فتصدق ولو بالقليل وطب بها نفسها وواسِ بها محرومًا، من فطر صائمًا كان له مثل أجره، وكان عليه الصلاة والسلام أجودُ ما يكون في رمضان، فَلَهُوَ فيه أجودُ بالخيرِ مِن الريحِ المرسَلَة.

وهذا عباد الله شهرُ رمضان.. وفي بقيته للعابدين مُسْتَمْتَعْ، وهذا كتابُ الله فيه يتلى ويُسْمَعُ، وهذا القرآنُ الذي لو أُنزل على جبل لرأيتَه خاشعًا يتصدّع، وفي رمضان تتأكَّدُ العناية بالْقُرْآن، بالإكثار منه قراءةً وتدبرًا وتعلمًا وتعليمًا وعملاً وامتثالًا، وكان جبريل عليه الصلاة والسلام يُدارِسُ نَبِيَّنا صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ فيه مرةً في كل عام، وفي العام الَّذِي مات فيه عليه الصلاة والسلام دارسه مرتين، فيَحْسُنُ بالمسلم أن يكون لِـمُدَارَسَةِ القرآنِ نصيبٌ من عنايته في هذا الشهر، فيَعرِضُ حِفظَهُ، أو يُقَوِّم تلاوته، أو يُعينُ مَن يحتاج إلى ذلك، وأَوْلى الناس بذلك أهل دارِك، فتَعقِدُ حَلْقَةً ولو في بعض ليالي الشهر، بما تيسَّر، مِن تلاوةٍ وفَهْمٍ وتَدَبُّر.

لقد كان السلف الصالح يستكثرون فيه من خَتْمِ القرآن في رمضان وما أَعظمه غَنِيمة، وإنه ليسيرٌ على المُوفَّقِ صادقِ العزيمة، ففي الساعة الواحدة تأتي بِيُسْرٍ على ثلاثة أجزاء، ومَنْ ضَعُف فيأتي على جزأين، مما يعني أن مَن قرأ في يومه أربع ساعات فإنه يختم في كل ثلاثة أيام، وقد تبقى مِن اليوم عشرون ساعة!

فلْيُحاسب كلٌّ منا نفسَه، وكم أعطى من يومِه لكتاب ربِّه، فنحن نَسْتَقْبِلُ الليلةَ العاشرةَ من هذا الشهر! فيمضي ثُلُثُ الشهر - والثُلُث كثير-، واللهُ المُستعان، وعليه التُّكلان، ولا حول ولا قوة إلا به أن يُوفِّقَنا للاجتهاد ويُعيذَنا من الحرمان، ويَمُنَّ علينا بالمغفرة والرضوان، والعتقِ من النيران.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فاتقوا الله عبادَ الله، واعلموا أن أيامَ المواسِم معدُودة، وأوقاتُ الفضائِل مشهُودة، وكم مِنْ إِنسانٍ انْتَظَرَ رمضانَ بأقوى أَمَل، فباغَتَه الأجل، فَأْكِثِروا فيه من صالح العمل، تُوبوا إِلى التواب الرحيم من كل ذنب وتقصير، اصْدُقُوا العزمَ على عدم العَودِ فذلك مِن شرط التوبة، كونوا بصيامكم وقيامكم مخلِصين، وعليهما مما يُنْقِصُ ثوابهما محافظين، ومن ذنوبكم تائبين، ومن الطاعات متزودين، اعْمَلُوا فِي بَقِيَّة شهركم ليَوْم وفاتكم وفقركم، إِذا وُقفتم بَين يَدي ربكُم.

من وُفِّقَ للتوبة لم يُحرَمِ القبول {وهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ}، ومَن وُفّق للدعاء لم يُحرَمِ الإجابة {أمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذا دَعاهُ}، ومن وُفّق للشكر لم يُحرَمِ المزيد {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأزِيدَنَّكُمْ}، ومن وفق للعمل الصالح لم يُحرَمِ المودةَ من الله وخَلْقه {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}.

أَيُّهَا الْمُحْسِنُ فِيمَا مَضَى مِنْهُ دُمْ، وَأَيُّهَا الْمُسِيءُ وَبِّخْ نَفْسَكَ عَلَى التَّفْرِيطِ وَلُمْ، إِذَا خَسِرْتَ فِي هَذَا الشَّهْرِ مَتَى تَرْبَحُ، وَإِذَا لَمْ تُسَافِرْ فيه نحو الفوائد فمتى تَبْرَح. كَانَ قَتَادَةُ رحمه الله يَقُولُ: كَانَ يُقَالُ مَنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ فِي رَمَضَانَ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ! عن أنس بن مَالِكٍ رضي الله عنه قال: ارْتَقَى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: آمِينَ ثُمَّ ارْتَقَى ثَانِيَةً فَقَالَ آمِينَ. ثُمَّ اسْتَوَى عَلَيْهِ فَقَالَ آمِينَ. فَقَالَ أَصْحَابُهُ: عَلامَ أَمَّنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ. فَقُلْتُ: آمِينَ. ثُمَّ قَالَ: رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يُدْخِلاهُ الْجَنَّةَ. فَقُلْتُ: آمِينَ. ثُمَّ قَالَ: رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ. فَقُلْتُ: آمِينَ.

المشاهدات 1017 | التعليقات 0