اغتنام الأعمار

د. محمود بن أحمد الدوسري
1442/07/19 - 2021/03/03 18:44PM

اغتنام الأعمار

د. محمود بن أحمد الدوسري

الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أمَّا بعد: اعتنى القرآنُ الكريم والسُّنة المُطهَّرة بقيمة الوقت في حياة المسلم؛ فقد أقسم الله تعالى بالوقت؛ كما في قوله: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 1, 2]؛ وقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 1, 2]؛ وقوله: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 1, 2].

ولِعَظِيمَ قَدْرِ الوقت؛ فإنَّ الله تعالى ذَكَرَه في معرض الامتنان على عباده, فقال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]. أي: جعل الليلَ يخلف النهار, والنهارَ يخلف الليل, فمَنْ فاته عمل في أحدهما؛ فإنه يستطيع أنْ يتدارَكَه في الآخَر.

والمرء سيُسأل عن سنوات عمرِه كلِّها بين يدي الله تعالى, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ؛ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ, وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ, وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ, وَفِيمَ أَنْفَقَهُ, وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ» حسن - رواه الترمذي. قال ابنُ مسعودٍ - رضي الله عنه: (ما ندِمْتُ على شيءٍ ندمي على يومٍ غربتْ شمسُه؛ نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي).

قال ابن الجوزي - رحمه الله: (ينبغي للإنسان أنْ يعرف شَرَفَ زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظةً في غير قُربة، ويُقدِّم الأفضل فالأفضل من القول والعمل. وقد كان جماعةٌ من السلف يبادرون اللحظات، فَنُقِلَ عن عامرِ بنِ عَبْدِ قَيْسٍ: أنَّ رجلًا قال له: كلِّمني, فقال له: أمسك الشمس. ودخلوا على بعض السلف عند موته - وهو يصلي، فقيل له، فقال: الآن تُطوى صحيفتي).

أيها المسلمون .. إنَّ العمر الحقيقي للإنسان لا يُقاس بالسنوات التي عاشها؛ وإنما يُقاس بقدر ما قدَّم للإسلام من عظائم الأعمال الصالحة, فها هو حبيبنا صلى الله عليه وسلم يبعثه الله تعالى في بيئةٍ شِركية, تموج بالكفر مَوْجاً, وفي سنواتٍ قليلةٍ أقام دولةً تملأ سمعَ وبصرَ التاريخ, ويوم القيامة تكون أُمَّتُه أكثر الأمم, كلهم في ميزان حسناته؛ مصداق ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ, ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ, وَأَرْبَعُونَ مِنْ سَائِرِ الأُمَمِ» صحيح - رواه الترمذي. وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً, أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ» حسن - رواه الترمذي.

وتأمَّل؛ ماذا أنجز أبو بكرٍ الصِّديق - رضي الله عنه – حال تولِّيه الخلافة - من أمورٍ عظيمة؛ لِنُصرة دينِ الله تعالى, ففي عامين ونصف حال دون الفتن التي أصابت الأمة؛ فقضى على فتنة الرِّدة, وأنفذَ جيشَ أُسامة, وجَمَعَ القرآنَ.

وللوقت قِيمةٌ عظمية عند سلفنا الصالح؛ فهذا حمَّاد بن سلمة, يقول عنه - تلميذُه عبدُ الرحمن بن مهدي: (لو قيل لحماد بن سلمة: إنك تموتُ غداً, ما قدر أنْ يزيدَ في العمل شيئاً).

وقال ابن القيم: (وقد شاهدتُ من قوة شيخِ الإسلام ابنِ تيمية في سننه, وكلامه, وإقدامه, وكتابته؛ أمراً عجيباً، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسِخُ في جُمعةٍ وأكثر).

وقال ابن العطار - تلميذُ النووي: (ذَكَرَ لي شيخُنا - رحمه الله تعالى - أنه كان لا يضيع له وقتًا, لا في ليل ولا في نهار, إلاَّ في اشتغال بالعلم حتى في الطريق, يُكرر ويُطالع, وأنه دام على هذا سِت سنين, ثم أخذ في التَّصنيف والإفادة, والنَّصيحة, وقولِ الحق).

       عباد الله .. هناك أسباب كثيرة تؤدي إلى ضياع الوقت وهدره, فمن أهمها:

الجهل بقيمة الوقت: فالإنسان عدو ما يجهل, فإذا جهل قِيمةَ وقتِه؛ أضاعَهَ وبَدَّدَه, ولم يعرف كيف يستفيد منه.

       الكسل: والكسلُ آفةٌ خطيرة تقتل كُلَّ إبداع, وتُجابِه كلَّ عملٍ مُثمِر.

       عدم التركيز: وهذا السبب يؤدي إلى إهدار أوقاتٍ كثيرة, ولو كان هناك تركيز وانتباه؛ لتوفَّرت أوقات كثيرة.

       ضياع الهدف: والهدف الأسمى الذي ينبغي أنْ يسعى إليه كلُّ مُسلمٍ؛ هو رضا الله تعالى, والفوزُ بكرامته, وهناك أهدافٌ أُخرى تتنوَّع بتنوع الأشخاص واختلافِ مشارِبهم, قال تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4]. وضياع الأوقات يؤدي إلى ضياع الهدف الأسمى الذي من أجله خُلِقَ الإنسان.

       سُوء التنظيم: ومن سوء التنظيم عدم البدء بالأهم فالمُهم وهكذا, فمِنْ سوءِ التنظيم: تعلُّم السُّنن قبل الفرائض, وإحكامُ الفروع قبل الأصول, فهذا تضييع للوقت.

       الغلفة: قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]. فمِنْ أهمِّ صفات أهل الغفلة؛ التفريط في الوقت وإضاعته.

       صُحبَة البَطَّالِين: فالمرء على دين خليله, يتأثر بسلوكه, والصاحِبُ ساحِب.

       التعلُّق بالدنيا: حبُّ الدنيا والانغماس فيها؛ يُنسِي الاستعدادَ للآخرة, واغتنامَ كلِّ لحظاتِ العمر في طاعة الله تعالى.

       طُولُ الأمل: جميلٌ أنْ نحملَ في قلوبنا أملاً؛ كي نعمِّر الكونَ بكل أنواع الخير, فالإنسان مفطور على حُبِّ الحياة, وينبغي الحذر من أنْ يَحُول طول الأمل بيننا وبين طاعة الله تعالى. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما – قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبِي, فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ, أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ». وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ, وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ, وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ, وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. رواه البخاري.

       التسويف: وهو مِنْ أعظم أسباب ضياع الوقت, فبسبب التسويف ينقضي العمرُ كلُّه بلا توبة, ولا عملٍ صالح؛ لذا جاءت الوصية العظيمة من النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ, وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ, وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ, وَشَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ, وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ» صحيح - رواه الحاكم.

       الإفراط في الأكلِ والنومِ والسهرِ والكلام: فكَثْرَةُ هذه الأشياء والإسرافُ فيها؛ تُضَيِّع الأوقات والأعمار.

       اتِّباع الهوى: فالهوى مَلِكٌ غَشوم جَهول, يهوى بصاحبه إلى كلِّ شرٍّ في الدنيا, والهلاك في الآخرة.

       الفراغ: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» رواه البخاري. قال ابن حجر - رحمه الله: (فَمَنِ اسْتَعْمَلَ فَرَاغَهُ وَصِحَّتَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ الْمَغْبُوطُ, وَمَنِ اسْتَعْمَلَهُمَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهُوَ الْمَغْبُونُ؛ لِأَنَّ الْفَرَاغَ يَعْقُبُهُ الشُّغْلُ, وَالصِّحَّةَ يَعْقُبُهَا السَّقَمُ).

الخطبة الثانية

الحمد لله ... عباد الله .. واجِبٌ علينا حِفْظُ الأوقات, واغتنامُ الدقائق قبل الساعات في كلِّ ما يعود علينا بالنَّفع والخير, وقد كان السلف - رضي الله عنهم – أحرص ما يكونون على أوقاتهم؛ لأنهم كانوا أعرف الناس بقيمتها. قال الحسن البصري - رحمه الله: (أدركتُ أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم). وكانوا يكرهون من الرَّجل أنْ يكون فارغاً, لا هو في أمر دِينه, ولا هو في أمر دُنياه, وهُنا تنقلب نِعمةُ الفَراغ نِقمةً على صاحبها.

       وفي استطاعة المُسلِمِ أنْ يُطِيلَ عُمرَه؛ إذا تَرَكَ وراءه ما ينتفع به الناس؛ من علمٍ نافع, أو عملٍ صالح, أو ذُريةٍ مُباركةٍ لِتَكون امتداداً لحياته, ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ, أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ, أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» رواه مسلم.

       وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ, وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ, وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ, أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ, أَوْ بَيْتًا لاِبْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ, أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ, أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ, يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ» حسن - رواه ابن ماجه.

 

 

 

 

المرفقات

1614797029_اغتنام الأعمار.docx

المشاهدات 915 | التعليقات 0