اعتزوا يامسلمون 1445/6/06ه
يوسف العوض
الخطبة الأولى
عبادَ اللهِ: قال اللهُ تبارك وتعالى:" وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" أدَبٌ قرآنيٌّ عظيمٌ، وتوجيهٌ ربَّانيٌّ كبيرٌ للثُّلَّةِ المُؤمِنةِ المجاهِدةِ والصَّابرةِ، يحثُّهم فيه على عَدَمِ الهوانِ الذي ينافي العِزَّةَ ويُضادُّها فهو أمرٌ للمُؤمِنين بالثَّباتِ على عِزَّتِهم، حتَّى في الأوقاتِ العصيبةِ؛ لتبقى العِزَّةُ ملازمةً لهم، لا تنفَكُّ عنهم في الضَّرَّاءِ والسَّرَّاءِ، في الفَرَحِ والحُزنِ، في الحَربِ والسِّلمِ، في النَّصرِ والهزيمةِ.
عبادَ اللهِ:دعونا نَعيشُ باختصارٍ شيئاً من صُوَرِ العِزَّةِ الشَّرعيَّةِ:
أولا/ الاعتزازُ باللَّهِ تبارك وتعالى:فهو يعرِفُ أنَّ اللهَ عزيزٌ، يَهَبُ العِزَّةَ من يشاءُ، كما أنَّه ينزِعُها ممَّن يشاءُ، كما أنَّه يوقِنُ أنَّ الاعتزازَ بالعزيزِ عِزَّةٌ، والاعتمادَ عليه قوَّةٌ، والالتِزامَ بنَهجِه شموخٌ، فتراه قويًّا بإيمانِه به، عزيزًا بتوكُّلِه عليه، شامخًا بيقينِه به.
وهو يَعلَمُ أنَّ الاعتزازَ بغيرِه ذُلٌّ وهوانٌ، والاستقواءَ بغيرِه ضَعفٌ، معتبرًا بحالِ كُلِّ من اعتزَّ بغيرِ اللهِ تعالى كيف هوى إلى مدارِكِ الذِّلَّةِ، وهبط إلى حضيضِ المهانةِ، وكيف تخلَّى عنه من اعتَزَّ بهم، ليتدحرَجَ من ذُرى العلياءِ والمجدِ -المزعومِ الكاذِبِ- إلى أسفَلِ دَرَكاتِ الذُّلِّ .
ومن العِزَّةِ أن يَذِلَّ بَيْنَ يدَيْ رَبِّه سُبحانَه، ويفوِّضَ الأمورَ إليه، ويستسلِمَ بَيْنَ يدَيه، يعتَرِفُ للهِ بفضلِه ونعمتِه، ويَشكُرُه عليها، ويُكثِرُ مِن ذِكرِه، ويراقِبُه في السِّرِّ والعَلَنِ.
ثانيا/ الاعتزازُ بالانتسابِ للإسلامِ، والاعتزازُ بهَديِه وشرائِعِه:فهو يعلَمُ أنَّ هذا الدِّينَ دينُ العِزَّةِ والقُوَّةِ، الذي يستمِدُّ المُسلِمون عِزَّهم مِن عِزِّه، وقُوَّتَهم من قوَّتِه، ومتى طلَبوا العِزَّةَ في سِواه -من مناهِجِ الأرضِ الشَّرقيَّةِ أو الغربيَّةِ- أذَلَّهم اللَّهُ.
كما أنَّه لا يعتَزُّ بقبيلةٍ أو قوميَّةٍ أو نَسَبٍ أو عِرقٍ ممَّا ينتَسِبُ إليه أهلُ الجاهليَّةِ في القديمِ والحديثِ، بل عزَّتُه بدينِه فقط، وعلى هذا ربَّى نبيُّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أصحابَه، فلمَّا سمِعَهم -بأبي هو وأمِّي، صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- ينادي بعضُهم: يا لَلأنصارِ، وآخَرون ينادون: يا لَلمُهاجرين. قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما بالُ دعوى الجاهليَّةِ؟!)) وقال: ((دعوها؛ فإنَّها مُنتِنةٌ!)) حالُ المسلِمِ في اعتزازِه بدينِه كحالِ أميرِ المُؤمِنين عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه حينَ قال: (إنَّا كنَّا أذَلَّ قومٍ، فأعزَّنا اللهُ بالإسلامِ، فمهما نطلُبِ العِزَّةَ بغيرِ ما أعزَّنا اللهُ به أذَلَّنا اللَّهُ) .
ثالثا/ الاعتزازُ برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:فهو يعتزُّ بكونِه فردًا في أمَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ينتسِبُ إليه إذا انتسَبَت الأمَمُ، ويفاخِرُ به إذا ذُكِر القادةُ والمصلِحون العُظَماءُ، يرجو شفاعتَه، ويتمنَّى لقاءَه، ويسألُ اللهَ أن يوفِّقَه للسَّيرِ على نهجِه، وإحياءِ سُنَّتِه، والقيامِ بحُقوقِه.
رابعا/ إظهارُ العِزَّةِ على الكافِرين، والذِّلَّةِ وخَفضِ الجَناحِ للمُؤمِنين:وهذه من أعظَمِ صُوَرِ العِزَّةِ ومظاهِرِها: أن يُريَ المُؤمِنُ الكافرين من نفسِه عِزَّةً وقوَّةً واستعلاءً، لا كبرًا وبطَرًا، بل إظهارًا لقوَّةِ هذا الدِّينِ وعِزَّتِه وعُلُوِّه؛ قال اللهُ عزَّ وجَلَّ وهو يَصِفُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابَه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ، فهم رُحَماءُ فيما بَيْنَهم، إلَّا أنَّهم أشدَّاءُ على الكافرين، أقوياءُ في مواجهتِهم. وقال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ، فهذه صفتُهم التي استحقُّوا بها التَّمكينَ، ونالوا بها شَرَفَ القيادةِ، فهم أذلَّةٌ على المُؤمِنين، خافِضون الجَناحَ لهم، ليِّنون في تعامُلِهم معهم، إلَّا أنَّهم -في الجانِبِ الآخَرِ- أشِدَّاءُ أقوياءُ على الكافرينَ.
الخطبة الثانية
عبادَ اللهِ :عن المِقدادِ بنِ الأسوَدِ رضي اللهُ عنه قال: سمِعتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((لا يبقى على ظَهرِ الأرضِ بيتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلَّا أدخله اللَّهُ كَلِمةَ الإسلامِ، بعِزِّ عزيزٍ أو ذُلِّ ذليلٍ، إمَّا يُعِزُّهم اللَّهُ فيجعَلُهم من أهلِها، أو يُذِلُّهم فيَدينون لها)) ففي هذا الحديثِ يُبَشِّرُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعِزِّ هذا الدِّينِ وتمكينِه في الأرضِ، وأنَّ هذا العِزَّ والتَّمكينَ سيكونُ سواءً بعِزِّ عزيزٍ، أو بذُلِّ ذليلٍ قومًا آخرين لم يلتفتوا إلى الكَلِمةِ وما قَبِلوها، فكأنَّهم أذلُّوها؛ فجُوزوا بالإذلالِ جزاءً وِفاقًا، "فيَدينون لها"... أي: يطيعون وينقادون لها)