اعتراف يهدم الاقتراف
عبدالرزاق بن محمد العنزي
الخطبة الأولى:(اعتراف يهدم الاقتراف)30/3/1443هـ
عَنْ أَنَسٍ رضيُ اللّهُ عنهُ قَالَ: خَرَجَتْ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا أَوْضَاحٌ، فَأَخَذَهَا يَهُودِيٌّ فَرَضَخَ رَأْسَهَا بِحَجَرٍ، وَأَخَذَ مَا عَلَيْهَا مِنَ الحُلِيِّ، قَالَ: فَأُدْرِكَتْ وَبِهَا رَمَقٌ، فَأُتِيَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مَنْ قَتَلَكِ، أَفُلَانٌ؟»، قَالَتْ بِرَأْسِهَا: لَا، قَالَ: «فَفُلَانٌ؟» حَتَّى سُمِّيَ اليَهُودِيُّ، فَقَالَتْ بِرَأْسِهَا: نَعَمْ، قَالَ: فَأُخِذَ، فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُضِخَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ" رواه الترمذي وصححه الألباني.
أفاد هذا الحديث أن الإقرار والاعتراف في قضايا الحقوق والأموال والجرائم يعتبر هو الأقوى إذ هو مقدم على البيِّنات والشهود، فلا يحتاج بعده إلى بحث وتنقيب، ولا رأي وتعقيب، بيد أن اعتراف البشر للبشر قد يتوجس منه الكثير، بسبب ما يترتب عليه من تبعات وحقوق وأحكام، ربما ينوء بها كاهلُه، ويَعجِز مع عصبته في دفع تكاليفها الباهظة التي قد تجلب له فقر الدهر، وهو أحسن حالًا من آخر قد جلب عليه اعترافُه ذُلَّ الدهر وخِزيَه!
بعيدًا عن مشاحة البشر وتحاقُقهم، وديوانهم الذي سيفتح بكل ما فيه يوم العرض على الله، لا يترك الله منه شيئًا، سنتكلم اليوم عن اعتراف آخر، له طبيعته وخصائصه ومميزاته وثمراته.
اعتراف تسقط به التبعات، وتتهاوى أمامه جبال الذنوب والسيئات، وينبثق معه النور الذي يبدد ما توارى في نفسه من حواجز اليأس وتراكم الظلمات.
اعتراف يتخلص المرء معه من تأنيب الضمير، ويتحرر من تواريه عن عيون الخلق في الدهاليز والزوايا، ودسِّها في المستنقعات والأوحال، إلى تزكيتها وتطهيرها ونقائها ووضوحها.
إنه الاعتراف بالذنب وهو الخطوة الأولى لتعديل المسار وعلامة من علامات الثقة بالنفس التي لا يتصف بها إلا الكبار.
أين نحن من قول ربنا عندما اعترف أبونا آدم وأمنا حواء قال الله عنهما:﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾.
وقال الله عن يونس بن متّى :﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
وهذا خبر موسى عليه السلام قبل النبوة لما قتل خطأ؛ ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾الاعتراف بالخطأ والهفوات يرفع الدرجات:
قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾
الاعتراف بالتقصير والاعتذار من صفات الأبرار:
قَالَ تَعالَى في وَصْـفهمْ: ﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾.
إِنَّهُمْ يُخْطئُونَ ولَكِنَّهمْ يَعتَرفونَ ويَتُوبُون، ويستغفرون ويعتذرون.
يقول إسحاق الموصلي:" الاعتراف يهدم الاقتراف "، ومصداقها في التنزيل :﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾
إن هذا هوما شعر به الإمام الكبير الأحنف بن قيس - رحمه الله -، حين تذكَّر قوله تعالى:﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ﴾، فقال: "علي بالمصحف لألتمس ذكري اليوم، حتى أعلم مع من أنا ومَن أُشبه! فنشر المصحف وبدأ يقرأ وينتقل من حال إلى حال، ومن قوم إلى قوم، فإذا مر على وصف المؤمنين وعباداتهم اعترف بالتقصير، وإذا مرَّ على النار وأهلها تعوَّذ وتبرأ منهم، فلم تستوقفه آية في القرآن إلا هذه الآية: ﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾، وكأنه وقع على كنز عظيم، فقال: (اللهم هؤلاء)! بارك الله لي ولكم،،،،
الخطبة الثانية:
يا عبد الله: الاعتراف أمر حتمي إن لم يكن في الدنيا، فسيكون في الآخرة، والاعتراف بالذنوب في الدنيا، إذا اقترن بالندم والإقلاع والعزم على عدم العودة، فإنه يعتبر علامة الفوز، وتشبث بجادة النجاة، وإلا كان الاعتراف هناك مقرونًا بالويل والحسرات، مصحوبًا بالاستغاثات والزفرات، ﴿ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ﴾، فاعترافهم حينئذ لا قيمة له، وإنما هو نتيجة حتمية بعد كشف الغطاء، وبحضور الشهود والبينات، لا يظلم ربك أحدًا؛ إذ لا يدخل النار أحد إلا بعد اعترافه بذنوبه وعصيانه، وإقراره باستحقاق العذاب وخسرانه، ﴿ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾.
فأكثِر من الاستعطاف والتذلل والافتقار، والاعتراف بالعجز والإقرار، فهذا هو الطريق الذي يسلكه الأكياس المتملقون لربهم عز وجل، والله يحب من عبده أن يتملق له، "فقل بلسان الحال والمقال: اللهم لا براءة لي من ذنب فأعتذِر، ولا قوة لي فأنتصر، ولكني مذنب مستغفر".
اللهم إنَّا نعترف ونقر بخطئنا وعجزنا، وجهلنا وظلمنا، فاجعل لنا حظًّا من قولك: "أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، اعمَل ما شئت فقد غفرتُ لك"؛ أي: ما دام كلما أذنب تابَ مِن ذنبه، واستغفَر.
اللهم اجعل اعترافنا يهدِم اقترافنا، سبحانك اللهم لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.