اعتبروا من حر الصيف
أبواسلام قاسمي
1437/11/02 - 2016/08/05 21:47PM
اعتبروا من حر الصيف
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أظهر العجائب في مصنوعاته، ودل على عظمته بمخلوقاته، فأمر بالتدبر والنظر في أرضه وسماواته، أحمده سبحانه وأشكره، نعمه تترى، وفضله لا يحصى، لا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،العلي الأعلى وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أصدق عباد الله شكراً، وأعظمهم لربهم ذكراً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأتقياء، وأصحابه الأصفياء، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:معاشرَ المؤمنينَ: نُعايِشُ هذهِ الأيامَ شدةَ الحَرِّ اللافحِ، والصيفِ القائظِ، والشمسُ تزدادُ حرارةً ولهيباً ولا تسألُ عنْ حالِ الناسِ فِي هذهِ الأيامِ معَ شدةِ الحرِّ وهمْ يطلبونَ الظلَّ الظليلَ، والهواءَ العليلَ، والماءَ الباردَ السلسبيلَ؛ لذَا كانَ لا بدَّ لنَا أنْ نقفَ معَ واعظِ الصيفِ ومعَ الحرِّ ومافيه منْ عبرٍ وعظاتٍ فإن فِي تقلُّبِ الزَّمانِ مِن وَصفٍ إلَى وَصفٍ وتحوُّلٍ مِنْ حالٍ إلَى حالٍ مَا يجعلُ ذوِي البصائرِ النيِّرَةِ والعقولِ النافذةِ فِي نَظَرٍ وتفكُّرٍ واعتبارٍ وتدبُّرٍ فِي عظمةِ البارِي وسَعَةِ سُلطانهِ وقدرتهِ {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} . فِي هَذَا التقلُّبِ وذلكَ التحوُّلِ بِنظامٍ دقيقٍ دلالةٌ تسوقُفنَا إلَى شُكرِ اللهِ -جلَّ وعلَا- علَى آلائِهِ وحَمدِهِ علَى نعمائهِ { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا }.ومنَ النعمِ التِي لَا يفطنُ لهَا الكثيرُ: التفكرُ بتقلبِ الأيامِ وتغيرُ الدهورُ، حيثُ إنَّ بعضَ الدولِ كالتِي تقعُ فِي المناخِ الاستوائيِّ ممنْ لَا يتأثرونَ بالفصولِ الأربعةِ ولَا يتأثرونَ بشدةِ الحرِّ ولا ببرودةِ الشتاءِ .ربمَا لَا يتنعمونَ بنعمةِ التفكرِ والتذكرِ تلكَ. نعمْ لا بدَّ أنْ نتذكرَ أيَّ شيءٍ يذكرنَا باللهِ وبالدارِ الآخرةِ، واللهِ لقدْ غفلنَا فِي هذهِ الدنيَا، وألهتنَا كثيرًا حتَّى إنَّ بعضنَا نسيَ اللهَ واستغرقَ فِي دنياهُ علَى حسابِ آخرتهِ، ينبغِي ألَّا نملَّ أيهَا الإخوةُ منَ التذكيرِ باللهِ تعالَى، فحقهُ علينَا عظيماً وفضلهُ علينَا كبيرًا.
عبادَ اللهِ منَ الحكمِ المبثوثةِ وراءَ شدةِ الحرِّ، وشدةِّ البردِ، أنهمَا منْ جندِ اللهِ -تَعالى- يخوفُ بهمَا عبادهُ، ليتذكرُوا حرارةَ جهنمَ، وزمهريرهَا، فيتعظُوا وينزجرُوا عمَّا همْ فيهِ منْ غفلةٍ وإعراضٍ، يقولُ النبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ-: « اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهْوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ » متفقٌ عليهِ، وبينَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ - أنَّ شدةَ الحرِّ منْ فيحِ جهنمَ، تُذكَّرَ بهَا النفوسُ، ويخوفُ بهَا الناسَ، قالَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ -: «إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلاَةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» متفقٌ عليهِ.
إنَّ ما نعانيهِ اليومَ منْ وهجِ الشمسِ، وجفافٍ في المناخِ، وضيقٍ فِي التنفسِ، لَا يساوِي شيئًا أمامَ حرِّ الآخرةِ ووهجهَا، قالَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ-: «تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ، فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا» رواهُ مسلمٌ. ولئنْ كانَ حرُّ الدنيَا يُتقَّى بالملابسِ والثيابِ والبيوتِ وغيرهَا؛ فإنَّ حرَّ الآخرةِ -وهوَ أشدُّ وأفظعُ- لا يتقَى بشيءٍ منْ ذلكَ، إنمَا يتقَى بالأعمالِ الصالحةِ فقطْ.
عبدَ اللهِ استشعرْ نعمةَ اللهِ عليكَ بالحياةِ، فعندمَا يمرُّ عليكَ هذَا الموسمُ وأنتَ علَى قيدِ الحياةِ، فماذَا يعنِي هذَا؟ يعنِي انقضاءُ عامٍ كاملٍ بفصولهِ المختلفةِ، يعنِي أنَّ الموتَ قدِ اختطفَ غيركَ ممنْ هوَ أصغرُ منكَ سنًّا، وأحسنُ منكَ صحةً ونشاطًا، وأبقاكَ تتنفسُ الحياةَ، إذًا لا بدَّ أنْ نشكرَ اللهَ تعالى علَى نعمةِ الحياةِ.أحمدُ اللهَ تعالَى أنْ تمرَّ عليكَ هذهِ الأيامُ الحارةُ، وأنتَ قادرٌ علَى تجاوزهَا بمَا يسَّرَ اللهُ لكَ، منْ وسائلِ التبريدِ والتكييفِ المختلفةِ، أجهزةٌ تقلبُ الصيفَ شتاءً والشتاءَ صيفاً، وتطفئُ لهبَ الحرفِي المنزلِ والمسجدِ والسيارةِ والعملِ، ولولَا مَا أنعمَ اللهُ تعالَى علينا بهِ منْ وسائلِ التبريدِ، لكدرِ الحرِّ عيشنَا، ومنعَ نومنَا، وأرهقَ أجسادنَا، ويتذكرُ الناسَ ذلكَ جيداً لوْ طفئتِ الكهرباءُ ساعةً منْ ليلٍ أو نهارٍ.
تذكرُوا أيهَا الإخوةُ، الآباءَ والأجدادَ قبلَ نحوِ خمسينَ سنةً كيفَ كانتْ أحوالهمْ، تفكرُوا فِي معاناتهمْ وشظفِ عيشهمْ أمامَ هذهِ الموجةِ الحارةِ، ثمَّ احمدُوا اللهَ تعالَى علَى ما يسرَ لكمْ. ثمَّ لنتذكرْ أيضاً حالَ أولئكَ الفقراءِ، والمشردينَ الضعفاءِ، الذينَ يعيشونَ تحتَ لهيبِ الشمسِ، قدْ عصفتْ بهمُ الحروبُ منْ كلِّ حدبٍ وصوبٍ، أيُّ حرٍّ يقاسونَ، وأيُّ بردٍ يعانونَ، وأيُّ جرحٍ يداوونَ . فاحمدُوا اللهَ تعالَى علَى ماأنتم فيه من الأمن والنعم.
أيهَا المسلمونَ: إِنَّ سَقْيَ الْعَطْشَانِ مِنْ خَيْرِ الْأَعْمَالِ، وَصَدَقَةَ المَاءِ مِنْ أَفْضَلِ الصَّدَقَاتِ، سواءٌ بحفرِ الآبارِ فِي المناطقِ الفقيرةِ الحارةِ، أوْ تسبيلِ البراداتِ فِي المساجدِ والأسواقِ وطرقِ الناسِ، أو توفيرِ المياهِ الباردةِ، ولا سيمَا لمنْ يحتاجونهُ كالعمالِ والمتسوقينَ ونحوهمْ؛ فإنَّ صدقةَ الماءِ منْ أعظمِ الصدقاتِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: «الْمَاءُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ: «أَنَّ سَعْدًا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَلَمْ تُوصِ أَفَيَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَعَلَيْكَ بِالْمَاءِ». وَكَانَتْ بِئْرُ رُومَةَ لِيَهُودِيٍّ يَبِيعُ مَاءَهَا لِلْمُسْلِمِينَ، كُلَّ قِرْبَةٍ بِدِرْهَمٍ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى المُسْلِمِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ يشْتَرِي رُومَةَ فَيَجْعَلُ دَلْوَهُ فِيهَا كَدِلاءِ الْمُسْلِمِينَ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ؟» فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَأَوْقَفَهَا عَلَى المُسْلِمِينَ.
نسألُ اللهَ -عزَّ وجلَّ- أنْ يوقظَ قلوبنَا وأنْ يصلحَ نفوسنَا، وأنْ يجعلنا منْ عبادهِ المعتبرينَ المتبصرينَ، وأنْ يفقهنَا في دينهِ وأنْ يرزقنَا البصيرةَ بشرعِهِ وأنْ يأخذَ بنواصينَا إلى كلِّ خيرٍ، أقولُ مَا تسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ لِي ولكمْ ولسائرِ المسلمينَ منْ كلِّ ذنبٍ فاستغفروهُ يغفرْ لكمْ، إنهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبةُ الثانيةُ:
الْحَمْدُ لِلهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى،
عبادَ اللهِ: إنَّ الحرَّ ليسَ عائقاً عنْ عبادةِ اللهِ، ولَا صادًّا عنْ طاعتهِ، فالصفوةُ منْ عبادِ اللهِ يرونَ أنَّ فِي الحرِّ غنيمةً لا تفوتُ، فصيامُ الهواجرِ، ومكابدةُ الجوعِ والعطشِ فِي يومٍ شديدٍ حرُّهُ، بعيدٍ مَا بينَ طرفيهِ، ذاكَ دَأَبُ الصالحينَ، وسنةُ السابقينَ.لما مرضَ معاذُ بنُ جبلٍ -رضيَ اللهُ عنهُ- مَرَضَ وفاتهِ قالَ فِي الليلةِ التِي تُوفيَ فيهَا: أعوذُ باللهِ منْ ليلةٍ صباحهَا إلَى النارِ، مرحبًا بالموتِ، حبيبًا جاءَ علَى فاقةٍ، اللهمَّ إنِّي كنتُ أخافكَ وأنَا اليومَ أرجوكَ، اللهمَّ إنكَ تعلمُ أنِّي لمْ أكنْ أحبُّ البقاءَ فِي الدنيَا لجَرْيِ الأنهارِ، ولا لغرسِ الأشجارِ؛ ولكنْ لظمأِ الهواجرِ، ومكابدةِ الليلِ، ومزاحمةِ العلماءِ بالركبِ عندَ حِلَقِ الذكرِ. لمْ يتأسفْ -رضيَ اللهُ عنهُ- علَى مالٍ ولَا ولدٍ، ولمْ يبكِ علَى فراقِ نعيمِ الدنيَا، ولكنهُ تأسفَ علَى قيامِ الليلِ، ومزاحمةِ العلماءِ بالركبِ، وعلَى ظمأِ الهواجرِ بالصيامِ فِي أيامِ الحرِّ الشديدِ!..
واعلمُوا عبادَ اللهِ أنَّ شدةَ الحرِّ ليستْ عذراً فِي التكاسلِ عنْ واجبٍ، ولَا فِي الوقوعِ فِي محرمٍ، بلْ ولَا فِي التهاونِ والتخلفِ عنْ مستحبٍّ، ومنْ ذلكَ مَا قدْ يلحقُ بعضَ النفوسِ منْ فتورٍ ورغبةٍ عنِ الخيرِ بسببِ شدةِ الحرِّ. والأجرُ علَى قدرِ النصبِ والتعبِ. فحصولُ المشقةِ وحصولُ النصبِ فيهِ زيادةٌُ فِي الأجرِ وفيهِ الثوابُ العظيمُ منَ اللهِ -سبحانهُ وتعالى.
واعلموا عباد الله أنه يسنُّ للمسلمِ أنْ يغتسلَ إنْ أصابهُ العرقُ، حتى لَا يؤذيَ إخوانهُ برائحتهِ ويؤذِي الملائكةَ، فإنَّ الملائكةَ تتأذَّى مما يتأذَّى منهُ بنُو آدمَ، قالَ الإمامُ الشافعيُّ -رحمهُ اللهُ- وأستحبُّ الغسلَ عندَ تغيرِ البدنِ بالعرقِ وغيرهِ تنظيفًا للبدنِ.
ومنْ شكرَ اللهَ تَعالى عَلى هذهِ النعمةِ رحمةً من يعملونَ فِي الشمسِ الحارقةِ، ومواساتهمْ، وتلمسِ مَا يخففُ ذلكَ عنهمْ، وتفعيلُ الأنظمةِ الصادرةِ بهذَا الشأنِ؛ لأنَّ في تعرضهمْ للشمسِ ضررًا كبيرًا عليهمْ، فواجبٌ علَى من لديهِ عمالةٌ تخصهُ أو يديرهَا فِي شركةٍ أو مؤسسةٍ أوْ مزرعةٍ أنْ يراعيَ ذلكَ، وأنْ يتقيَ اللهَ تعالى فِي هؤلاءِ الضعفاءِ الذِين اضطرتهمُ الحاجةُ إلَى العملِ في كلِّ وقتٍ، وأنْ يخففَ عنهمْ فِي شدةِ الحرِّ، بسقيهمْ، وتظليلِ أماكنِ عملهمْ، وتقليلِ ساعاتِ تعرضهمْ للشمسِ التِي قدْ تهلكَ الواحدَ منهمْ.
وممَّا يوصَى بهَا فِي هذَا الأيامِ توقِّي الشمسَ في ظلِّ الارتفاعِ الكبيرِ لدرجاتِ الحرارةِ، فإنَّ الأطباءَ يحذرونَ منَ التعرضِ لأشعتهَا فتراتٍ طويلةٍ مما يؤدِّي إلَى مخاطرٍ صحيةٍ كبيرةٍ،خصوصاً أصحابَ الأمراضِ المزمنةِ كالسكريِّ والضغطِ والقلبِ، ونحوهمْ.
والاقتصادُ فِي استخدامِ الكهرباءِ حتَّى لَا يكثرَ أعطالهُ وكذَا الاقتصادُ في الماءِ، ولوْ كانَ أحدنَا علَى شاطئِ نَهْرٍ جَارٍ.
هذا وصلوا وسلموا ياعباد الله على خير خلق الله ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أظهر العجائب في مصنوعاته، ودل على عظمته بمخلوقاته، فأمر بالتدبر والنظر في أرضه وسماواته، أحمده سبحانه وأشكره، نعمه تترى، وفضله لا يحصى، لا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،العلي الأعلى وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أصدق عباد الله شكراً، وأعظمهم لربهم ذكراً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأتقياء، وأصحابه الأصفياء، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:معاشرَ المؤمنينَ: نُعايِشُ هذهِ الأيامَ شدةَ الحَرِّ اللافحِ، والصيفِ القائظِ، والشمسُ تزدادُ حرارةً ولهيباً ولا تسألُ عنْ حالِ الناسِ فِي هذهِ الأيامِ معَ شدةِ الحرِّ وهمْ يطلبونَ الظلَّ الظليلَ، والهواءَ العليلَ، والماءَ الباردَ السلسبيلَ؛ لذَا كانَ لا بدَّ لنَا أنْ نقفَ معَ واعظِ الصيفِ ومعَ الحرِّ ومافيه منْ عبرٍ وعظاتٍ فإن فِي تقلُّبِ الزَّمانِ مِن وَصفٍ إلَى وَصفٍ وتحوُّلٍ مِنْ حالٍ إلَى حالٍ مَا يجعلُ ذوِي البصائرِ النيِّرَةِ والعقولِ النافذةِ فِي نَظَرٍ وتفكُّرٍ واعتبارٍ وتدبُّرٍ فِي عظمةِ البارِي وسَعَةِ سُلطانهِ وقدرتهِ {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} . فِي هَذَا التقلُّبِ وذلكَ التحوُّلِ بِنظامٍ دقيقٍ دلالةٌ تسوقُفنَا إلَى شُكرِ اللهِ -جلَّ وعلَا- علَى آلائِهِ وحَمدِهِ علَى نعمائهِ { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا }.ومنَ النعمِ التِي لَا يفطنُ لهَا الكثيرُ: التفكرُ بتقلبِ الأيامِ وتغيرُ الدهورُ، حيثُ إنَّ بعضَ الدولِ كالتِي تقعُ فِي المناخِ الاستوائيِّ ممنْ لَا يتأثرونَ بالفصولِ الأربعةِ ولَا يتأثرونَ بشدةِ الحرِّ ولا ببرودةِ الشتاءِ .ربمَا لَا يتنعمونَ بنعمةِ التفكرِ والتذكرِ تلكَ. نعمْ لا بدَّ أنْ نتذكرَ أيَّ شيءٍ يذكرنَا باللهِ وبالدارِ الآخرةِ، واللهِ لقدْ غفلنَا فِي هذهِ الدنيَا، وألهتنَا كثيرًا حتَّى إنَّ بعضنَا نسيَ اللهَ واستغرقَ فِي دنياهُ علَى حسابِ آخرتهِ، ينبغِي ألَّا نملَّ أيهَا الإخوةُ منَ التذكيرِ باللهِ تعالَى، فحقهُ علينَا عظيماً وفضلهُ علينَا كبيرًا.
عبادَ اللهِ منَ الحكمِ المبثوثةِ وراءَ شدةِ الحرِّ، وشدةِّ البردِ، أنهمَا منْ جندِ اللهِ -تَعالى- يخوفُ بهمَا عبادهُ، ليتذكرُوا حرارةَ جهنمَ، وزمهريرهَا، فيتعظُوا وينزجرُوا عمَّا همْ فيهِ منْ غفلةٍ وإعراضٍ، يقولُ النبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ-: « اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهْوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ » متفقٌ عليهِ، وبينَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ - أنَّ شدةَ الحرِّ منْ فيحِ جهنمَ، تُذكَّرَ بهَا النفوسُ، ويخوفُ بهَا الناسَ، قالَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ -: «إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلاَةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» متفقٌ عليهِ.
إنَّ ما نعانيهِ اليومَ منْ وهجِ الشمسِ، وجفافٍ في المناخِ، وضيقٍ فِي التنفسِ، لَا يساوِي شيئًا أمامَ حرِّ الآخرةِ ووهجهَا، قالَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ-: «تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ، فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا» رواهُ مسلمٌ. ولئنْ كانَ حرُّ الدنيَا يُتقَّى بالملابسِ والثيابِ والبيوتِ وغيرهَا؛ فإنَّ حرَّ الآخرةِ -وهوَ أشدُّ وأفظعُ- لا يتقَى بشيءٍ منْ ذلكَ، إنمَا يتقَى بالأعمالِ الصالحةِ فقطْ.
عبدَ اللهِ استشعرْ نعمةَ اللهِ عليكَ بالحياةِ، فعندمَا يمرُّ عليكَ هذَا الموسمُ وأنتَ علَى قيدِ الحياةِ، فماذَا يعنِي هذَا؟ يعنِي انقضاءُ عامٍ كاملٍ بفصولهِ المختلفةِ، يعنِي أنَّ الموتَ قدِ اختطفَ غيركَ ممنْ هوَ أصغرُ منكَ سنًّا، وأحسنُ منكَ صحةً ونشاطًا، وأبقاكَ تتنفسُ الحياةَ، إذًا لا بدَّ أنْ نشكرَ اللهَ تعالى علَى نعمةِ الحياةِ.أحمدُ اللهَ تعالَى أنْ تمرَّ عليكَ هذهِ الأيامُ الحارةُ، وأنتَ قادرٌ علَى تجاوزهَا بمَا يسَّرَ اللهُ لكَ، منْ وسائلِ التبريدِ والتكييفِ المختلفةِ، أجهزةٌ تقلبُ الصيفَ شتاءً والشتاءَ صيفاً، وتطفئُ لهبَ الحرفِي المنزلِ والمسجدِ والسيارةِ والعملِ، ولولَا مَا أنعمَ اللهُ تعالَى علينا بهِ منْ وسائلِ التبريدِ، لكدرِ الحرِّ عيشنَا، ومنعَ نومنَا، وأرهقَ أجسادنَا، ويتذكرُ الناسَ ذلكَ جيداً لوْ طفئتِ الكهرباءُ ساعةً منْ ليلٍ أو نهارٍ.
تذكرُوا أيهَا الإخوةُ، الآباءَ والأجدادَ قبلَ نحوِ خمسينَ سنةً كيفَ كانتْ أحوالهمْ، تفكرُوا فِي معاناتهمْ وشظفِ عيشهمْ أمامَ هذهِ الموجةِ الحارةِ، ثمَّ احمدُوا اللهَ تعالَى علَى ما يسرَ لكمْ. ثمَّ لنتذكرْ أيضاً حالَ أولئكَ الفقراءِ، والمشردينَ الضعفاءِ، الذينَ يعيشونَ تحتَ لهيبِ الشمسِ، قدْ عصفتْ بهمُ الحروبُ منْ كلِّ حدبٍ وصوبٍ، أيُّ حرٍّ يقاسونَ، وأيُّ بردٍ يعانونَ، وأيُّ جرحٍ يداوونَ . فاحمدُوا اللهَ تعالَى علَى ماأنتم فيه من الأمن والنعم.
أيهَا المسلمونَ: إِنَّ سَقْيَ الْعَطْشَانِ مِنْ خَيْرِ الْأَعْمَالِ، وَصَدَقَةَ المَاءِ مِنْ أَفْضَلِ الصَّدَقَاتِ، سواءٌ بحفرِ الآبارِ فِي المناطقِ الفقيرةِ الحارةِ، أوْ تسبيلِ البراداتِ فِي المساجدِ والأسواقِ وطرقِ الناسِ، أو توفيرِ المياهِ الباردةِ، ولا سيمَا لمنْ يحتاجونهُ كالعمالِ والمتسوقينَ ونحوهمْ؛ فإنَّ صدقةَ الماءِ منْ أعظمِ الصدقاتِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: «الْمَاءُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ: «أَنَّ سَعْدًا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَلَمْ تُوصِ أَفَيَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَعَلَيْكَ بِالْمَاءِ». وَكَانَتْ بِئْرُ رُومَةَ لِيَهُودِيٍّ يَبِيعُ مَاءَهَا لِلْمُسْلِمِينَ، كُلَّ قِرْبَةٍ بِدِرْهَمٍ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى المُسْلِمِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ يشْتَرِي رُومَةَ فَيَجْعَلُ دَلْوَهُ فِيهَا كَدِلاءِ الْمُسْلِمِينَ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ؟» فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَأَوْقَفَهَا عَلَى المُسْلِمِينَ.
نسألُ اللهَ -عزَّ وجلَّ- أنْ يوقظَ قلوبنَا وأنْ يصلحَ نفوسنَا، وأنْ يجعلنا منْ عبادهِ المعتبرينَ المتبصرينَ، وأنْ يفقهنَا في دينهِ وأنْ يرزقنَا البصيرةَ بشرعِهِ وأنْ يأخذَ بنواصينَا إلى كلِّ خيرٍ، أقولُ مَا تسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ لِي ولكمْ ولسائرِ المسلمينَ منْ كلِّ ذنبٍ فاستغفروهُ يغفرْ لكمْ، إنهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبةُ الثانيةُ:
الْحَمْدُ لِلهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى،
عبادَ اللهِ: إنَّ الحرَّ ليسَ عائقاً عنْ عبادةِ اللهِ، ولَا صادًّا عنْ طاعتهِ، فالصفوةُ منْ عبادِ اللهِ يرونَ أنَّ فِي الحرِّ غنيمةً لا تفوتُ، فصيامُ الهواجرِ، ومكابدةُ الجوعِ والعطشِ فِي يومٍ شديدٍ حرُّهُ، بعيدٍ مَا بينَ طرفيهِ، ذاكَ دَأَبُ الصالحينَ، وسنةُ السابقينَ.لما مرضَ معاذُ بنُ جبلٍ -رضيَ اللهُ عنهُ- مَرَضَ وفاتهِ قالَ فِي الليلةِ التِي تُوفيَ فيهَا: أعوذُ باللهِ منْ ليلةٍ صباحهَا إلَى النارِ، مرحبًا بالموتِ، حبيبًا جاءَ علَى فاقةٍ، اللهمَّ إنِّي كنتُ أخافكَ وأنَا اليومَ أرجوكَ، اللهمَّ إنكَ تعلمُ أنِّي لمْ أكنْ أحبُّ البقاءَ فِي الدنيَا لجَرْيِ الأنهارِ، ولا لغرسِ الأشجارِ؛ ولكنْ لظمأِ الهواجرِ، ومكابدةِ الليلِ، ومزاحمةِ العلماءِ بالركبِ عندَ حِلَقِ الذكرِ. لمْ يتأسفْ -رضيَ اللهُ عنهُ- علَى مالٍ ولَا ولدٍ، ولمْ يبكِ علَى فراقِ نعيمِ الدنيَا، ولكنهُ تأسفَ علَى قيامِ الليلِ، ومزاحمةِ العلماءِ بالركبِ، وعلَى ظمأِ الهواجرِ بالصيامِ فِي أيامِ الحرِّ الشديدِ!..
واعلمُوا عبادَ اللهِ أنَّ شدةَ الحرِّ ليستْ عذراً فِي التكاسلِ عنْ واجبٍ، ولَا فِي الوقوعِ فِي محرمٍ، بلْ ولَا فِي التهاونِ والتخلفِ عنْ مستحبٍّ، ومنْ ذلكَ مَا قدْ يلحقُ بعضَ النفوسِ منْ فتورٍ ورغبةٍ عنِ الخيرِ بسببِ شدةِ الحرِّ. والأجرُ علَى قدرِ النصبِ والتعبِ. فحصولُ المشقةِ وحصولُ النصبِ فيهِ زيادةٌُ فِي الأجرِ وفيهِ الثوابُ العظيمُ منَ اللهِ -سبحانهُ وتعالى.
واعلموا عباد الله أنه يسنُّ للمسلمِ أنْ يغتسلَ إنْ أصابهُ العرقُ، حتى لَا يؤذيَ إخوانهُ برائحتهِ ويؤذِي الملائكةَ، فإنَّ الملائكةَ تتأذَّى مما يتأذَّى منهُ بنُو آدمَ، قالَ الإمامُ الشافعيُّ -رحمهُ اللهُ- وأستحبُّ الغسلَ عندَ تغيرِ البدنِ بالعرقِ وغيرهِ تنظيفًا للبدنِ.
ومنْ شكرَ اللهَ تَعالى عَلى هذهِ النعمةِ رحمةً من يعملونَ فِي الشمسِ الحارقةِ، ومواساتهمْ، وتلمسِ مَا يخففُ ذلكَ عنهمْ، وتفعيلُ الأنظمةِ الصادرةِ بهذَا الشأنِ؛ لأنَّ في تعرضهمْ للشمسِ ضررًا كبيرًا عليهمْ، فواجبٌ علَى من لديهِ عمالةٌ تخصهُ أو يديرهَا فِي شركةٍ أو مؤسسةٍ أوْ مزرعةٍ أنْ يراعيَ ذلكَ، وأنْ يتقيَ اللهَ تعالى فِي هؤلاءِ الضعفاءِ الذِين اضطرتهمُ الحاجةُ إلَى العملِ في كلِّ وقتٍ، وأنْ يخففَ عنهمْ فِي شدةِ الحرِّ، بسقيهمْ، وتظليلِ أماكنِ عملهمْ، وتقليلِ ساعاتِ تعرضهمْ للشمسِ التِي قدْ تهلكَ الواحدَ منهمْ.
وممَّا يوصَى بهَا فِي هذَا الأيامِ توقِّي الشمسَ في ظلِّ الارتفاعِ الكبيرِ لدرجاتِ الحرارةِ، فإنَّ الأطباءَ يحذرونَ منَ التعرضِ لأشعتهَا فتراتٍ طويلةٍ مما يؤدِّي إلَى مخاطرٍ صحيةٍ كبيرةٍ،خصوصاً أصحابَ الأمراضِ المزمنةِ كالسكريِّ والضغطِ والقلبِ، ونحوهمْ.
والاقتصادُ فِي استخدامِ الكهرباءِ حتَّى لَا يكثرَ أعطالهُ وكذَا الاقتصادُ في الماءِ، ولوْ كانَ أحدنَا علَى شاطئِ نَهْرٍ جَارٍ.
هذا وصلوا وسلموا ياعباد الله على خير خلق الله ...