اظْفَرْ بِالثُّلُثِ تَغْنَمْ ( الجمعة1442/2/15هـ )
يوسف العوض
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : بعضُ النَّاس لَا يَرَى فِي الْحَيَاةِ إلَّا الجِدَّ المُرْهِقَ ، والعَملَ المُتواصِلَ ، وَآخَرُون يَرَوْنَها فُرصةً للمُتْعةِ الْمُطْلَقَةِ وَالشَّهْوَةِ المتحرِّرةِ وَكِلَاهُمَا فَاتَه الصَّوَابُ ، فَكِلَا طَرَفَي قَصَدِ الْأُمُور ذَمِيمٌ ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا ، وَلَيْسَ شَيْءٌ أَحْسَنَ مِنْ التَّوازُنِ وهذا مُتمثلٌ في حَيَاتِهِ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ، فعن أَبي جُحَيْفَةَ قال: آخى النَّبِيُّ صلَّى الله عليْه وسلَّم بَينَ سَلمَانَ وأبي الدَّرْداءِ، فَزَارَ سَلمَانُ أبَا الدَّرْدَاءِ، فرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً فقَال لهَا: ما شَأْنُكِ؟ قالتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ له حَاجَةٌ في الدُّنْيَا، فجَاءَ أبُو الدَّرْدَاءِ، فصَنَعَ له طَعامًا، فقَالَ: كُلْ قالَ: فَإنِّي صَائِمٌ، قَالَ: ما أَنَا بآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قالَ: فَأَكَلَ، فلَمَّا كانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ فنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ من آخِرِ اللَّيْلِ، قالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: (إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ) فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فقَالَ النَّبِيُّ صلَّى الله عليْه وسلَّم: صَدَقَ سَلْمَانُ ) رواه البُخاريُّ .
وفي القِيامِ والتَهجُّدِ جاءَ الثُّلُثُ في حديثِ عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضى الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ : ( أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ ، وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا ) روى البُخاريُّ ومُسلم ٌ
وجاءَ الثُّلُثُ في الوصيةِ والصَّدقةِ من حديثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله تعالى عنه قَالَ: ( قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ؟ قَالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي ولكُم فِي الْقُرْآنِ والسنَّة ، وَنَفَعَنَا بِمَا فيهِما مِنْ الْآيَاتِ وَالْحِكْمَة .
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ الأَمينِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ محمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : وفي الجِهَادِ والمَلاحِمِ كان الثُّلُثُ حَاضِراً كَما في حَديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ : ( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالْأَعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقٍ ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنَ الْمَدِينَةِ ، مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ ،فَإِذَا تَصَافُّوا قَالَتِ الرُّومُ : خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ ، فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ : لَا وَاللهِ لَا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا فَيُقَاتِلُونَهُمْ ، فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لَا يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا، وَيُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ ، أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللهِ ، وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ ، لَا يُفْتَنُونَ أَبَدًا فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ ، قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ ، إِذْ صَاحَ فِيهِمِ الشَّيْطَانُ: إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَفَكُمْ فِي أَهْلِيكُمْ، فَيَخْرُجُونَ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَإِذَا جَاءُوا الشَّأْمَ خَرَجَ فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ، يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ ، إِذْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّهُمْ، فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللهِ ، ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ ، فَلَوْ تَرَكَهُ لَانْذَابَ حَتَّى يَهْلِكَ وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللهُ بِيَدِهِ،فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِهِ ) رواه مُسلمٌ
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : الخُلاصَةُ سَعيُ الواحدِ منَّا إلى التوازنِ في حياتهِ الذي يَضْبِطُ فَضَائَلَه وَيَحْفَظُهَا مِنْ أَنَّ تَتَحَوَّلَ إلَى رَذَائِلَ ، فَهُوَ كَرِيمٌ كَرْمًا لَا يَصِلُ إلَى حَدِّ التَّبْذِير ، وشُجَاعٌ شَجَاعَةً لَا تَصِلُ إلَى حَدِّ التَّهَوُّر ، وجَرْيْءٌ جُرْأَةً لَا تَبْلُغُ بِهِ حَدُّ الْوَقَاحَةِ ، وحَذَِرٌ لَكِنَّه حَذَراً لَا يَصِلُ إلَى الْخَوَرِ وَالْخَوْفِ وَالْجُبْنِ ، مُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكُّلًا لَا يَصِلُ إلَى حَدِّ الْإِهْمَال والدَروشةِ والتَواكلِ وَتَركِ الْأَسْبَابِ ، مُقْبِلٌ عَلَى الْآخِرَةِ إقْبَالًا لَا يُنْسِيه الدُّنْيَا وَلَا يَمْنَعُهُ عَنْ طَلَبِ رِزْقِهِ وَتَحْسِينِ أَوْضَاعِه الْمَعيشِيَّةِ وكَمَا قالَ رَبي في عُلاه : ( وَابْتَغ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَك مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسَن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْك ) .
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ .
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق