استووا ولا تختلفوا

 

 

استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم

 

أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان

لا تختلفوا فتختلف قلوبكم

ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها

 

بهذه العبارات العذبة كان النبي صلى الله عليه وسلم يوجه أصحابه الكرام رضوان الله عليهم قبل أن يكبر للصلاة فتنساب على أرواح الصحابة كماء المطر الطهور يلامس الأرض الطيبة النقية .

 

معاشر المؤمنين ..

إن تسوية الصفوف في الصلاة كما هو واجب شرعي وهدي نبوي ... هو كذلك شعار لوحدة الأمة،ودليل على تقارب قلوب أهل الحق، تقارب الأجساد دليل على تقارب القلوب والأرواح.

ولعمري ذاك من أسمى أهداف الشريعة وأعظم معالم الهدى وسنن الرشاد التى جاء بها نبينا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم .

 

والله جل وعلا يحب صف الأمة الواحد المتراص المتماسك الذي غدا للناظر كالبنيان المرصوص في جهاد الأعداء وغيره من  شعائر الإسلام (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ)

 

لقد عنيت الشريعة الغراء بأمر الصلاة وإقامتها على وجه الحسن التام والكمال والتمام في أركانها وواجباتها وسننها.

 

ولك أن تتأمل في الأمر بالصلاة كيف جاء ( اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ )

( أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيْلِ)

(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ ۚ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ)

 

تأمل أن الإمر جاء بلفظ(أقم) ولم يأتِ في القرآن بلفظ (صلوا) مجرداً ...

وإقامة الشيء في لغة العرب تعني حافظ عليه ورعاه، فالمقصود إقامة الصلاة بأفعالها، وركوعها، وسجودها، وخشوعها، والتذلل بين يدي الله فيها .

 

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (صلُّوا كما رأيتُموني أُصلِّي) رواه البخاري.

 

تماماً كما كان يصلي دون زيادة أو نقصان، بغير اختيار منا، بل نقيم الصلاة على الكيفية التي نقلها لنا صحابة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حذو القذة بالقذة لا نبدل ولا نغير،ولقد كان نقل الصحابة رضوان الله عليهم لصلاته صلى الله عليه وسلم نقلاً دقيقاً لا يغادر صغيراً ولا كبيراً، حتى نقلوا لنا كيف كان يقف ويركع ويسجد ويجلس بين السجدتين، متى كان يرفع يديه للتكبير، وأين يضع يديه حال قيامه وركوعه وسجوده، وكيف كانت تلاوته وتسبيحه ودعواته وما حال أصبعه في تشهده وكيف كان يسلم .... وصفاً دقيقاً مفصلاً عميقاً فجزاهم الله عنا خير ما جزى معلماً وداعياً وناصحاً .

 

 وبعد مرور جائحة كورونا ورحمة الله بنا بتخفيف آثارها،عادت الحياة إلى طبيعتها والأمور إلى سابق عهدها، ومن أولى وأول ما يعود في حياة المؤمن خاصة ومجتمع المسلمين عامة تعاهد أمر الصلاة وإقامة صفوفها تسوية وتراصاً وسداً للخلل .

 

ومع هذا الأمر العظيم وقفات  :

 

الوقفة الأولى :

إن نصوص الأمر بتسوية الصفوف التي سبق ذكرها واضحة في وجوبه , قال البخاري رحمه الله في صحيحه : ( باب إثم من لا يتم الصفوف ) , وأورد فيه بسنده عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَقِيلَ لَهُ : مَا أَنْكَرْتَ مِنَّا مُنْذُ يَوْمِ عَهِدْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : ( مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا إِلا أَنَّكُمْ لا تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ ) رواه البخاري

فهذا أنس رضي الله عنه ينكر تركهم إقامة الصفوف في الصلاة وإنما أنكر عليهم لتركهم واجباً.

 

الوقفة الثانية:

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :

 

" وتسوية الصَّفِّ تكون بالتساوي ، بحيث لا يتقدَّم أحدٌ على أحد ، والمعتبر المناكب في أعلى البَدَن ، والأكعُب في أسفل البَدَن. وأما أطراف الأرجُل فليست بمعتبرة ؛ وذلك لأن أطراف الأرجُلِ تختلف.

 

الوقفة الثالثة:

قال سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى:

 الواجب على المسلمين في الصفوف التراص والتقارب ولا يجوز ترك الفرج؛ لقول النبي ﷺ: (تراصوا) فوجب على المسلمين الامتثال وأن يسدوا الفرج ويتراصوا، فيلزق قدمه بقدم جاره ويتقاربون جميعًا حتى لا يكون بينهم فرج، فيستقيم المصلي في وقفته ويقرب الذي عن يمينه وعن شماله حتى يسدوا الفرجة برفق وحكمة دون أن يكون هناك شقاق ونزاع، وتحصل السنة التي دعا إليها النبي عليه الصلاة والسلام. انتهى كلامه رحمه الله.

والأمر بالتراص وتسوية الصف كما هو واجب على الإمام فهو واجب على كل مصلٍ أن يجتهد ويبذل وسعه في تطبيق هذه العبادة العظيمة سواءً قام الإمام بواجبه أو قصر .

الوقفة الرابعة:

من تمام الصلاة إكمالَ الصف الأول فالأول ، فإنَّ هذا مِن استواءِ الصُّفوف ، فلا يُشرع في الصَّفِّ الثاني حتى يَكمُلَ الصَّفُّ الأول ،  وهكذا.

 

ومِنْ لَعِبِ الشيطان بكثير من الناس اليوم : أنهم يرون الصفَّ الأول ليس فيه إلا نصفُه ، ومع ذلك يشرعون في الصفِّ الثاني ، ثم إذا أُقيمت الصلاة ، وقيل لهم : أتمُّوا الصفَّ الأول ، جعلوا يتلفَّتون مندهشين !!

وإنما أُمروا بهذا طاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم فليستجيبوا وليسارعوا وحالهم (سمعنا وأطعنا).

 

الوقفة الخامسة:

ومِن تسوية الصُّفوفِ وكمالها : أن يدنوَ الإِنسانُ مِن الإِمامِ ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لِيَلِنِي منكم أولُو الأحْلامِ والنُّهَى ) وكلَّما كان أقربَ كان أَولى ، ولهذا جاء الحثُّ على الدُّنوِّ مِن الإِمام في صلاة الجُمعة.

 

الوقفة السادسة:

 

في الحديث (والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم)

 

قَالَ النَّوَوِيّ : مَعْنَاهُ يُوقِع بَيْنكُمْ الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاء وَاخْتِلَاف الْقُلُوب , كَمَا تَقُول تَغَيَّرَ وَجْه فُلَان عَلَيَّ أَيْ ظَهَرَ لِي مِنْ وَجْهه كَرَاهَته لِي , لِأَنَّ مُخَالَفَتهمْ فِي الصُّفُوف مُخَالَفَة فِي ظَوَاهِرهمْ , وَاخْتِلَاف الظَّوَاهِر سَبَب لِاخْتِلَافِ الْبَوَاطِن.

والشرع جاء بالاجتماع والنهي عن الفرقة والتناحر.

ومن لذيذ التعبد لله في الاستجابة لأمره بتسوية الصفوف وتراصها شعور المؤمن أن هذا من أسباب تقارب القلوب وصدق الإخاء والمحبة بين المسلمين، وأن تركه والتهاون به سبب للتناحر والشقاق والفرقة عياذاً بالله .

المشاهدات 468 | التعليقات 0