استقبال رمضان
شبيب القحطاني
1433/08/22 - 2012/07/12 08:24AM
الخطبة الأولى:إن الحمد لله،نحمده ونستعينه ونستغفره،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا،من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له،ومن يُضلِل فلا هادي له،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله،صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.أمَّا بعد:فاتقوا اللهَ عبادَ الله حقَّ التقوى،واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.أيّها المسلِمون،تذهبُ اللَّيالي والأيّام سِراعًا،والعامُ يطوِي شهورَه تِباعًا،والله أكرمَ عبادَه فشرعَ لهم مواسِمَ في الدَّهر تُغفَر فيه الذنوبُ والخطِيئات،ويُتَزوَّد فيها من الأعمالِ الصالحات،وفي العامِ شهرٌ هوَ خيرُ الشهور،بعثَ الله فيه رسولَه وأنزل فيه كتابَه،يَرتقِبُه المسلِمون في كلِّ حولٍ وفي نفوسِهم له بهجَة،يُؤدُّون فِيهِ رُكنًا من أركان الإسلام يُفعَل خالِصًا،ويتلذَّذ فيه المسلم جائعًا،يُحقِّق العبدُ فيه معنى الإخلاصِ لينطلقَ به إلى سائرِ العبادات بعيدًا عن الرّياء،ثوابُ صومِه لا حدَّ له من المُضاعفة،بل ذلك إلى الكريم،قال عليه الصلاة والسلام"قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِى بِهِ"متفق عليه.الصيامُ يُصلِح النفوس،ويَدفعُ إلى اكتساب المحامد والبُعد عن المفاسد،به تُغفَر الذنوب وتُكفَّر السيئات،قال "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"متفق عليه.شهرُ الطاعةِ والإحسانِ والمغفرَةِ والرّضوان،قال النبي "إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ"متفق عليه.لياليه مُباركةٌ،فيه ليلةٌ مُضاعَفَةٌ هي أمّ الليالي:ليلة القدر والشرف خيرٌ من ألف شهر،من قامها إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه.فيه صبرٌ على حمأة الظمَأ ومرارةِ الجوعِ ومُجاهدة النفس في زجرِ الهوى،جَزاؤهم بابٌ من أَبواب الجنة لا يدخُلُه غيرُهم،فيه تذكيرٌ بحالِ الجوعَى من المساكِين والمُقتِرين،يَستَوي فيه المُعدِم والمُوسِر،كلُّهم صائِمٌ لربه مُستغفِرٌ لذنبه،يُمسِكون عن الطعام في زمنٍ واحدٍ ويُفطِرون في وقتٍ واحد،يتساوَوْن طيلةَ نهارهم بالجوع والظمأ؛ليتحقَّق قولُ الله في الجميع إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ والقرآنُ العَظيمُ أصلُ الدِّين وآيةُ الرِّسالة نزَلَ في أفضلِ الشّهور إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ونزولُه فيه إيماءٌ لهذه الأمة بالإكثار من تلاوتِه وتدبُّره،وكانَ جبريل عليه السلام ينزل من السماء ويُدارِسُ فيه نبيَّنا محمَّدًا كاملَ القرآن،وفي العامِ الّذي تُوفِّي فيه عرضَ عليه القرآنَ مرّتين.وكان الإمام مالك رحمه الله إذا دخل رمضان أقبلَ على تلاوة القرآن وتركَ الحديثَ وأهلَه.وللصّدقة نفعٌ كبيرٌ في الدّنيا والآخرة؛فهي تَدفَع البلاء،وتُيسِّر الأمور،وتجلِبُ الرّزقَ،وتُطفِئُ الذّنوب كما يُطفِئُ الماءُ النارَ،وهي ظلٌّ لصاحِبِها يوم القيامَة.والمالُ لا ينقُص بالصدقة؛بل هو قرضٌ حسنٌ مضمونٌ عند الغنيّ الكريم وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ يُضاعفُه في الدنيا بركةً ونقاءً،ويُجازيه في الآخرة نعيمًا مُقيمًا،قال "مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الْآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا"متفق عليه.فتحسَّس دورَ الفقراء والمساكين ومساكنَ الأراملِ والأيتام والجيران،ففي ذلك تَفريجُ كُربةٍ لك ودفع بلاءٍ عنك،وإشباعٌ لجائعٍ وفرحةٌ لِصَغير،وإعفافٌ لأُسرةٍ وإغناءٌ عن السّؤال،والنبيُّ كان أكرمَ الناس وأجودَهم،إن أنفقَ أجزلَ،وإن منحَ أغدَقَ،وإن أعطَى أَعطى عطاءَ من لا يخشى الفاقَة،وكان يستَقبلُ رمضان بِفَيضٍ من الجُود،ويكون أجودَ بالخير من الريحِ المُرسَلة.والمالُ لا يُبقِيه حرصٌ وشُحٌّ،ولا يُذهِبُه بذلٌ وإنفاق.ولَيَالي رَمَضَان تاجُ ليالي العام،قال عليه الصلاة والسلام"أَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ صَّلاَةُ اللَّيْلِ"رواه مسلم.ومَن صلَّى مَعَ الإمامِ حتى ينصَرفَ كُتِب له قيامُ ليلة،وفي كلِّ ليلةٍ يُفتَح بابُ إجابةٍ من السماء،وخزائنُ الوهَّاب مَلأى، فَسَل مِن جُودِ الكريم،واطلُب رحمةَ الرّحيم،فرمضانُ شهرُ العطايا والنّفحات والمِنَن والهِبات،وأعجزُ الناسِ من عَجزَ عن الدّعاء.والأيام صحائفُ الأعمار،والسعيدُ من خلَّدها بأحسَنِ الأعمال،ومن نقلَه اللهُ من ذلِّ المعاصي إلى عزِّ الطاعة أغناه بلا مالٍ،وآنسَه بلا أنيس.وراحةُ النفس في قلَّة الآثام،ومن عرفَ ربَّه اشتغلَ به عن هوى نفسِه.وبعضُ الناس أرخصَ لياليَه الثّمينةَ باللهو وما لا نَفعَ فيه،فإذا انقَضَى شهر الصيام ربِح الناسُ وهو الخاسِر،ومنَ الناس من يصومُ وهو لا يُصلِّي،والصّوم لا يُقبل إلا بتوحيدٍ وصلاةٍ.والمرأةُ مَأمورةٌ بالإكثارِ مِن تلاوة القرآنِ والذكرِ والاستغفارِ،والإكثارِ من نوافِل العباداتِ،وصلاةُ التراويح في بيتِها أفضلُ من أدائِها في المساجِدِ،قال عليه الصلاة والسلام"لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمْ الْمَسَاجِدَ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ"أحمد وأبو داود.وعليها بالسِّتر والحياء ومراقبةِ ربها في غَيبَة وليِّها وشهودِه،والصّالحةُ مِنهنَّ مَوعودَةٌ برضا ربِّ العالمين عَنها،وتمسُّكها بدِينها واعتزازُها بحجابها،وسِترها يُعلِي شأنَها ويُعزِّزُ مَكانَها،وهي فخرُ المجتمَعِ وتاجُ العفاف وجوهرةُ الحياة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بارَك الله...الخطبة الثانية:الحمد لله على إحسانه،والشكرُ له على توفيقه وامتنانه،وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه،وأشهد أنَّ نبيَّنا محمَّدًا عبده ورسوله،صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.أمّا بعد:أيّها المسلمون،مِن خيرِ ما يُستقبَل به رَمضان ملازمةُ الاستغفارِ والإكثارُ من حمدِ الله على بُلوغه،والسابقون للخَيرات هم السابقون إلى رفيعِ الدرجات في الجنّة،فتعرَّضوا لأسبابِ رحمة الله في شَهرِه الكريم،وتنافَسوا في عمل البرِّ والخيرات،واستكثِروا فيه مِن أنواع الإحسان،من تلاوة القرآن والمحافظة على الصلوات،وصلة الأرحام وصلاة التراويح مع الجماعة والصدقات،وترفَّعوا عن الغِيبة والنميمة وسائر الخطيئات،ولا يفوتُك خيرٌ من سهَرٍ على غير طاعةٍ أو نومٍ عن عبادة،وإن استطعتَ أن لا يسبقَك إلى الله أحدٌ فافعل.ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه.فقال في محكم التنزيل إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا عباد الله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم،واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم،ولذكر الله أكبر،والله يعلم ما تصنعون.