استراتيجية زلزلة المعتقدات الفاسدة (الجزء الثاني) أ. محمود الفقي -عضو الفريق الع
الفريق العلمي
هي أمور تجرعها الرضيع مع لبن أمه، شب عليها الصغير، وشاب عليها الكبير، واستقرت في الأفهام والوجدان، واختلطت مع اللحم والدم والعصب والعظم، حتى صارت عقيدة ومُسَلَّمة ومنهاجًا ودستورًا لصاحبها، يعتبرها من دينه ومن إيمانه، أو من تقاليده وأعرافه وموروثاته، أو من تجلياته وإبداعاته... لا يتخلى عنها أبدًا، بل يُخَطِّئ من خالفها، ويُسَفِّه من تجاهلها، ويعادي من حاربها.
وتكمن المصيبة حين تكون تلك الأمور -التي يعتنقها الفرد ويؤمن بها- خاطئة أو مصادمة للدين أو للعقل، إنها لإشكالية عظيمة؛ فكيف تُصَحّح له مسلَّماته تلك وهو يعتبر الموت في سبيلها شهادة! وتحمل "الأذى" في الدفاع عنها قربة إلى الله! ويستعذب الرباط عليها كأنما هي من أصول الدين؟!
لقد حاولنا في الجزء الأول من هذا المقال تقديم الحل لتلك المعضلة، فسقنا هناك أربعة أساليب للتغلب عليها، فكان أولها:
تشكيكه في معتقداته.
والثاني: التساؤل التقريري والتهكمي.
والثالث: أسلوب تصحيح المعايير.
والرابع: أسلوب المجابهة بحقيقة صادمة، وموعدنا الآن مع أربعة أساليب أخرى مكملة لتلك الاستراتيجية؛ "استراتيجية زلزلة المعتقدات الفاسدة".
الأسلوب الخامس: توضيح المشكل:
إن للحق قوة ورهبة وهيبة وسطوة على النفوس، فيكفي -لبعض الناس- أن نظهر لهم الحق ونجليه فإذا هم قد أذعنوا وقبلوا وسلَّموا، كذلك قد يلتبس الأمر على فهم الفاهم فيحمله على غير وجهه المراد، ويكفي لهذا أن توضح له ما لُبِّس عليه لتتضح الصورة أمام عينه ويزول عنده الإشكال.
وهذا واحد ممن عاصروا تنزل الوحي -ولم يكن قد أسلم بعد- كان يحمل مفهومًا واحدًا للعبادة وهو أن نسجد أمام من نعبد وتلهج ألسنتنا بأنه إلهنا، ونطلق عليه اسم "المعبود"، فلما سمع قول الله -تعالى-: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)[التوبة: 31]، أشكل عليه فهمه وتوقف في تصديقه، فذهب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي عنقه صليب من ذهب، فقال: إنا لسنا نعبدهم! فأجابه -صلى الله عليه وسلم- مزيلًا عنه سوء الفهم ومبينًا له واحدًا من المفاهيم الأشمل للعبادة: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟" قلت: بلى، قال: "فتلك عبادتهم"([1])، ولقد أسلم ذلك الرجل فيما بعد؛ إنه عدي بن حاتم -رضي الله عنه-، وكان هذا موقفًا له في كفره.
وله بعد إسلامه موقف آخر، يحكيه هو نفسه فيقول: لما نزلت: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)[البقرة: 187]، قلت: يا رسول الله، إني أجعل تحت وسادتي عقالين: عقالًا أبيض وعقالًا أسود، أعرف الليل من النهار، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن وسادتك لعريض، إنما هو سواد الليل، وبياض النهار"([2])، وأنا أتخيل كيف كانت دهشته إذ فهم الأمر وزال عنه الإشكال، بل ربما كان ينخرط ضاحكًا من نفسه كلما تذكر ذلك اللبس الذي وقع فيه.
وقد تعجب الصحابة من قولة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"؛ فقد حملوها على المعنى الذي اعتادوه في الجاهلية من العصبية والحمية للقريب ونصرته ولو كان ظالمًا، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟! يقصد: وقد عَلَّمَنا القرآن: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)[النساء: 135]، فوضَّح لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الإشكالية قائلًا: "تحجزه، أو تمنعه، من الظلم فإن ذلك نصره"([3])، وإذا زال الغموض والإشكال زال معهما التعجب والتردد.
فيا أيها الخطيب اللبيب: إنك إن وضِّحت المشكل، وبيِّنت الغامض، وجلِّيت الخفي، وأزلت اللبس، فقد فتحت العيون على الحق، وهيئت القلوب لقبوله، وزحزحت حاجزًا وعائقًا ومانعًا خطيرًا من موانع الفهم، وساعدت العقل أن يتخلص مما عطَّله وعوَّقه.
ويجب أن تعي وتدرك جيدًا -أخي الخطيب- أن مستمعك ينفصل عنك ويتركك بعقله وقلبه إذا ما أشكل عليه كلامك، فإن المستمع الجالس في خطبة الجمعة إنما هو مُتَلَقٍّ فقط؛ فليس له أن يستفسر من الخطيب عما لم يفهم، وليس له أن يقاطعه، وإنما دوره -أثناء الخطبة- دور سلبي... وبناء على هذا فابتعد أيها الخطيب عن طرح الأمور المشكلة إلا أن تفسرها، وعن الغامضات إلا أن توضحها، وعن المبهمات إلا أن تبسطها.
الأسلوب السادس: المواجهة بحال الفاضلين عندهم:
إن الناس أصناف وأشكال وأنواع، ولكل منهم منهاج ومشرب ومرجع ومثل أعلى، وإن أفضل الناس من كان منهجه العلم الصحيح، ومشربه ما أحبه الله، ومرجعيته القرآن والسنة، ومثله الأعلى رسول -صلى الله عليه وسلم-، لكن للبشر من بعد ذلك أحوال ومنازع شتى، ولن يكونوا جميعًا على ما تحب مهما بذلت ومهما حاولت وعانيت؛ بل سيظل منهم من ينتمي إلى حزب أو فرقة أو جماعة أو هوى في قلبه، قال -تعالى-: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ)[هود: 118-119]، فترى منهم من يعظِّم ويُجلُّ زعيم فرقته أو مُنَظِّر جماعته أكثر من كل من عداهم ويقدِّم آراءهم ويتعصب لها ولو كانت خاطئة! هذه هي الصورة الممنوعة المذمومة.
ولهذا الأمر صورة أخرى لا تعاب؛ أن يكون للمرء قدوة حية منظورة يراها ويعايشها ويراقبها ثم يقلدها، هذه طبيعة في البشر؛ أن يؤْثِر المحسوس على المعقول، وأن يطلب المادي ولا يكتفي بالمعنوي، ولعل هذا من جملة الحِكَم التي من أجلها جعل الله -تعالى- لنا الكعبة نراها ونلمسها ونتوجه إليها وأباح لنا تقبيل الحجر الأسود، وهكذا؛ فلكل منا -بعد القدوة العظمى صلى الله عليه وسلم- مَثَلٌ أعلى يحاكيه ويجله ويوقره ويحترم أراءه واجتهاداته ويرجع إليه في الملمات فيصدر عن مشورته.
فاستغل واستثمر -أيها الخطيب الفطن- هذا الطبيعة البشرية إذا ما خذلتك الأساليب الأخرى؛ فإن عاندك معاند وتمسك بباطله وأبى إلا المرابطة عليه، فاستكشف أنت مثله الأعلى -وذلك من خلال حديثه واستشهاداته أو من خلال خبرتك السابقة به أو من خلال انتماءاته وميوله-، فإن علمت بمطابقة رأي مَثَله الأعلى للحق في المسألة محل الخلاف بينكما فلتواجهه بذلك ولتقل: "أما راجعت في ذلك قول فلان الفلاني" مُعَيِّنًا اسم قدوته، أو فلتقل: "فإن فلانًا (قدوته) يقول بكذا وكذا"... فإن هذا أسلوب مجرب في زلزلة ما يتمسك به بعض الناس من خطأ.
وما سبق كان كلامًا نظريًا، وهلما الآن نرى بعضًا من تطبيقاته العملية:
لقد كان المثل الأعلى المحسوس المرئي في زمان النبي -صلى الله عليه وسلم- هو النبي نفسه، وقد استعمل -صلى الله عليه وسلم- هذا الأسلوب الذي نحن بصدده؛ فواجه من يتخذونه مثلًا أعلى مرئيًا محسوسًا بحال نفسه ليغيروا ما هم عليه من الخطأ، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر! قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا!
فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم، فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"([4])، ولا أشك في أنهم قد رجعوا عن معتقدهم الخاطئ وهجروا تلك الرهبانية لما انتبهوا لحال قدوتهم -وقدوتنا- -صلى الله عليه وسلم-.
وكذلك إن عجزت أساليبك -أيها الخطيب- عن إقناع رجل بخطأ معتقد ما عنده، وكان -مثلًا- يجل علماء الأزهر أو علماء المسجد الحرام... فواجهه بأقوالهم في المسألة محل النقاش إن وافقت أقوالهم الحق، بل وإن كان صوفيًا أو أشعريًا وكان الخلاف على مسألة تعْلم أن فيها أقوالًا لأحد علماء الصوفية أو الأشعرية وافقت الحق، فواجهه بقول عالمه ومثله الأعلى، حتى إن كنت تخالف ذلك العالم في أغلب أقواله؛ فلأن تصل بمحدثك إلى الحق في مسألة خير من تتركه فيها على باطله، وإنما هي خطوة على الطريق.
ولقد عاينت ذلك الأمر ومارسته، ففي أحد الأيام جاءني من يجادل في حرمة "السجائر"، فقارعته بالأدلة من القرآن والسنة فأوَّلها ولم يقتنع، فجئته من ناحية الصحة والمال وأن التدخين إهدار لهما، فعاند وجادل وحرد... حتى اكتشفت من خلال حديثه أنه يُجِل أحد العلماء -الذين أخالفهم في بعض الأشياء- لكني أعلم له فتوى صريحة واضحة بحرمة التدخين، فما أن أطلعته عليها وتأكد من نسبتها إلى ذلك العالم إلا أذعن وسلَّم، وقال لي: "إذن، ادع الله لي أن يعينني على تركها"! فلعلك -أيها الزميل الحبيب- أن تستفيد من تجربة أخيك.
ولا يقولن قائل: "إن الحق أن نحمله على اتباع الكتاب والسنة وحدهما، لا أن نجاريه على توقير من خطؤه أكثر من صوابه"! نقول: إن الجميع يدعي أنه يتبع الكتاب والسنة، وليس فهم السلف -عندهم- بأولى من فهم غيرهم لتحملهم عليه، خاصة وأنهم قد يتمسكون بفهم "سلفهم" أيضًا! وإنما كلامنا على من فشلنا في هدايته إلى الطريق، فلأن نسير معه خطوات إلى الهدى خير من نتركه غارقًا كله في الضلالة.
الأسلوب السابع: المطالبة بالدليل:
للحق ألف دليل صادع، وما للباطل من دليل صامد، بل كل مستدل على باطل فإنما أدلته كبيت بُنِي على قش يوشك أن ينهدم، وكرسالة خطت على صفحة ماء لا يُكتب حرف إلا وينمحي الذي قبله، وكذا كل مقتنع بخطأ غالبًا ما يكون اقتناعه مبني على لا شيء؛ لقد سمع فقال، ولقد رأى فقلَّد، ولقد أُمر فائتمر، ولقد وُجِّه فتوجه، ولقد سيق فانساق!
والأسلوب المناسب مع هؤلاء "الببغاوات" أن يطالبوا بالدليل الواضح القاطع على ما ادعوا وزعموا، فإن أتوا بدليل -والأغلب ألا يستطيعوا- ففند دليلهم بدليل الحق في المسألة؛ فإن قال مخالفك: "مصافحة الأجنبيات مباحة"، واستدل بأنه يصافح النساء ولا يحرك ذلك فيه شهوة، وأنه يصافحهن تأليفًا لقلوبهن لا طلبًا للذة، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"([5])، فلي الأجر على ما نويت من الخير!
فقل له: افترض أن رجلًا يشرب الخمر ولا تسكره ولا تغيب عقله، فهل الخمر بالنسبة له مباحة حلال؟! سيقول: كلا؛ فإن فيها نصًا قاطعًا يقول: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ)[المائدة: 90]، فسارع قائلًا له: وكذلك ففي المصافحة نص نبوي يقول: "إني لا أصافح النساء"([6])، وفي الصحيحين تقسم عائشة -رضي الله عنها- قائلة: "ولا والله ما مست يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يد امرأة قط"([7]).
ولك أن تسألني: ومن أين جئت بهذا الأسلوب؟ وسأجيبك: من القرآن؛ فها هو يطالب المشركين بدليل على شراكة شركائهم فيقول: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ)[فاطر: 40]، ولا شك أنهم ما استطاعوا إثبات شيء من ذلك.
ولما ادعوا أن القرآن صنع بشر طالبهم الله بالدليل قائلًا: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ)[هود: 13-14]، وبالتأكيد فإنهم لم ولن يستجيبوا... وكم سمعنا القرآن يطالب المفترين والمدعين بالدليل، ففي غير ما موضع يقول القرآن للمخالفين: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ)! فهو منهج قرآني أصيل.
الأسلوب الثامن: الإفحام بالحجة الدامغة:
لا تتخيل أن هذا الأسلوب مشابه للأسلوب السابق، كلا؛ بل هو عكسه وضده تمامًا؛ فهناك تطالبه أنت أن يأتي بدليله على ما يزعم، أما هنا فتقدِّم أنت دليلك على ما تدعيه، بشرط أن يكون دليلك ذلك: ظاهرًا واضحًا دامغًا مفحِمًا قاطعًا زاعقًا بالحق، ولو كان كلمات قلائل.
وهذا ما صنعه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-؛ فإنه "لما ظهر على أهل البصرة يوم الجمل جعل لهم ما في عسكر القوم من السلاح ولم يجعل لهم غير ذلك، فقالوا: كيف تحل لنا دماؤهم ولا تحل لنا أموالهم ولا نساؤهم؟! قال: هاتوا سهامكم وأقرعوا على عائشة، فقالوا: نستغفر الله، فخصمهم علي -رضي الله عنه- وعرفهم أنها إذا لم تحل لم يحل بنوها"([8])، فها هي الحجة الحاسمة تقطع كل قول وكل اعتراض وتدفن كل اعتقاد خاطئ بلا طول مجادلة ومناقشة، وعليٌّ -رضي الله عنه- من أئمة البلاغة والبيان لو جادل، لكنه استعمل الأسلوب الأقصر والأكثر إقناعًا؛ ذاك هو "أسلوب الحجة الدامغة".
ويروي أبو هريرة -رضي الله عنه- إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا عدوى..." فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال إبلي، تكون في الرمل كأنها الظباء، فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "فمن أعدى الأول؟"([9])؛ "فلو كان الجرب بالعدوى بالطبائع لم يجرب الأول لعدم المعدي"([10])، ولا أحسب الأعرابي إلا قد آمن وسلَّم واستسلم بعد أن اقتنع أشد الاقتناع ورجع عن اعتقاده الفاسد.
وفي نظري، فإن أروع من استخدم هذا الأسلوب الذي نحن بصدده بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما وقفت عليه من نماذج هو ابن عباس -رضي الله عنهما-، فإنه قد استطاع أن ينقذ بحجته المفحمة آلاف الرجال من منزلق خطير قد ارتكسوا فيه، ولندعه هو يقص علينا ما حدث فيقول: لما خرجت الحرورية اجتمعوا في دار، وهم ستة آلاف... فخرجت إليهم ولبست أحسن ما يكون من حلل اليمن، فأتيتهم، وهم مجتمعون في دارهم قائلون، فسلمت عليهم... وقلت: أخبروني ماذا نقمتم على ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصهره والمهاجرين والأنصار؟ قالوا: ثلاثًا، قلت: ما هن؟
قالوا: أما إحداهن فإنه حكَّم الرجال في أمر الله، وقال الله -تعالى-: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)[الأنعام: 57] وما للرجال وما للحكم؟! فقلت: هذه واحدة، قالوا: وأما الأخرى فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم، فلئن كان الذي قاتل كفارًا لقد حل سبيهم وغنيمتهم، ولئن كانوا مؤمنين ما حل قتالهم! قلت: هذه اثنتان، فما الثالثة؟ قال: إنه محا نفسه من أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين! قلت: أعندكم سوى هذا؟ قالوا: حسبنا هذا، فقلت لهم: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله ومن سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ما يرد به قولكم أترضون؟ قالوا: نعم.
فقلت: أما قولكم: حكم الرجال في أمر الله فأنا أقرأ عليكم ما قد رد حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم في أرنب ونحوها من الصيد، فقال: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ... يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ)[المائدة: 95] فنشدتكم الله أحكم الرجال في أرنب ونحوها من الصيد أفضل، أم حكمهم في دمائهم وصلاح ذات بينهم؟، وأن تعلموا أن الله لو شاء لحكم ولم يصير ذلك إلى الرجال، وفي المرأة وزوجها قال الله -عز وجل-: (فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا)[النساء: 35] فجعل الله حكم الرجال سنة مأمونة، أخرجت عن هذه؟ قالوا: نعم.
قال: وأما قولكم: قاتل ولم يسب ولم يغنم، أتسبون أمكم عائشة ثم يستحلون منها ما يستحل من غيرها؟ فلئن فعلتم لقد كفرتم وهي أمكم، ولئن قلتم: ليست أمنا لقد كفرتم فإن الله يقول: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)[الأحزاب: 6]، فأنتم تدورون بين ضلالتين أيهما صرتم إليها، صرتم إلى ضلالة، فنظر بعضهم إلى بعض، قلت: أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.
قال: وأما قولكم محا اسمه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بمن ترضون، وأريكم قد سمعتم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية كاتب سهيل بن عمرو وأبا سفيان بن حرب فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمير المؤمنين: "اكتب يا علي: هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله"، فقال المشركون: لا والله ما نعلم إنك رسول الله لو نعلم إنك رسول الله ما قاتلناك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إنك تعلم أني رسول الله، اكتب يا علي: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله" فوالله لرسول الله خير من علي، وما أخرجه من النبوة حين محا نفسه... فرجع من القوم ألفان، وقتل سائرهم على ضلالة([11])، وفي رواية: "فرجع منهم أربعة آلاف".
لقد كان لهؤلاء الخوارج حجج واهية تعلقوا بها حتى أضلتهم فخرجوا على جماعة المسلمين، لكنها مع كونها حججًا واهية فهي شبه لو كانت في عصرنا لأُلفت في الرد عليها المؤلفات الطوال، لكن ابن عباس قد استخدم أسلوبنا؛ "أسلوب الحجة المفحِمة"، فما كان أمام المنصفين العقلاء من القوم إلا أن أذعنوا ورجعوا عن غيهم، ومن روعة حجج الحق التي ساقها الله -تعالى- على لسان ابن عباس أن أحدًا منهم لم يستطع مراجعته أو الاعتراض عليه في شيء منها.
فهو أسلوب ناجح مجرب؛ حضِّر -أيها الخطيب- لخطبتك أو درسك أو محاضرتك أكثر البراهين وضوحًا، وأمنعها على الرد والجدال والمناقشة، وأقطعها للروغان والسفسطة... فإن فعلت كسبت الجولة من أول لحظاتها، وكلما حضَّرت حجة لنقطة معينة فحضَّر معها حجة وبرهانًا احتياطيًا آخر؛ فإن جادل مجادل في الأولى فلا تسايره في الجدال فإنك لن تصل إلى شيء، بل عاجله بالبرهان الاحتياطي -الذي يجب أن يكون دامغًا أيضًا فسيبهت خصمك ويسلم لك، تمامًا مثلما وقع مع الخليل إبراهيم وهو يحاور النمرود: (إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)[البقرة: 258].
فقد امتنع إبراهيم عن مجادلته إذ قال: (أنا أحيي وأميت) يقصد أجيء برجلين قد استحقا القتل فأقتل أحدهما وأطلق الآخر، فجعل ترك القتل إحياء، وقد كان إبراهيم يستطيع أن يقول: إن الإحياء هو رد الروح إلى جسد ميت، لكنه أعرض عن هذا؛ لأن الجدال غالبًا لا يؤدي إلى شيء، وانتقل إلى البرهان "الاحتياطي"، وكانت النتيجة أن بهت الذي كفر.
([1]) الطبراني في الكبير (218)، والبيهقي في السنن الكبرى (20350)، وحسنه الألباني (الصحيحة: 3293).
([2]) البخاري (1916)، ومسلم (1090).
([4]) البخاري (5063)، ومسلم (1401).
([5]) البخاري (1) واللفظ له، ومسلم (1907).
([6]) النسائي (4181)، وابن ماجه (2874)، وصححه الألباني (الصحيحة: 529).
([7]) البخاري (2713)، ومسلم (1866).
([8]) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/964)، الناشر: دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1414 هـ - 1994 م.
([9]) البخاري (5717)، ومسلم (2220).
([10]) شرح النووي على صحيح مسلم (14/217)، بتصرف بسيط، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة: الثانية، 1392.