استراتيجية إعادة الثقة في زمان الانكسار (2/2) أ. محمود الفقي
الفريق العلمي
أيها الخطيب: إليك هذه "النصائح" الخمسة "القيمة":
أما النصيحة الأولي: فلا تحاول أن تغيِّر باطلًا أو ترفع راية للحق أو تنهى عن منكر؛ فإنه لا فائدة فيما تفعل، فالباطل قد استشرى واستفحل وتمدد وتضخَّم وطغى وانتشر وتجذَّر في القلوب، فأنى لك أن توقفه أو تمنع مسيره، فوفِّر جهدك ووقتك فإنه لا جدوى ولا أمل ولا فائدة من المحاولة! أوما سمعت القرآن يقول: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)[المائدة: 105].
النصيحة الثانية: ما دام الأمر كذلك، فاعتزل هذا المجتمع الميؤوس من إصلاحه، وانعزل تمامًا عنه كي لا يؤذيك أو يجرك إلى المنكرات أو يؤثر فيك سلبًا، فاذهب بعيدًا ودعهم يهلكون! ولا تنسى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن"([1])!
النصيحة الثالثة: إن تيار الشر جارف، وفتن الدنيا وزخارفها أخَّاذة ساحرة ضخمة هائلة، وأنت ضعيف ميَّال بطبعك إليها، فلن تستطيع الصمود أمام تلك المفاتن والمباهج واللذات والشهوات، لذا فلا تتعب نفسك في محاولة المقاومة لها أو الصمود أمامها، فإن ستسقط لا محاولة، فلا تتعنى بل انسق مع الناس وافعل ما يفعلون فما أنت إلا فرد واحد، فما عساك أن تفعل! وتذكر قول الله: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)[البقرة: 286].
النصيحة الرابعة: إن كيد الأعداء جبار عظيم، مكر بالليل وبالنهار، كيد خبيث شديد، وهم يمتلكون قدرات ومقومات ضخمة هائلة، ونحن مهما أوتينا من قوة فلن نستطيع مواجهتهم أو صدَّهم، فليس أمامك إلا أن تداهنهم وتسايرهم وتجاريهم وتمشي في طاعتهم ولا تخالف أوامرهم، لتأمن بطشهم وغضبهم! أليس قد ضخَّم القرآن قدراتهم فقال: (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ)[إبراهيم: 46]؛ فإنه لا طاقة لنا بهم!
النصيحة الخامسة: إياك أن تتحمل أي مسئولية، أو تسمح لأحد أن يكلِّفك بأي عبء مهما صغُر، فإن المسئوليات أثقال على كاهلك تمنعك متعتك وتقيِّدك، فارفض تحمل أي مسئولية، كي تعيش حرًا طليقًا متحررًا من كل قيد! ثم ألا تعلم أنك إن تحملت مسئولية ثم قصَّرت فيها حوسبت!
هذه هي النصائح الخمس، فهل تدري من الذي ينصح بها؟ إن الناصح بها هو إبليس وأعوانه من شياطين الجن والإنس!!...
والحق أنها ليست نصائح؛ بل هي خمسة مظاهر وصور للانكسار والانهزام النفسي، هي خمسة مظاهر لاحتقار الذات: قعود وعزلة واستسلام ومداهنة وهروب؛ قعود عن نصرة الدين والعمل له، واعتزال للمجتمع بدلًا من إصلاحه، واستسلام لفتن الدنيا ولأهلها، وموالاة لأعداء الدين، والتهرب من المسئوليات([2])...
ويعز علينا أن نرى أمتنا التي قال نبيها -صلى الله عليه وسلم-: "نصرت بالرعب مسيرة شهر"([3])، وهي تنهزم أمام أعدائها وتتخاذل أمام مسئولياتها وتهن في تحمل أعبائها!... ووالله لا يقضي على عبدٍ شيءٌ أشد عليه من نفسه، فقد سئل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: كيف تقتل الأبطال؟ قال: "لأني كنت ألقى الرجل، فأقدر أني أقتله، ويقدر هو أني قتلته، فأكون أنا ونفسه عونًا عليه"([4])، لقد هزمه نفسيًا قبل أن يقتله.
وقد شرعت في الجزء الأول من هذا المقال في وضع بنود استراتيجية لعلاج الانكسار، وذكرت من بنودها ما يلي:
البند الأول: تعليمهم أنه لا عزة إلا بالإسلام.
البند الثاني: عقد المقارنات بين المسلم والكافر.
البند الثالث: وصلهم بأمجاد أمتهم.
البند الرابع: إزالة هالة الإكبار عن أعداء المسلمين.
البند الخامس: إبراز وعود الدين بالاستخلاف.
وفيما يلي بقية البنود:
البند السادس: إدراك طبيعة المرحلة:
فإنما يبعث الانكسار في قلوب المسلمين تقوقعهم داخل الواقع المعاش الذي يُطحن فيه المسلمون طحنًا تحت أضراس أعدائهم، لذا من الواجب على خطبائنا أن ينشروا بين رواد مساجدهم الوعي بطبيعة المرحلة التي نعيشها؛ فأولًا: يرسخون في الأذهان أنما هي "مرحلة" مجرد مرحلة في صراع أبدي لن ينقطع إلى يوم القيامة، مجرد جولة في معركة، فليست النهاية ولا القاصمة ولا الخاتمة، بل إن العاقبة للمسلمين.
وثانيًا: أن يساعدوهم على إدراك طبيعة هذه المرحلة، وأن أول الأولويات للخروج من خندقها العودة إلى الدين واتحاد المسلمين، فإن نجح الخطيب في ذلك فلن يسقطوا صرعى منهزمين بل سينطلقوا عاملين وساعين ومجاهدين...
ومن أهم الحقائق التي ينبغي على الخطيب تربية مستمعيه عليها:
الحقيقة الأولى: أن الأيام دول: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)[آل عمران: 140]، و"المداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر، يقال: تداولته الأيدي: إذا انتقل من واحد إلى آخر، ويقال: الدنيا دول: أي تنتقل من قوم إلى آخرين ثم منهم إلى غيرهم، والمعنى: أن أيام الدنيا هي دول بين الناس؛ فيوم لهؤلاء ويوم لهؤلاء"([5])، وهكذا يقضي الله الأمور، فلا انتصار دائم ولا هزيمة دائمة، فليس من سنن الله أن يبقى المسلمون مغلوبون مقهورون غافلون؛ بل هي مسألة وقت وجهد وعمل دؤوب من المخلصين وفوق ذلك توفيق الله، وبعدها سيفيق الغافل وينتصر المغلوب.
الحقيقة الثانية: أن الله لن يغيِّر ما حلَّ بنا حتى نغيِّر نحن من حالنا: فإن السنن الربانية الكونية لا تتخلف، ومنها: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)[الرعد: 11]، وقد روى ابن أبي حاتم بسنده أن الله أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: "أن قل لقومك: إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله، إلا تحول لهم مما يحبون إلى ما يكرهون"([6]).
ثم إذا تفهَّم الناس طبيعة المرحلة وتقبَّلوا واقعهم بعقل واعٍ وفهم ثاقب، بقي أن نبرز لهم الجوانب الإيجابية لهذه المرحلة؛ أقصد: إبراز حكمة الله في مراحل الانكسار والاستضعاف، ومنها:
أولًا: تمييز الصفوف: ففي زمن الانتصار يجتمع أصحاب المصالح والمنتفعون، وفي زمن الاستضعاف لا يثبت إلا المخلصون، (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا)[آل عمران: 166-167].
ثانيًا: تطهير قلوب المخلصين من الشوائب: قال -عز وجل-: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ)[آل عمران: 140-141]، ومرة أخرى: (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ)[آل عمران: 154].
ثالثًا: فرصة لنشر الوعي والإفاقة من الغفلة والرجوع إلى منبع الدين الصافي وشدة اللجئ إلى الله: وهذي طبيعة الإنسان وفطرته؛ أن يعود إلى ربه وفطرته عند الشدائد، قال -تعالى-: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ)[الزمر: 8]، وقال: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا)[يونس: 12]... فمن الناس من لا يفيق ولا يدع لنفسه فرصة لأن يفيق ما دام منعَّمًا، بل هو في لذاته غارق، فإذا نزعت منه ونزلت به مصيبة تاب ورجع وأناب وتفكر في حاله... فكانت المصيبة خيرًا له!
فإن أعان الخطيب رواد مسجده على فهم طبيعة هذه المرحلة التي نحياها حتى يدركوا كنهها وضرورتها وفوائدها... لم يقعوا في هزيمة نفسية ولم يصبهم انكسار أبدًا.
البند السابع: بث روح الأمل:
ونقصد ببث روح الأمل في هذا المقام: بيان إمكانية الإصلاح لمن يأس منه، بحيث يبعثه ذلك على استئناف ومواصلة بذل الجهد والعمل، كما أن الأمل في النصر والفوز والنجاة والفرج يحمي من الانكسار والوقوع في الهزيمة النفسية.
ومن مكونات الأمل وعوامل إيقاظه في القلوب أن نعلم أن:
(1) الانتصار ممكن مهما كانت الفواجع والإصابات والضعف والمصائب: قال -عز وجل- ضاربًا المثال ومقدمًا النموذج لذلك: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا...) وكانت العاقبة: (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ)[آل عمران: 146-148].
(2) أن النصر ممكن مهما كانت قوة العدو: وهذا الدليل: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ)[الحشر: 2]؛ فالخطاب في: (مَا ظَنَنْتُمْ) للصحابة الكرام، والمعنى: ما اعتقدتم إمكانية إخراجهم وإجلائهم عن المدينة؛ لعزة أمرهم وقوتهم ومنعتهم واجتماع كلمتهم، وذلك أنهم امتنعوا في حصونهم ونخلهم الكثير([7])، ومع ذلك تحقق النصر: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ)[الحشر: 2].
(3) أن إصلاح الناس ممكن مهما بلغ مدى بُعْدهم عن الله: فإنما بعث النبي -صلى الله عليه وسلـم- لعبدة أوثان، فهداهم الله به حتى صاروا دعاة الأرض لعبادة الواحد الديان.
(4) إذا بلغ الكرب منتهاه جاء الفرج: وإذا اشتد الكرب هان، وأشد ساعات الليل ظلمة تلك التي تسبق الفجر، فما جاء نصر هؤلاء إلا وقد كادوا ييأسون من النصر: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا)[يوسف: 110]، وهؤلاء الثلاثة الذين خلفوا ما جاءهم الفرج حتى ضاقت عليهم الأرض: (حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ)[التوبة: 118].
وما أروع هذا النموذج الذي قدَّمه القرآن؛ فهو يقول: أنه "لا نصر إلا بعد القهر": (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)[البقرة: 214]؛ فـ"الْبَأْساء": الفقر والشدة والمسكنة وهو اسم من البؤس، و"الضَّرَّاء": يعني المرض وضروب الخوف، ومعنى: "زلْزِلُوا" أي: حركوا بأنواع البلايا والرزايا، وأصل الزلزلة: الحركة؛ وذلك لأن الخائف لا يستقر بل لا يزال يضطرب ويتحرك لقلقه([8])، وبعد كل ذلك يأتي النصر، فما نحن فيه اليوم هو مقدمة النصر.
(5) أن خصومنا عندهم من الأوجاع مثل ما عندنا، ويعانون مثلما نعاني: وهذا ما قرره القرآن في أكثر من موضع، قال -تعالى-: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ)[النساء: 104]، وقال -سبحانه-: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ)[آل عمران: 140]، فلا تظنن أنهم سالمين معافين، بل عندهم من نقاط الضعف ما تعلم وما لا تعلم.
نعم، قد تكون آلامهم من غير نوع آلامنا وأوجاعهم ليست من جنس أوجاعنا، لكنهم على كل حال موجوعون؛ فإن كان داء المسلمين الأخطر هو بعدهم عن دينهم فخصومنا لا دين لهم من الأصل؛ بل هم كفرة يعبدون آلهة ثلاثة أو يعبدون صنمًا أو ملحدون لا يعبدون شيئًا! وإن كان داؤنا الثاني هو الفرقة والتشرذم فإن أعداءنا ما اجتمعوا إلا علينا، وهم في الأصل متناحرون متكارهون متقطعون:
تفرق شملهم إلا علينا *** فصرنا كالفريسة للكلاب
وإن كنا نشكو من الفقر والعوز والجهل بالعلوم المادية، فهم يشكون من الضياع الأخلاقي والانحراف السلوكي والتفكك الأسري وانتشار الأمراض الجنسية... وصدق الله: (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ).
إذا ثبت جميع ذلك، فإن مما يبعث على الأمل -أيضًا-: نشر قاعدة "بينما": وهي قاعدة جليلة لها شواهد من النصوص ومن التاريخ، مؤداها أنه: "بينما تنسج المصائب شباكها وتُحكِم قبضتها، تعمل يد القدر بسكين ماضٍ لتمزيقها"، شاهد هذه القاعدة من القرآن قوله -تعالى-: (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)[الشرح: 6]؛ فقال -تعالى-: "مع العسر"، ولم يقل: "بعده".
وشواهدها من التاريخ كثيرة منها أنه:
بينما كان المسلمون محاصرون في شعب أبي طالب طبقًا للصحيفة الظالمة، كانت الأرضة تأكل تلك الصحيفة!
وبينما كان أهل الطائف يقذفون النبي -صلى الله عليه وسلـم- بالحجارة وقد جاءهم وحيدًا يدعوهم إلى الله، كان وفد من الجن يستعد للخروج للقائه -صلى الله عليه وسلـم- في طريق عودته ليسلموا على يده!
وبينما كان المسلمون يتراجعون مقهورين من الحديبية إلى المدينة، كان الله -عز وجل- يدبر لهم فتحًا مبينًا...
فاغرسوا -أيها الخطباء- الأمل في القلوب؛ فإن الأمل حياة.
البند الثامن: العمل إحدى العلاجات:
كلما تأمل المسلم في غزوة أُحُد تبادر إلى ذهنه سؤال: لماذا أصر النبي -صلى الله عليه وسلـم- بعد الهزيمة أن يخرج بالمسلمين الجرحى لمطاردة المشركين؟
يجيبنا ابن كثير: بأن "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم ليرعبهم ويريهم أن بهم قوة وجَلدًا... فانتدب المسلمون على ما بهم من الجراح والإثخان طاعة لله -عز وجل- ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-"([9]).
نعم، إن التحرك والعمل للدين هو من أهم علاجات الانكسار والهزيمة النفسية؛ ذلك أن القاعد المتخاذل ديدنه أن يتأمل في قوة عدوه ويقارنها بضعفه، يرى نشاط عدوه ويقارنه بكسله وجموده... فتتزايد عنده يومًا بعد يوم هزيمته وانكساره وخوره أمام جبروت عدوه! لكنه إن نفض هذا الشعور المحبط المثبط عنه وقام إلى العمل الجاد ورأى بعض الحصاد والنتائج ولو كانت بسيطة، عَلِم أن الأمر ممكن والقومة مستطاعة والمقاومة في المتناول والنصر ليس مستحيلًا...
يصدق ذلك ما كانت العرب تردد معانيه: "إن ركد الماء أسن"، "إن حبس الطير مات"، "إذا خزن الحديد صدأ"، "لو توقفت الشمس لملها الناس"... وقالوا:
والأسد لولا فراق الغاب ما افترست *** والسهم لولا فراق القوس لم يصب
وقالوا:
البيض تصدأ في الجفون إذا ثوت *** والماء يأسن إن أقام طويلا
ولقد قصَّ علينا القرآن نبأ رجلين عملا لدين الله، فقال: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ)[يس: 20]، وقال عن الثاني: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ)[غافر: 28]... وتخيل معي حال هذين الرجلين اللذين كانا مغمورين لا يُعرفان، يعيشان في سلام، فإذا هما يخرجان للعمل للدين فتصيبهما المتاعب... أقول: تخيل معي حالهما لو قعدا عن العمل وتخاذلا عن نصرة الدين؟! إذًا لانكسرا نفسيًا ولهزما داخليًا، ولبكيا دمًا على تخاذلهما!
وأضف إلى ذلك أن العامل لدين الله إنما قام بفريضة واجبة عليه، ومن ترك الواجبات والفرائض وكانت له نفس لوامة، فإنه يقع -لا محالة- في صراع وهزيمة نفسية، فإن تاب وقام فأداها زال عنه ذلك.
فليعمل خطباء الأمة على دفع الناس أن يقدِّموا عملًا لدين الله؛ دعوة إليه أو تعليم الناس إياه أو دفاعًا عنه وتفنيد الشبهات التي توجه إليه... فإن فعل فقد وضعهم على أول طريق العلاج من داء الانكسار.
([2]) للاستزادة ينظر: آفات على الطريق للدكتور السيد محمد نوح (2/331)، دار اليقين، المنصورة - مصر، الطبعة الأولى 2012.
([3]) أخرجه: البخاري (335)، ومسلم (521).
([4]) ينظر: المستطرف في كل فن مستطرف للأبشيهي (228) طبعة عالم الكتب - بيروت.
([5]) ينظر: تفسير الخازن (4/267)، طبعة دار الكتب العلمية - بيروت.
([6]) ينظر: تفسير ابن كثير (4/440)، دار طيبة للنشر والتوزيع.
([7]) ينظر: تفسير الخازن (4/267)، وتفسير القرطبي (18/3) دار الكتب المصرية - القاهرة.