استراتيجيات ردِّ الشبهات .. د. محمد سعيد بكر
الفريق العلمي
الحمد لله بديع الأرض والسموات، الحمد لله كاشف الغمّ مُزيل الضلالات، الحمد لله أطفأ نار الباطل والشبهات. سلام على من صبر وغفر فنال من عزم الأمور، سلام على النبي المذكور في القرآن والتوراة والإنجيل والزبور، سلام على طامس الشبهة بالهدى والنور.
يتواصى الكفار في كل زمان في بثّ الأراجيف والشبهات في صفوف أهل الحق والإيمان، حتى يصير الناس في تيه وعماية.
تلك الشبهات التي حطّمها رجال الله -عز وجل- في كل عصر ومِصر، تلك الشبهات التي تأتي على العاقل ذو الحكمة والحلم فتقهره، فكيف بكم لو بُثت سمومها في وسط الضعف والهوان، وفي زمن غفلت فيه الأمة عن أصول عزتها والكرامة؟!
يقول الإمام الذهبي: "القلوب ضعيفة، والشُّبه خطَّافة".
وقفتنا مع الشبهات وأثرها القبيح على الأمة.
أثرها في النفوس؟ وما المنهج القويم في ردّها وخلعها من قلوب المؤمنين؟.
الشبهة في الدين: هي كل تشكيك يمسُّ أصول الدين أو فروعه، أو هي كل طعن يخدش الإسلام جملة أو تفصيلا.
وتكمن خطورة الشبهات الخبيثة في كونها لا تزال بالمسلم حتى تصيِّره من المغضوب عليهم أو من الضالين ولو بعد حين.
ومن خطورتها؛ خفاؤها وتلبّسها بالحق المبين، وهي: (مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ)[الذاريات: 42]، ولا يرضى الكفر إلا أن يحبِك الشبهة بصورة متينة، يتيه فيها العاقلون.
لأجل ذلك حذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- من كثيرا من الشبهات في نوع من التربية الوقائية؛ فقد روى الإمام أحمد بسند صحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يحكي الدجال: "وإن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه مما يبعث فيه من الشبهات".
فالله الله ما أعظم الشبهات! وما أشد فتكها! وإن مثلها في عالم الأفكار مثل المنافق في عالم البشر؛ يُظهر إيماناً ويبطن كفراً، ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب.
يحفل القرآن العظيم بشواهد في عالم الشبهات، وما ترك الكفار شيئاً إلا وشككوا فيه، فـ (قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ)[المائدة: 73]، وَقَالُوا: (مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ)[الجاثية: 24]، وزعموا أن الرسول هو الذي ألّف القرآن الكريم؛ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ)[يونس: 38]، وطعنوا في الصدقة والزكاة؛ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ)[التوبة: 58]، ووصفوا الجهاد بأنه هلاك وفتنة؛ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ)[التوبة: 49]، وغيرها من الشبهات المنكرات.
شبهاتٍ سقط في وحلها الكثيرون؛ (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)[آل عمران: 7].
وما سلم حتى عرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من التشكيك والشبهات، فطُعنت عائشة في عفتها، وما سلم رسولك -صلى الله عليه وسلم- من طعن المستشرقين وغيرهم في مسألة تعدد زوجاته -عليه السلام-.
والعيب كل العيب ليس فيمن يثير الشبهة، فهو كافر ملعون، إنما العيب فيمن يروِّجها ويحملها إلى الآخرين؛ (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ)[النور: 15].
إنما يتولى كِبر إثارة الشبهات في أوساط المؤمنين والمؤمنات واحد من اثنين: كافر حاقد أو جاهل ساذج، وإن درء الشبهات ودفعها نوع جهاد، لأن الجهاد في أصله دفع وهجوم، وردُّ الشبهة دفع وهجوم، فعن يحيى النيسابوري قال: "الذب عن السُّنة (يعني من الشبهات) أفضل من الجهاد في سبيل الله" ..
إن المجاهد يحمي عن دماء المسلمين، ودافعُ الشبهة يحرس أرواح وعقول الموحدين، وإن دفع الشبهات نوع رباط، يحتاج همة وتربصاً ونشاطاً.
ما أجمل أن تُعمل لسانك في الكفاح، وردِّ شبهات المجرم السفاح.
وحتى تحوز على شرف الدفاع عن عقيدة الأمّة وردّ الشبهة عنها لابد أن نذكِّرك بما يُسمى: بفقه ردّ الشبهات عن دين ربِّ الأرض والسموات، أو استراتيجيات رد الشبهات، ومن معالم هذا الفقه:
أنه إذا سمعت بشبهة فظُنَّ بدينك ورموز إسلامك خيراً؛ لأن ذمَّة الإسلام بريئة بفضل الله -تعالى-: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ)[النور: 12].
وأن لا تخوض فيها؛ (وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)[النور: 16].
وأن تحمل الشبهة إلى القادرين على ردها ومحقها؛ (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)[النساء: 83].
وأن تتسلح بسلاح العلم والتقوى، إذ الشبهة إنما تعشعش في قلبٍ ضعيف وعقلٍ فارغ خفيف، ولقد أوصى الإمام ابن تيمية تلميذه ابن القيم بوصية فاسمعوها، قال له: "لا تجعل قلبك للشبهات مثل السفنجة فيشربها فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة تمرُّ الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته".
ومن فقه الرد على الشبهات: أن تنظر في دواعيها ومبرراتها؛ فإن صدرت عن جاهل لزم الأمر تعليماً ورداً علمياً سليماً، أما إن صدرت عن حاقد كافر لزم الأمر ما سلف، وقرعاً وتأديباً، حتى لا يصير الدين مطيَّة للكافرين الفاجرين، روى اللالكائي بسنده؛ "أن رجلا من بني تميم يقال له صبيغ بن عسل، قدم المدينة وكانت عنده كتب، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فبلغ ذلك عمر، فبعث إليه وقد أعدّ له عراجين النخل، فلما دخل على المجلس قال من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، قال عمر: وأنا عبد الله عمر، وأومأ عليه فجعل يضربه بتلك العراجين، فما زال يضربه حتى شجّه وجعل الدم يسيل عن وجهه حتى قال: حسبك يا أمير المؤمنين، فقد والله ذهب الذي أجد في رأسي؛ (يعني من الوساوس والشبهات).
نعم؛ لقد ضربه وقرعه بالعصى، لأن:
العبد يُقرع بالعصـــــــى *** والحــــــــرُّ تكفيه الاشارة
فأين لنا بأمير للمؤمنين يشجُّ رأس كل علج متطاول حاقد؟!!
ومن فقه رد الشبهات: أن لا يكون ردُّك عليها هزيلاً ضعيفاً، وكأن دينك في قفص اتهام تريد أن تخرجه منه، بل: أتْبع ردّ الشبهة بهجوم على خصوم الإسلام تُعرِّي باطلهم وتفضح كفرهم، وإن بيوتهم عورة، وهي من زجاج ، بل هي أوهى من بيت العنكبوت .. والحق ظاهرٌ أبلج، والباطل مهزوز لجلج.
فبعد أن تبرهن أن الإسلام ما انتشر بالدماء ولا بالأشلاء، حدِّث ولا حرج عن غطرسة الكفر، وكيف ملكت أمريكا ودولة الغاصبين اليهود بلادنا وجثموا على صدورنا بأسلحة ممنوعة شرعاً وعرفاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
صاحب الشبهة كذّاب يلبس الحق بالباطل، وهو ذو نَفَس طويل لا يقيل ولا يستقيل، فلا تفرح إن رددت شبهته حول تحرير المرأة مثلا؛ لأن شبهاتهم حول الأسرة كثيرة كثيرة، فهم يطعنون في قوامة الرجل، وفي حجاب المرأة، وينادون بالمساواة، وغير ذلك، ولن يزالوا في حربهم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا.
إن ردّ الشبهة إنما يكون بالنقل الصحيح من الكتاب والسُّنة الشريفة، أو بالفهم والعقل الفصيح، أما العواطف الجيّاشة والشعارات البراقة، فإنها لا ترد شبهة ولا تدفع باطلاً.
وقد يكون في بعض الشبهات فخٌّ فانتبه؛ إذ قد يثير الباطل اتهاماً فيظنه البعض شبهة ويأخذ بالرد عليه، وهذه خدعة ماكرة، كأن يتهمنا الكفر بالإرهاب، والأصل قبل أن ندفع شبهة الإرهاب عنا أن نقف على مفهوم الإرهاب هذا، فإن كانوا يقصدون بالإرهاب: الجهاد والدفاع عن المقدسات والأعراض فإننا لا ننفي التهمة عنا بل نثبتها؛ لأن ذلك حق مشروع لنا؛ (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)[الأنفال: 60].
وإن كانوا يقولون بأن أهل الدين رجعيون متخلفون أو مجرمون حاقدون؛ فإن هذا القول قول متهالك لا تكلف نفسك عناء الرد عليه.
إنْ كان جرماً حبُّ ديـن محمد *** فلتشــــهد الدنيا بأني مجرم
عصم الله قلوبنا من الشهوات، ومنع الله عقولنا عن الشبهات.
كلما عظُم الأمر وعلا شأنه كثُر حاسدوه، واشتدت شبهات المغرضين حوله؛ ولأن دين الله عظيم، ولأنه أغلى ما نملك، فإنه ما تُرك جانب من جوانبه إلا وتعرض لشبهة وتشكيك، وانظر إن شئت في كتاب (شبهات حول الاسلام) لمحمد قطب -رحمه الله-، إذ حشد لك أكثر من خمسة عشرة شبهة وردها رداً مفصلاً.
ومن الشبهات الخطيرة، ما يثيره الشيعة الروافض حول رموز الإسلام العظام، فهم الذين طعنوا في خلافة أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، ولقد سمعت بأمِّ أذنيّ واحداً منهم يوصي أصحابه عند زيارة قبر عمر، أن لا يقولوا: السلام عليك يا أمير المؤمنين، وإنما يقولوا: السماد عليك يا خبيث المؤمنين، وهم الذين سبّوا عائشة وأخرجوها من الملة، وما سلم منهم راوية الإسلام أبو هريرة، فعليهم من الله ما يستحقون، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ولا يجوز الاستهانة بردّ الشبهات عن الصحابة الكرام، لأنه يوشك من طعن في الناقلة أن يطعن في المنقول، ولست في معرِض الردِّ عليهم، بقدر ما أردتُ أن نتعلم: أن من فقه رد الشبهات عدم الاستهانة بها كبرت أم صغرت.
إن ضعفك في ردّ الشبهة يوقعك في شبهة أخرى، كأن تردَّ على من يقول: بأن الإسلام انتشر بالسيف، بأن تنفي ذلك وتقول: إن الجهاد إنما شُرع للدفاع عن النفس فقط، وهذا يوقعنا في شُبهة أخرى، شبهة: إن الإسلام دين ضعيف متماوت، ينتظر حتى يؤذى ليردَّ عن نفسه.
والحقُّ أن الجهاد إنما شُرع لغايات عديدة، منها:
الدفع عن النفس، وهذا لا شك فيه؛ (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)[الحج: 39].
ومنها: تأديب المتطاولين، حتى وإن كانوا في عُقر دارهم، وما أرض غزوة مؤتة عنا ببعيدة، وهي خير شاهد على ذلك، إذ سيَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل لتأديب ملك الغساسنة الذي قتل رسول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفرقً كبير بين الدفاع عن النفس، وبين التأديب كما تعلمون.
ومن مبررات الجهاد كذلك نشر الإسلام، ولا نستحي أن نقول ذلك، يصدق هذا المبرر قوله صلى الله عليه وسلم فيما روى البخاري عنه أنه قال: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك: عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقّ الاسلام، وحسابهم على الله. .. لا نستحي إذ ما قلنا: أن الجهاد هو سيف الإسلام المُصلت على رؤوس الطواغيت الذين يمنعون أتباعهم من الرجوع إلى الفطرة السليمة، وما يقول عاقل بأن الجهاد حرب مفتوحة على العالم كله، ولكنه لتحرير الشعوب الكافرة من أنظمتها العفنة، تلك الأنظمة التي حكمت على شعوبها بالموت على الكفر، فشعبُ أمريكا مثلا، محكومٌ بإدارة فرعون، وإن من حقّ هذا الشعب على الأمة المسلمة أن يخلِّصه بعد استنفاد الحوار من كل حاجب ومانع عن الإسلام.
والشبهات حول الجهاد كثيرة كثيرة، والله المستعان في ردِّها إلى نحور قائليها.
وختاماً: إن أعظم ردٍّ على الشبهات التي تُثار حول الإسلام، وأنه دين مثاليٌ معقّد لا يصلح لحياة البشر، أن تخرِّج الأمة جيلاً قرآنياً ربانياً، يبرهن للعالم أن دين الله -تعالى- يسيرٌ على من يسَّره الله عليه.
إن الرد على هذه الشبهة، إنما يكون بأن نتمثل الإسلام حيَّاً في واقعنا، بأن نوجد الحاكم المسلم، والتاجر المسلم، والصانع المسلم، وهكذا.
ومن المفارقات العجيبة في زماننا، أنك تجد في المسلمين من يبذل أقصى طاقته في الردّ عن نفسه ودفع الشبهات التي تثار حول شخصه الكريم، ولا يتكلف مطلقا، عناء الدفع عن دين الله -تعالى-.
أما لله والإســـــــــــلام حقٌّ *** يُدافع عنه شبَّانٌ وشـــــــــيب
إن من المفارقات العجيبة، أن نأتي لنفي شبهة التزمُّت وشبهة التعصب والتعقيد عن ديننا، بأن نتحلل وننتكس ونرخص المحرمات ونميع الشريعة، كل ذلك حتى لا يقال: هذا مسلم معقّد متزمّت .. فليقولوا ما يقولون، إن الله مخرجٌ ما يكتمون، وفاضحٌ ما يمكرون.
ألا واعلموا أن صاحب الشبهة مسكون بداء الكبر والتردد، يلزم معه النَفَس الطويل؛ (لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[التوبة: 110].
ربنا اربط على قلوبنا رباط التقوى، واربط على عقولنا فلا نضلُّ ولا نشقى، واربط على أسماعنا وأبصارنا فلا نشغلهما إلا بما يرضيك عنّا.
المصدر/ رابط علماء السوريين