استدرارُ القطرْ

محمد ابراهيم السبر
1444/04/08 - 2022/11/02 19:39PM

استدرارُ القطر

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، وأشهد أن محمدًا عبده المصطفى، ونبيُّه المرتضى، ورسوله الذي لا ينطق عن الهوى، إنْ هو إلا وحي إلا يوحى.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله في السر والنجوى؛ فهي المخرج من كل ضيق وبلوى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3].

عباد الله، إن الله تعالى رحمن رحيم، ومن صور رحمته التي يرحم بها العباد والبلاد، والحي والحيوان والجماد، وتطيب بها الحياة: إنزالُ الغيث؛ ولذلك سماه الله في كتابه رحمة فقال: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ﴾ [الفرقان: 48]، وقال: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [الشورى: 28]، وقال: ﴿ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ [الروم: 50].

إنها نعمةٌ عظمى، ومنةٌ جلى يتفضل بها سبحانه على عباده، تهبهم الفرحةَ والاستبشار، ﴿ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [الروم: 48].

إن من حكمة الله تعالى وعلمه بعباده أن يقدُرَ عليهم القطر والرزق من السماء؛ لحكمة يعلمها فهو الحكيم العليم، ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ [الشورى: 27]، فينزل الله المطر لأمَّةٍ ويحجبه عن أمةٍ أخرى، وينزله على أرضٍ ويمنعه عن أخرى، قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما: "ليس عامٌ بأكثر مطرًا من عام، ولكن الله يصرفه أين شاء"، ثم قرأ الآية: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ﴾ [الفرقان: 50].

غير أن الغيث قد يتأخر نزوله، لأسباب يجنيها الناسُ بأيديهم، ويقارفونها بِفِعالهم، فيكون ذلك جزاء لهم على ضعف إيمانهم، وتنبيهًا لهم على بُعدِهم عن ربهم، وذلك بإظهار التضرع، والانكسار بين يديه؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 42، 43]، ويرسل الله هذا العذابَ على قوم فرعون تذكيرًا لهم؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 130]، والنبي صلى الله عليه وسلم "لَمَّا رَأَى قُرَيْشًا اسْتَعْصَوْا عليه، فَقالَ: ((اللَّهُمَّ أعِنِّي عليهم بسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ))، فأخَذَتْهُمُ السَّنَةُ حتَّى حَصَّتْ كُلَّ شيءٍ، حتَّى أكَلُوا العِظَامَ والجُلُودَ، فَقالَ أحَدُهُمْ: حتَّى أكَلُوا الجُلُودَ والمَيْتَةَ، وجَعَلَ يَخْرُجُ مِنَ الأرْضِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ.."؛ رواه البخاري.

إن استدرار الغيث واستمطار القطر لا يكون إلا بأسباب ووسائلَ شرَعَها الله لعباده وهو العليم الخبير ليتقربوا إليه، بإظهار الخضوع واللَّجَأِ إلى رحمته وعفوه.

إن قوة الصلة بالله واللجوء والانكسار إليه في السراء سببٌ في نزول السراء، ودفع الضر والبلاء، والله تعالى وهو العليم الخبير بما يُصلِح عباده شرع السعيَ في استجلاب الغيث واستدرار المطر بوسائلَ كثيرة، منها التمسك بدينه، والإقلاع عن معصيته؛ قال جل وعلا: ﴿ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ﴾ [الجن: 16]، فالاستقامة على طاعة الله أعظمُ باب لاستدرار القطر من السماء.

وتحقيق الإيمان والتقوى؛ فتقوى الله تجلبُ كل خير، ويستدفع بها كل شر، قال جل في علاه: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 96]، وقال سبحانه: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾ [المائدة: 66].

وكثرة التوبة والاستغفار موجبةٌ لعطاء المغيث عز وجل، فهذا نوحٌ أول رسولٍ أرسله الله تعالى إلى أهل الأرض يقول في دعوته لقومه: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ﴾ [نوح: 10، 11]؛ أي: مطرًا متتابعًا يروي اللهُ تعالى به الشِّعابَ والوِهاد، ويحيي به العبادَ والبلاد ﴿ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 12].

إن مما يُستجلب به الغيث - بل مما يُستجلب به كلُّ خير يرجوه الإنسان - أن يحسن بقلبه وقوله وجوارحه، فالإحسان من موجبات عطاء المعطي عز وجل؛ ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن: 60]، ﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 56].

وخلق الرحمة والتراحم بين الخلق سببٌ لنزول الغيث والرحمات، والراحمون يرحمهم الرحمن، فبادروا إلى سائر أوجه الإحسان ولو بالشيء اليسير، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة)).

ومن أسباب نزول الغيث حسْنُ الظن بالله وتعظيمُ الرجاء فيه؛ قال تعالى في الحديث القدسي: ((أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني)).

ومن أسباب نزول الغيث مداومةُ الدعاء بإخلاص القلب لله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، وليس شيءٌ أكرم على الله من الدعاء، وما داوم مسلمٌ على دعاء ربِّه إلا رأى بشائر الإجابة في الأمور؛ فدُوموا على الدعاء؛ فنِعْمَ الوسيلة إلى ما عند الله عز وجل من الخير ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ﴾ [النمل: 62].

وإن من أسباب استدرار القطر شُكْرَ النعم، فالنعم لا تدوم إلا بالشكر؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].

ومما يجلب الغيثَ الحذرُ من موجبات حبسه، من الوقوع في الذنوب والمعاصي؛ فهي شؤم ووبال، ومسخطة للجبار، ومبدِّدة لكل رخاء واستقرار، وسبب للآفات ومَحْق البركات، ولا يقتصر أثرها على أصحابها، بل يتعداهم إلى غيرهم، فكثرة الخبث سبب للهلاك؛ قالت أم المؤمنين زينب للنبي صلى الله عليه وسلم: "أنَهْلِكُ وفينا الصالحون؟"، قال: ((نعم، إذا كثُر الخبث))؛ متفق عليه. فإذا كثُرَ الخبَثُ عمَّ العِقابُ الصَّالحَ والطَّالحَ.
أيضمن لي فتى تركَ المعاصي   وَأَرْهَنُهُ الكفالةَ بالخلاصِ 
أطاع اللهَ قومٌ فاستراحوا    ولم يتجرعوا غُصَصَ المعاصي 

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيه من الذكر والحكمة، أقول هذا القولَ، وأستغفِر الله لي ولكم

ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنب فاستغفروه، إنَّه هو الغفور الرحيم.

‏ الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد، فاتقوا الله عباد الله، واستغفروه؛ إن ربي رحيمٌ ودود، ﴿ فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ﴾ [هود: 61].

اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، ولا تهلكنا بالسنين.

اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا هنيئًا مريئًا غدقًا مجلِّلًا سحًّا طبقًا نافعًا غير ضار عاجلًا غير آجل، اللهم لتُحييَ به البلاد، وتَسْقِيَ به العباد، ولِتَجْعَلَه بلاغًا للحاضر والباد.

اللهم ادفع عنا الغلاء والبلاء والوباء، والربا والزلازل والمحن، وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين، يا رب العالمين.

اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، ووفِّق ولي أمرنا ونائبه لكل خير.

ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميدٌ مجيد.

المشاهدات 1049 | التعليقات 0