استحضار مناجاة الله في الصلاة (1)
محمد بن عبدالله التميمي
الخطبة الأولى
الحمد لله الوليِّ الحميد، المبدئِ المعيد، الفعالِ لما يريد، أحمده حمد المخلصين، وأتوَكَّلُ عليه توكُّلَ الموقنين، وأستشهدُ به وأستعينُه استعانةَ المُذْعِنِين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له غفارُ الذنوب، وستارُ العيوب، وقابلُ التوب ممن يتوب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه سراجًا منيرًا، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، ونَهَجَ شرائعَ الملة، وعَبَدَ ربَّه حتى أتاه اليقين صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله.. فإنَّ مَن صابر الهوى رَبِحَ واستفاد، ومن غَفَلَ فإنه المراد، السعيدُ من اعتبر، وتفكَّر في العواقب ونظر، فلا نغفل عن حال السلفِ الصالحِ وما نالوا، فنميل عن التقوى وما مالوا، ما أطيبَ ما أدركوا في المناجاة، وما أقربَهم من طريق النجاة، قد نال كلٌّ منهم ما رجاه، فلهم عنده أعظم قدرٌ وجَاه.
عباد الله.. إن في الفرائض والسنن من المغفرة والرحمة والرِّقَّةِ والطهارةِ والخشوع، وإجابة الدعوة، وحلاوة المناجاة، ما لا يُدرِكُ مداه إلا من اصطفاه الله واجتباه، ونبينا محمد ‘ قد بلغ في هذا الباب مبلغا بعيدًا مداه، فهو إمام هؤلاء وأكملُهم، ولهذا لما عُرج به إلى السماوات، وعاين ما هناك من الآيات، وأُوحي إِلَيْهِ مَا أُوحِي من أنواع المناجاة، وأكرم الله عباده بالمناجاة في الصلوات، كيفما تقلبت بهم الحالات، في الجماعات والخلوات، وتلطف بالترغيب بما في ذلك من جزيل الهبات، فسبحان اللهِ ما أعظمَ شأنه وأقوى سلطانه، وأتَمَّ لطفه وأعمَّ إحسانه.
عباد الله.. ما منَّا إلا مُناجٍ ربَّه فِي كل صلاة، فعلى العبد أن يجتهد في عَقْلِ ما يقول ويفعل، وما يكون منه قراءة وذكر ودعاء فيتدبَّر، ويَعلم أنه مناجٍ ربه تبارك وتعالى كأنه يراه ويستحضر، فإن المصلي إنما يناجي ربه، فلينظر بما يناجيه، في الصحيحين من حديث أنس بن مالك ¢ أنه ‘ قال: "إن المؤمنَ إذا كان في الصلاةِ، فإنما يُناجي ربَّه" والصلاة محكُّ ميزانِ الإيمان، بها يوزن إيمانُ الرجل، ويتحقق هو حالَه ومقامَه ومقدارَ قربه من الله، ولا شيءَ أقرَّ لعينِ العبدِ المؤمنِ، ولا ألذَّ لقلبه ولا أنعمَ لعيشه منها، فإذا قام إلى الصلاة هربَ من سوى الله إليه، وأوى عنده واطمأن بذكره، كأنه في ضيقٍ وغمٍّ حتى تحضرَ الصلاة، فيجدُ قلبَه قد انفسحَ وانشرح واستراح، كما قال النبي ‘ لبلال¢: "يا بلال، أرحنا بالصلاة" وقال ‘ : "وجُعلت قرة عيني في الصلاة" ومن كانَ قرةُ عينِه في الصلاة فلا شيءَ أحبَّ إليه ولا أنعمَ عنده منها، ويودُّ أَنْ لَوْ قَطَعَ عُمُرَهُ بها غيرَ مشتغل بغيرها، وإنما يُسلِّي نفسه إذا فارقها بأن سيعودُ إليها، فهو دائماً يثوبُ إليها ولا يَقضي وطرًا منها، وتلك واللهِ الكرامة، قال بكرُ المزنيُّ رحمه الله: (مَن مِثْلَكَ يا ابنَ آدم خُلِّيَ بينك وبين المحراب وبين الماء، كلما شئت دخلت على الله عز وجل، وليس بينك وبينه تُرجُمان) .
عباد الله.. لما كانت الصلاة مناجاة فإنه لا يصح أن تكون مع الغفلة، فَفَتِّش عبدَ الله على القلبِ الضائع قبل الشروع في الصلاة، فحضور القلب -كما يقول ابن الجوزي- أولُ منزلٍ من منازل الصلاة، فإذا نزلته انتقلت إلى بادية المعنى، فإذا رحلت عنها أنخت بباب المناجاة، فكان أول قِرى ضيفِ اليقظة كشفُ الحجاب لعينِ القلب، فكيف يطمع في دخول مكة من لا خرج إلى البادية بَعْد، وقد تبعثُ قلبك في كل وادٍ فربما تفجأك الصلاة وليس قلبك عندك فتدخل في الصلاة بغير قلب.
وحضور القلب -عباد الله- سببه الهمة، فإنَّ القلبَ تابعٌ للهمةِ فلا يحضر إلا فيما يَهُمُّ العبد، فمهما أهمَّ العبدَ أمرٌ حَضَرَ القلبُ فيه شاء أم أبى، وهكذا إذا حضر بين يدي بعض الأكابر ممن لا يقدر على الضر والنفع، فإذا كان القلب لا يحضر عند المناجاة مع ملك الملوك الذي بيده الملك والملكوت والنفع والضر فلا تَظُنَّنَّ أنَّ له سببًا سوى ضعفِ الإيمان فاجتهد في تقوية الإيمان، ولا بد أن يكونَ المؤمنُ معظِّمًا اللهَ عز وجل وخائفًا منه وراجيًا له ومُسْتَحْيِيًا مِن تقصيره، فلا ينفكُّ عن استحضار هذا، ويُعينه على ذلك أن يَسْتَعِدَّ له قبلَ التحريم بأنْ يَذْكُرَ الآخرةَ وخَطَرَ المـُقام بين يدي الله سبحانه، ويُفَرّغَ قلبَه قبل التحريم بالصلاة عما يُهِمُّه فلا يَتْرُكْ لنفسه شُغُلًا يَلتفتُ إليه خاطره .
عباد الله.. على كل أحد منا إذا فرغ من وضوئه وأقبل على الصلاة أن يخطر بباله أنه طَهَّر ظاهره وهو موضع نظر الخلق، فعليه أن يستحيَ من مناجاة الله تعالى من غير تطهير قلبه وهو موضع نظر الرب، ثم إنه إذا استشعر بقلبه أن اللهَ أكبرُ من كل ما يخطر بالبال استحيا منه أن يَشغلَ قلبُه في الصلاة بغيره فلا يكون مُوفِّيا لمعنى (اللهُ أكبر) ولا مؤدِّيًا لحقِّ هذا اللفظ، وليس للعبد من صلاته إلا ما عَقَلَ منها وحَضَرَهُ بقلبه، فقبيحٌ بالعبد أنْ يقولَ بلسانه (اللهُ أكبر) ولا يحضر قلبه بين يدي ربه في شيء منها، فهذا الباب الذي يدخل منه المصلى وهو التحريم، وأما الباب الذي يخرج منه فهو باب السلام المتضمن أحد الأسماء الحسنى وهو اسم الله (السلام) وهو مناسبٌ لانصراف المصلي من بين يدي الله تعالى، فإن المصلي ما دام في صلاته بين يدي ربه فهو في حِماه، لا يستطيع أحد أنْ يَخْفِرَه، فهو في حمًى من جميع الآفات والشرور {فالله خيرٌ حافظًا وهو أرحم الراحمين} وفي الحديث القدسي قال الله تعالى: "فإذا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ".
بارك الله لي ولكم في الكتاب العظيم، وسنةِ نبينا الكريم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا مزيدًا، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله في وقوفكم بين يدي الله، وأَوْلَى ذلك بالوصية من تَفَوَّه به ووصف بعضَ معناه، وبعضٌ آخر في مقام آخر يُتبع إياه، وإن ذلك لبابِ المناجاة يُدني، وللقلب من طَيِّبِ نعيم أهل الجنة يُذكي، قال بعض العلماء: (ليس في الدنيا وقتٌ يشبه نعيمَ أهلِ الجنة إلا ما يجده أهلُ التملّق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجاة).
المرفقات
1693381661_خطبة استحضار مناجاة الله في الصلاة 1.docx
1693381661_خطبة استحضار مناجاة الله في الصلاة 1.pdf