استجيبوا لله وللرسول
موسى بن عبدالله الموسى
استجيبوا لله وللرسول
أيُّها المؤمنون: خلق الله عباده، وشرّع لهم شرائع تقوّم لهم حياتهم، وأرسل إليهم رسلًا مبشرين ومنذرين، وأوجب طاعتهم واتباع نهجهم، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64].
{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80].
فكل خير في الأرض فإنما سببه طاعة الله ورسوله.
قال الإمام ابن القيم –رحمه الله تعالى-: "ومن تدبر العالم والشرور الواقعة فيه علم أن كل شر في العالم سببه مخالفة الرسول والخروج عن طاعته" انتهى كلامه.
وعندما امتدح الله عباده المؤمنين قال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51].
وحثَّ الله عباده فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
قال الإمام ابن تيمية –رحمه الله تعالى-: "وكلما كان الرجل أتبع لمحمد -صلى الله عليه وسلم- كان أعظم توحيدًا وإخلاصًا له في الدين، وإذا بعُد عن متابعته نقص من دينه بحسب ذلك".
أيُّها المؤمنون: إن المهتدي حقًا لا يجد بدًا ولا ترددًا بطاعة لربه ورسوله، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
حين أثنى الله عن خليله إسماعيل قال: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)} [البقرة: 130- 131].
ولما رأى في المنام أنه يذبح ابنه، ورؤيا الأنبياء حق، {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]، ولما قال عيسى ابن مريم –عليه السلام- للحواريين: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52].
وأما صحابة محمد -صلى الله عليه وسلم- ورضي الله عنهم أجمعين فكانوا في ذلك مثلًا عظيمًا حينما ندب النبي -صلى الله عليه وسلم- للصدقة، أنفق عمر –رضي الله عنه- نصف ماله، وأنفق أبو بكر –رضي الله عنه- ماله كله، ولما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من جهز جيش العسرة فله الجنة»()، بادر بتجهيزه عثمان –رضي الله عنه-.
وحين أنزل الله: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ –رضي الله عنه- إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ، أخرجه البخاري().
وفي الصحيحين: أن ابن عمر –رضي الله عنه- رأى في المنام رؤيا - وكان صغيرًا آنذاك-، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم- «نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ»، فَكَانَ لاَ يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا().
ولما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ»، قَالَ عُمَرُ: «فَوَاللهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا ذَاكِرًا، وَلَا آثِرًا»() رواه مسلم.
وفي يوم خيبر وكانوا في مجاعة، فطبخوا حمرًا أهلية، وكانت مباحة أنذاك، فنادى منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، فَإِنَّهَا رِجْسٌ» قال أنس: فَأُكْفِئَتْ القُدُورُ، وَإِنَّهَا لَتَفُورُ بِاللَّحْمِ(). متفق عليه.
وفي الصحيحين عن أبي النعمان –رضي الله عنه- قال: قَالَ: كُنْتُ سَاقِيَ القَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ، فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَانْظُرْ مَا هَذَا الصَّوْتُ، قَالَ: فَخَرَجْتُ فَقُلْتُ: هَذَا مُنَادٍ يُنَادِي: «أَلاَ إِنَّ الخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ»، فَقَالَ لِي: اذْهَبْ فَأَهْرِقْهَا، قَالَ: فَجَرَتْ فِي سِكَكِ المَدِينَةِ()، وفي رواية: "فَمَا رَاجَعُوهَا، وَلَا سَأَلُوا عَنْهَا بَعْدَ خَبَرِ الرَّجُلِ"().
وروى أبو داود في سننه عن جابر بن سُليم –رضي الله عنه- قال: أتيت النبي –صلى الله عليه وسلم-، فقلت: يا رسول الله إني من أهل البادية، وفي جفائهم فأوصني، قال: «ولا تسبن أحدًا»، قال: فما سببت بعد قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدًا، ولا شاة، ولا بعيرًا().
وفي صحيح البخاري عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: "يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ المُهَاجِرَاتِ الأُوَلَ، لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا"().
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأنفال:20- 21]، بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة، أقول ما سمعتم وأستغفر الله يغفر لي ولكم.
الخطبة الثانية
أيّها المؤمنون: إن طاعة الله وطاعة رسوله، والانقياد لأمرهما ليس للمسلم فيه خيار، وإنما بنحو ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ»().
الشريعة كلها لا تأمر إلا بما فيه مصلحة، ولا تنهى إلا عما فيه مفسدة، وإنك لتعجب من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد أرهقتهم جراح أحد، وبعد أن مضى يومًا واحدًا بعد غزوة أحد أذن مؤذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالنفير لإرهاب العدو، وألا يخرج إلا من حضر أحداً، لم يجدوا بدًا ولا عذرًا للتخلف، فانتدب النبي –صلى الله عليه وسلم- منهم سبعين رجلًا للحاق بالمشركين بحمراء الأسد، فأنزل الله في شأنهم: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)} [آل عمران: 172-174].
أيُّها المؤمنون: إن هذا الامتثال هو مقتضى العبودية والاستسلام، وبه الخيرة والفلاح، وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود –رضي الله عنه- قال: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَسَى أَنْ لاَ يَعْزِمَ عَلَيْنَا فِي أَمْرٍ إِلَّا مَرَّةً حَتَّى نَفْعَلَهُ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَنْ يَزَالَ بِخَيْرٍ مَا اتَّقَى اللَّهَ»()، فاللهم اشرح صدورنا للانقياد لأمرك وأمر رسولك، وارزقنا اتباع سنته والاهتداء بهديه.