استثمار الوقت في ظل الإجازة الدراسية

أسامة محمد موسى
1438/04/14 - 2017/01/12 12:26PM

أيها الإخوة الفضلاء..
استثمار الوقت في ظل الإجازة الدراسية .. هذا هو موضوعُ حديثي معكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وأسأل اللهَ التوفيق والهدى والسداد..
أحبتي في الله .. مع بدء الإجازة الدراسية القصيرة للمدارس والجامعات لا بد لنا من الحديث عن أهمية الوقت في حياة المسلم الجاد، المسلم الذي يريدُ أن يكونَ نصاً لا هامشاً، ورقماً صعباً لا صفراً، وناجحاً فائزاً لا خاسراً، وذلك في دنياهُ وآخرته ..
ديننا أيها المسلمون يأمرُ باغتنامِ الأوقات واستثمارها، وليس أعظمُ من أن يقسمَ الله بالوقتِ كثيراً في كتابه، فقال: "والعصر*إن الإنسان لفي خُسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر"، وقال سبحانه: "والضحى" ، "والفجر"، "والليل إذا يغشى" وهذا يدلّ على شرَف الوقت وعظمته، وأن المطلوبَ من المسلم أن يكون جاداً في حياته لا هازلاً، يقدر قيمة الوقت.
ومع بدايةِ الإجازة نرى كثيراً من الشبابِ الذين هم روحُ الأمة وعمادُها، وسرّ نهضتها وتقدمها، نرى كثيراً منهم يبحثون عن إمضاء الأوقات، والبحث عن أماكن السهرات، وكيف أقضي وقتي؟ يعاملُ البعضُ وقتَه وكأنه عدوٌ يريدُ أن يتخلص منه، ولا يعلمُ أنه يفلتُ من يديه كنزاً ثميناً ودُراً وياقوتاً لو استثمره واستغله، فالوقتُ نعمةٌ ظُلمَ فيها كثيرٌ من الناس، وفرط فيها كثيرٌ من الناس، يقول خيرُ الناس: "نِعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من النَّاسِ : الصِّحَّةُ والفراغُ" لا يكونُ عاقلاً من ظلم نفسَه في ضياعِ أوقاته وهدرِ أيامه وأعمارِه، واعلم يا عبدالله أنك عندما تفكرُ بماذا تقضي وقتك فإنك الآن أمام منجمٍ للربح العظيم وصناعة النجاح أو أنك أمامَ جبالٍ من الأوزار والسيئات أو على الأقل أمام ضياعٍ وفوات ..
انظروا إلى من استثمروا أوقاتهم فيما يفيدُهم كيفَ خلدَهم لنا التاريخُ إلى يومِنا هذا، فنذكُرُ صحابةَ رسول الله وأفعالهم ، ونذكرُ تراثَ الأئمةِ وعلمِهم، ونذكرُ بطولاتِ الفاتحين ومغازيهم، وما ذلك إلا لأنهم عرفوا قيمة الوقت، وبذلوا الغالي والنفيس لإعمار أوقاتهم فيما يفيدهم في دينهم ودنياهم، وإلا ففي مجتمعاتِ أولئك الأبطال والعلماء كثيرٌ من العامة والبطالين وغيرهم ولم تصلنا آثارهم، لهذا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "لَقَدْ أَدْرَكْتُ أَقْوَامَاً كَانُوا أَشَدَّ حِرْصَاً عَلَى أَوْقَاتِهِمْ مِنْ حِرْصِكُمْ عَلَى دَرَاهِمِكُمْ وَدَنَانِيرِكُمْ" ! يقصد الصحابةَ الأبرار، وقال: يحيى بن معاذ: " إضاعةُ الوقت أشدُّ منَ الموت؛ لأنَّ إضاعةَ الوقت انقطاعٌ عن الحقّ، والموتُ انقطاعٌ عن الخلق" لا تخسر عُمُرك في إضاعةِ وقتك، قال الحسن: "يا ابن آدم، إنَّما أنت أيَّام، كلَّما ذهب يومٌ ذهب بعضُك" ............ إنا لنفرحُ بالأيامِ نقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجلِ
أنصِت إلى وصيةِ المصطفى ﷺ لابن عباس حيث قال: "اغْتَنِمْ خَمْسًا قبلَ خَمْسٍ : شَبابَكَ قبلَ هِرَمِكَ ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ ، وغِناكَ قبلَ فَقْرِكَ ، وفَرَاغَكَ قبلَ شُغْلِكَ ، وحَياتَكَ قبلَ مَوْتِكَ " كلنا يحفظُ هذه الوصية، لكن أين تطبيقُها؟ واللهِ لولا أن في اغتنام هذه الخمس فلاحٌ ونجاحٌ وربح عظيم لم يوصنا نبيُّنا ﷺ بها، فالأوقاتُ هي الأعمار، وإذا توفرت الآن في الإجازة فإنها لن تعود، فقد ينقضي الأجل بعد هذه النعمة، وقد تشغل بعد ذلك فلا يأتي عليك إجازة ولا فراغ، "احرص على ما ينفعُك واستعِن بالله ولا تعجز" بادر الأوقاتَ بقراءة نافعة في تراثِنا العظيم، في سيرةِ خير المرسلين، أو في بطولاتِ الفاتحين، أو في فقهِ عبادتك لربك، أو حتى في مجال تخصصك، خصص وقتاً لتنميةِ قدراتك في مجال تخصصك الدنيوي فالمؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.. كن رمزاً في مجالِك، وارفع رأسك عالياً فالإبداعُ ليس له سقف، وستجدُ نتيجة اغتنام وقتِك تميزاً وتقدماً في حياتِك ومرضاةً لربك في آخرتك ..
كيفَ يضيعُ وقتَه من علمَ أن الله سيسألٌه عنه؟ سنسألُ نحن عن أوقاتنا؟ نعم! فعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: "لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ : عن عُمرِهِ فيمَ أفناهُ ؟ وعن علمِهِ ماذا عمِلَ بهِ ؟ وعن مالِهِ مِن أينَ اكتسبَهُ ، وفيمَ أنفقَهُ ؟ وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ ؟" أعدّ للسؤالِ جواباً يا عبدالله..
واسمعوا معي إلى هذه النَّصيحة الغالية من رجل عرف قيمة الوقت، وأدركَ أهميته؛ فقد سَأل الفُضيل بن عِياض - رحمه الله - رجلاً، فقال له: كم عمرك؟ فقال الرجل: ستُّون سنة، فقال الفضيل: فأنت منذُ ستين سنة تسير إلى ربكَ، تُوشك أن تصل، فقال الرجل: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، فقال الفضيل: هل تعرف معناها؟ قال: نعم، معناها أني لله عبدٌ وأني إلى الله راجع، فقال الفضيل: مَن عرف أنَّهُ عبد لله، وأنَّه راجعٌ إليه، فليعلم أنهُ موقوفٌ ومسؤولٌ، فليعدَّ للسؤالِ جوابًا، فقال الرجلُ: ما الحيلةُ؟ فقال الفضيل: يسيرة، تُحسنُ في ما بقيَ، يُغفر لك ما مضى، فإنَّكَ إن أسأتَ فيما بقيَ، أُخذتَ بما مضى وما بقي.
يقول الحسن البصري –رحمه الله-: (ما من يوم ينشق فجره إلا ويُنادى: يا ابن آدم أنا خَلْقٌ جديد، وعلى عملك شهيد، فتزوّد منى فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة) لا تستهِن بأي يوم، ولا بأي ساعة، كن حريصاً على الاستفادةِ من وقتِك كله كما تحرص على الاستفادةِ من مالك كله بل أكثر، ليكُن شعارُك: إذا مر يوم ولم أقتبس هدىً، ولم أستفد علماً فما ذاك من عُمري!
في يوم من الأيام مَرَّ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ رَحِمَهُ اللهُ عَلَى مَجْمُوعَةٍ مِنَ الْكَسَالَى وَالْبَطَّالِينَ وَهُمْ جُلُوسٌ يَتَحَدَّثُونَ ، فَقَالُوا لَهُ: تَعَالَ اجْلِسْ مَعَنَا ! فَقَالَ لَهُمْ: أَمْسِكُوا الشَّمْسَ عَنَ الْمَسِيرِ حَتَّى أُكَلِّمَكُمْ .. أي أوقفوا الوقتَ لأنه أثمنُ وأعزّ من أن يضيعَ في مجلسِكُم
وهذا الإمام ابن الجوزي رحمه الله تكلم عن بعض البطالين الذين يضيعون وقته وأنه حرص على التخلص من صحبتهم إلا أنه لم يستطع التخلص من بعضهم الذين هم أقارب وأصهار وجيران ولهم عليه حق، فماذا فعل عند مجالستهم ؟ قال: (فجعلت لأجل مجالستهم الاشتغال بأشياء لا تحتاج إلى ذهن لهم، قال فجعلت بري الأقلام، وخياطة الكتب، وضم الأوراق، وتقطيعها، وتبيضها) لأن هذه الأمور لا تحتاج إلى ذهن صافٍ، إنما يستطيع أن يعمل بها وهو يتحدث معهم. استثماراً لوقته، أرأيتم كيف كانت حياةُ العظماء مع أوقاتهم؟ لو أنهم أشغلوها في سفاسف الأمور لما وصلَت إلينا علومُهم، فترحمنا عليهم بعد هذه القرون.
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "ما ندمتُ على شيءٍ ندمي على يومٍ غرَبَت فيه شمسُهُ، نقص فيه أجلي، ولم يزدَدْ فيه عملي".
وَالوَقْتُ أَنْفَسُ مَا عُنِيتَ بِحِفْظِهِ وَأَرَاهُ أَسْهَلَ مَا عَلَيْكَ يَضِيعُ
ما أجملَ توجيهاتِ نبينا ﷺ في الحرص على الانتفاع من الوقت حتى في الأمور الدنيوية، فهو الذي وجّهنا فقال: "إن قامتِ الساعةُ و في يدِ أحدِكم فسيلةً ، فإن استطاعَ أن لا تقومَ حتى يغرِسَها فليغرِسْها"
فاللهَ الله في مواسمِ العُمر، والبدارَ البدار قبلَ الفوات، واستشهدوا العلم، واستدلوا الحكمة، ونافسُوا الزمان، وناقِشُوا النفوس، قبل الندمِ على لحظات الصحة، ودقائق الفراغ، وأيامِ الشباب، فيكونُ الحالُ كمن قال:
بَكَيْتُ عَلَى الشَّبَابِ بِدَمْعِ عَيْنِي فَلَمْ يُفِدِ البُكَاءُ وَلاَ النَّحِيبُ
أَلا لَيْتَ الشَّبَابَ يَعُودُ يَوْمًا فَأُخْبِرَهُ بِمَا فَعَلَ المَشِيبُ
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يعيننا على استثمار أوقاتنا، وأسأل الله أن يعمرها بما يقربنا إليه، أقول ما تسمعون وأستغفر الله
الخطبة الثانية:
الحمد لله .... أما بعد:
يقول ابن القيم رحمه الله: (السّنة شَجَرَة والشهور فروعها وَالْأَيَّام أَغْصَانهَا والساعات أوراقها، والأنفاس ثَمَرهَا فَمن كَانَت أنفاسه فِي طَاعَة فثمرة شجرته طيبَة وَمن كَانَت فِي مَعْصِيّة فثمرته حنظل(
وإننا –يا عباد الله- وإن كانَ حالُ الكثير من شبابِنا في اللهو والغفلة وضياعِ الأوقاتِ والبحثِ عن الملهيات غنيٌ عن الشرح والبيان، لكنّه في المقابلِ هناكَ نماذجُ ممّن عرفوا قيمةَ الوقت فاستغلوه فيما ينفعُهم ويزيدُ من أعمارهم، كم سرّني أحدُ الشباب الجامعيين الذي كان يعملُ بعدَ دراسته في الجامعة في السوق ليؤمن مصاريف دراسته، فها هو قد تخرج من الجامعة وعمل في وظيفة مرموقة، ولو أنه استسلم للحال المادي الذي لا يساعده على الدراسة لبقي على ما كان عليه.. والحمدُ لله أن مثل هذا الشاب كثيرٌ من الطموحين الذين استغلوا أوقاتهم فوجدوا ثمرة ذلك ..
وهذا أحدُ الشباب الذي كان لا يذهبُ إلى الجامعةِ إلا وبيده كتابٌ للمطالعة الخارجية بين المحاضرات وفي أوقات الراحة وفي الطريق، فكانت الثمرة أن قرأ أكثر من تسعين كتاباً في هذه الأوقاتِ المهدورة غالباً .. وهكذا أيها الأحبة كم لدينا من أوقاتِ انتظارٍ في مراجعات المؤسسات الرسمية والخاصة، والمستشفيات، وغيرها .. لو أن أحدَنا فتح جواله وقرأ من كتابِ الله أجزمُ أنه سيختمُ قراءته في أقل من شهر في الأوقاتِ التي لا يحسبُ لها حساباً في العادة، ولو أن المكان لم يكن مناسباً لتلاوة أو مطالعة واستغله في ذكر الله عز وجلّ فتخيلوا كم سيكون المرء متصلاً بربه .. هذا في الأوقاتِ الثانوية، فكيف إن أتى على الشابِ إجازةٌ لأيام وأسابيع؟ وكيف إن فرغ الموظفُ نفسه لاستغلالِه في بناء عقله وفكره؟
يقول شوقي: دقاتُ قلبِ المرءِ قائلةٌ له إن الحياةَ دقائقٌ وثواني
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكرُ للإنسانِ عمرٌ ثاني
فلتحسن أخي المسلم استغلال وقتك ولتوجه أبناءك لذلك فيما يعود عليك وعليهم وعلى أمتك بالنفع في الدنيا ولآخرة فما أحوج الأمة اليومَ إلى المبدعين والمتخصصين في كل مجال من مجالات الحياة ..
الدعاء..
المشاهدات 1160 | التعليقات 0