استثمار الوقت | د. محمد العريفي

استثمار الوقت

 

إنّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ و نستعينُهُ ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ تعالى من شُرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، من يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هادِيَ له, وأشهدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له, جَلَّ عن الشبيهِ والمثيلِ والكُفْءِ والنظير، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُه, وصَفيُّهُ وخليلُهُ وخيرتُهُ من خَلقِهِ وأمينُهُ على وحيِه، أرسلَهُ ربُّنا رحمةً للعالمين، وحُجَّةً على العبادِ أجمعين, فهدى اللهُ بهِ من الضلالَةِ, وبَصَّرَ بهِ من الجهالَة، وكَثَّرَ بهِ بعدَ القِلَّةِ وأغنى بهِ بعدَ العَيلَةِ, ولـَمَّ بهِ بعدَ الشتات، فصلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ وعلى آلِهِ الطيبينَ وأصحابِهِ الغُرِّ الميامين ما اتصلَتْ عينٌ بنَظَر , وَوَعَتْ أذُنٌ بخبَر، وسلَّمَ تَسليماً كثيرا ..

أما بعد :

أيُّها الإخوةُ الكِرام :

إن الذي يَنظرُ في حياة القُدوات بدايةً مِن حياة أنبياء الله تعالى ورسله ، وتأمُّلا في حياة آخرهم حبيبنا وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ، ثم يُنظر إلى القُدوات من بَعده مِن صحابته الكرام ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين  ، أو إلى العلماء سواء علماء في عِلم الشريعة أو في علم الآلة أو العلم التجريبي أو في غيره .. يَجد أنَّ هؤلاء إنما صار لهم تأثيرٌ في الحياة وصارَ لهم وجود في الواقع وصارت لهم أحداثٌ في الأُمّة بسبب أنَّهم اتصفوا بصفات اشتركوا فيها غالبا... ومن ذلك أن هؤلاء جميعا كانوا شحيحين بأوقاتهم ويستثمرون أعمارهم ويعدون ساعاتهم عدا ولا يمكن أنْ يُضيّعُوا أوقاتهم ..

ولقد عظَّم اللهُ الوقتَ في كتابه وذكر أثره...فقال جَلّ وعلا:{ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا }..

فأمر الله تعالى باستثمار الوقت وذلك أن تَعلُّم عدد السنين والحساب، أن تحسب كم مضى من عمرك، كم مضى في هذا العمل، وكم بقي عليك حتى تُنهيه، وكيف تستطيع أن تستفيد منه..

بل إن ربنا جل وعلا ذكر أنَّ أهل النار يُعنّفُون بعدم حفظهم لأوقاتهم فإذا استغاث  أهل النار وطلبوا العودة إلى الدنيا قيل لهم:{ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} ..قال ابن كثير رحمه الله تعالى: أي "أولم نعطكم أعمارا لو كنتم من أصحاب الإدِّكار لدّكرتُم "...

وذكر الله تعالى في كتابه حال أهل النار فقال جل وعلا:{ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) } فجعل الله تعالى حال أهل النَّار في تحُسرِهم على ما مَضى من أعمارهم في الدنيا  حيث أنَّهم لم يستثمرونها في طاعة ولم يتركوا بصمة في الأمة ولم تزد الساعات التي مرت بل السنين في ايمانهم ولا في علمهم ولا في شيئا !!!

 

 { قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } انظر كيف كانت الأعمار التي مَرّت مُحتَقرة عندهم لأنهم لم يستفيدوا منها وقال الله جل وعلا: { يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا } .. فدل ذلك على أنهم وإن كبرت عقولهم أو حاولوا أن يعيشوا باستمتاع فإنهم لا يمكن أن يشعروا بأثر الحياة إلا اذا كانوا قد استفادوا منها في أمر يرفعهم عند ربهم جل وعلا يوم القيامة...

 

أيها الأحبة الكرام :

كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤكد على أهمية الوقت واستثماره  قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  ( لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ ) رواه الترمذي .

فلم يتكلم أولا عن المال ولم يَتكلم عن العلم ولم يتكلم عن الزوجة والأولاد ولم يتكلم عن حج وعمرة وعبادة إنما تكلم عن العمر , وذلك أنَّ الوقت هو الحياة فإذا ضاع عليك عمرك ومرت عليك ساعاتك سدى فاعلم أنه قد ضاعت عليك حياتك ..

 

لأنَّ الوقتَ هو الحياة وعلى المسلم أن يعرف قدر وقته وشرف زمانه فلا يَضيع ساعةً واحدةٍ من عُمُرهِ إلا في خيرٍ للدنيا أو للآخرة .

والوقت مِن أعظمِ نعمِ الله ، قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً  )

بل إن الله سبحانه وتعالى  أقسم بالوقت في آيات كثيرة من القرآن ، فقال جل وعلا : ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى )  ،وقال :  (وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ)

وقال جل وعلا : ( والعصر إن الإنسان لَفِي خسر إلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ )

فالوقتُ هو العُمُر .. بل هو الحياة ُ .. وينبغي للمسلم  أن يُدرِك قَدر وقْتِه فلا يَنشغِل إلا بعمَلٍ نافعٍ .

وقد كانَ سلفُنَا رضوان الله عليهم يَحرصون على أوقاتهم ألّا تضيع إلا في فائدةٍ ونفع  ، فعن عبد الله بن مسعود  أنه قال  :( ما نَدِمتُ على شَيءٍ  كنَدمي على يَومٍ غَربتْ شمسُهُ نَقصَ فيه أجلى ولم يَزدْ فيه عَملي ) .

 

أيها المُسلِمون:

إنَّ الوقتَ الذي نعيشُهُ هو أنفَسُ ما يملكه الإنسان، وهو لا يُقَدَّرُ بالأثمان، وهو رأسُ مالِكَ ورَصيدُكَ الذي يَنفعُكَ في الدنيا والآخِرة، وكُلُّ مَفقودٍ يُمكِنُ أن يُستَرجَعَ إلّا الوقت، فهو إن ضاعَ لم يَتعلَّقْ بعودَتِهِ أمَل، ولذلكَ كانَ على المسلمِ أن يَحفَظَهُ فيما يَنفَعُهُ في آخِرَتِهِ ودُنياه، ويَصونَهُ عن الضياعِ باللهوِ والغفلَةِ، ويستقبلَ أيامَهُ استِقبالَ شديدِ الظمَأ لِقَطرَةِ الماء، واستقبالَ الضنينِ للثَّروَةِ النَّفيسَة فلا يُفَرِّطُ في قلِيلِها فَضلاً عن كثيرِها، ويَجتهدُ أن يضعَ كل شيءٍ مَهما صغُر مَوضِعَهُ اللائِقَ به.

 

وقد جعلَ الإسلامُ للوقتِ مَكانَتَهُ وبَيَّنَ أهميتَه، وحَثَّ على شَغْلِهِ بالطاعاتِ والقُرُبات، وحذَّرَ من إعمالِهِ في المخالفاتِ والمحرمات، ولذلك كان سلفُ الأمةِ يُحذِّرونَ من ضياعِ الأوقات، وكان لهم الشأنُ العظيمُ في المحافظةِ على الأوقاتِ وإعمارِها بالقُربات.

أيُّها الإخوةُ الكرام :

 إنَّ العُمُرَ الذي نَعيشُهُ هو مَزرَعَتنا  التي نَجني ثِمارَها في الدارِ الآخِرة، فإنْ زرعتَهُ بخيرٍ وعملٍ صالحٍ جَنَيتَ السعادَةَ والفلاح، وكُنتَ معَ الذين يُنادى عليهم في الآخرة: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) وإن ضَيَّعتَهُ في الغَفَلات، وزَرَعتَهُ بالمعاصي والمحرمات؛ نَدِمْتَ على ما قَدَّمَتْ يداكَ حيثُ لا يَنفَعُكَ النَّدَم،: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) .

ولِعِظَم الوقت فقد  بيَّن الله سبحانه  في كتابه فضل المحافظة على الأوقات واستثمارها، وبيَّن الله أن أقواماً يوم القيامة من أهل النار يُكبون فيها بسبب أنَّهم لم يستثمروا أعمارهم، ولم يعمروا أوقاتهم، فقال الله سبحانه وتعالى مبيِّناً حال أهل النار أنه يقال لهم) أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) .

 فكان طول أعمارهم التي قضوها في الدنيا حجة عليهم يوم القيامة، إذ عُذبوا لأنهم طالت أعمارهم ومع ذلك لم يستثمروها ولم يتقربوا فيها إلى ربنا جل في علاه .

وبيَّن الله سبحانه في كتابه أن أهل النار يوم القيامة يُسألون فيقال لهم كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قال تعالى : ( قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (، لو أنكم كنتم تعلمون بركة الأوقات وأهمية استثمارها؟ وكيف ينبغي أن يصرف الوقت ؟ 

 

 

 

أيُّها الإخوةُ المؤمنون:

 ينبغي للمسلم  إنَّ يُحافِظُ على وقتهِ ؛ لأنَّ الوقتَ عُمُرُه، فإذا أضاعَ منهُ ولو شَيئاً يَسيراً في غيرِ ما شَرَعَهُ اللهُ كانَ عليهِ حَسرَةً ونَدامةً يومَ القيامة، فكلُّ ساعةٍ تَـمُرُّ على ابنِ آدمَ تُقَرِّبُهُ إلى الآخرةِ وتُبعدُهُ من الدنيا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ ) :  مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً ) يعني حسرة وندامة   ،رواه الترمذي ، وقال أبو الدَّرداءِ رضي الله عنه: ( بنَ آدمَ! إنَّما أنتَ أيامٌ كلمَّا مضى منك يومٌ مضى بعضُكَ) ،

 وقال الحسنُ رحمه الله: (ما مِنْ يومٍ يَنشَقُّ فَجرُهُ إلّا نادى: يا ابنَ آدم! أنا خلقٌ جديد، وعلى عملِكَ شهيد، فتزوَّدْ فِيَّ بعملٍ صالح، فإنَّي لا أعودُ إلى يومِ القيامة)  فغريبٌ شأنُ بعضِ هؤلاءِ الناسِ كيفَ يَلهُونَ ويَلعبون، ولا يهتمون بأوقاتهم التي يصنعون بها عزتهم ورفعتهم في الدنيا والآخرة  .

 

إنَّ الإسلامَ  دينٌ جعلَ للوقتِ مكانتَه، وحثَّ على شَغلِهِ بالطاعاتِ والقُرُبات، وحذَّرَ أشدَّ التحذيرِ من إعمالِهِ بالمخالفات، وجعلَ من علاماتِ الإيمانِ وأماراتِ التُّقى أن يَعِيَ المسلمُ هذهِ الحقيقة، ويسيرَ على هُداها، واعتبرَ الذاهِبين عن غَدِهم، الغارِقين في حاضِرِهم، المسحورينَ بضيقِ الدارِ العاجِلَةِ، قَوماً خاسرينَ : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ، وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ، عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَأَيْنَ وَضَعَهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ، مَا عَمِلَ

فِيهِ؟» رواه الترمذي.

أيُّها الأحبَّةُ الكرام:

لو تأمَّلنا في السلف الصالح رحمهم الله وكيف كانوا يستثمرون أوقاتهم، لوجدنا من ذلك عجبا ، فقد كان أحدهم يعلم أن الأنفاس التي تخرج من صدره هي أعمار تحسب عليه، وأن كل نفَس هو عمر يُحسَب عليه، يعلم أن كل ساعة يقضيها بل إن كل دقيقة تمر عليه أنها تقربه إلى أجله، كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله لرجل لقيه: كم مضى من عمرك؟ فقال الرجل: مضى من عمري ستون سنة. فقال له الفضيل: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك إلى موعد يوشك أن تبلغ إليه، فتهيأ له وتجهز.

كانوا يعلمون أن هذه الأوقات فعلا ينبغي أن تُستثْمَر، وأن الساعة التي تمضى لا يمكن أن تعود عليك بعد ذلك أبدا، وأن الوقت أنفس ما عُنيت بحفظه.

 

 مر بعض السلف يوما في طريق فأقبل إليه أحد العابثين من البطَّالين الذين يضيعون الأوقات كيفما شاءوا، ليس عندهم استثمار ولا تخطيط لحياتهم، ولا اهتمام بطلب علم، ولا اهتمام بابتكار ولا اختراع، فأقبل إلى هذا الرجل الصالح قال: قف أكلمْك. قال: ما عندك؟ قال: أتحدث معك. فالتفت إلى الشمس وقال: إن الشمس تجري، والعمر يمضي، فأَمْسِك الشمس لأتحدث معك. يعني امضِ عني وأوقِفْ مرور عمري حتى أستطيع أن أعطيك شيئا من وقتي. هؤلاء الذين يستثمرون أوقاتهم هم الذين يكون لهم النجاح في الحياة.

وبلغ من حرص بعض السلف على أوقاتهم كما ذكر عن الإمام أبو الوفاء بن عقيل رحمه الله الذي فارق الدنيا وقد ألف كتابه الفنون في ثمانمائة مجلد، قال: بلغ من حرصي  على وقتي أني أختار سف الكعك، يعني إذا أراد أن يأكل! يأكل الكعك وراءه الماء حتى لا يحتاج إلى مضغ! يقول: أختار أكل الكعك على أكل الخبز حتى أوفر الوقت، فإذا أراد أن يأكل الخبز علم أنه يحتاج إلى مضغ كثير! يقول: فهذا يُصرف عليه وقت أعظم من غيره، فيختار أن يأكل من الكعك اليابس وبعده الماء حتى يستطيع أن يوفر من وقته ما ينتفع به .

 

 أيُّها الأحبَّةُ الكرام:

إنَّهُ لمن المؤسفِ حقاً أنَّ  نرى كثيراً من الناسِ اليومَ ابتُلوا بتضييعِ الأوقاتِ بالمحرمات، واتِّباع الشهواتِ، والعكوفِ على المغرَيات والملهِيات، فهل استَعَدَّ هؤلاء للوقوفِ بينَ يَدَيِ الله، وأعدَّوا أجوِبَةً للأسئِلَةِ العظيمة: عن عُمُرِهمِ فيما أفنوه؟ وعن شبابِهِم فيما أبلوه؟

بأيِّ جوابٍ سيُجيبُ من أفنَوا أعمارَهم، وقَتَلوا أوقاتَهم، وأبلَوا شبابَهم فيما يُسخِطُ اللهَ من العقائِدِ الفاسِدَةِ، والبِدَعِ المنكرَة، والأفكارِ الملوَّثَة، والأخلاقِ السيئة، والأعمالِ الرذيلة؟

بأيِّ جوابٍ سيُجيبُ من لا يبالي بمالِه؛ فيَكتَسِبُهُ بالوسائِلِ المحرَّمَة، والـحِيَلِ الممنوعة، ويُنفِقُهُ في غيرِ الطُّرُقِ المشروعة؟ ما جوابُ هؤلاءِ أمامَ الجبارِ جلَّ جلالُه حينَ يسألُهم؟

أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يعيننا على استثمار أوقاتنا، أسأل الله أن يعمرها بما يقربنا إليه،

أقولُ قَولي هذا، وأستَغفِرُ اللهَ لي ولكم ولجميعِ المسلمين، فاستَغفِروهُ يَغفِرْ لَكُم، وتوبوا إليهِ يَتُبْ علَيكم؛ إنَّهُ كانَ تَوَّاباً.

الخطبة الثانية

 

الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقهِ وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ تعظيماً لشأنه، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُه الداعي إلى رِضوانِه، صلى الله وسلم وباركَ عليه وعلى آلهِ وصحبهِ وإخوانِهِ وخِلَّانِه، ومن سارَ على نهجهِ، واقتَفى أثَرَهُ واستَنَّ بسنتهِ إلى يوم الدين أما بعد:

أيُّها الإخوةُ الكرام :

 إنَّ أعمارَكم رُؤوسُ أموالِكم فاغتَنِموها بالأعمالِ الصالحةِ قبلَ فَواتِها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اغْتَنِمْ خَمْساً قبلَ خَمْسٍ: شبابَكَ قبلَ هَرمِكَ، وصِحَّتَك قبل سَقْمِكَ، وغِناكَ قبْلَ فقْرِكَ، وفَراغَك قَبْلَ شُغْلِكَ، وحياتَك قَبْلَ مَوْتِكَ" رواه النسائي ، وقد فَرَّطَ كثيرٌ من الناسِ في هذا الزمانِ في هذهِ الأمور فلم يَرعَوها حَقَّ رِعايَتِها، فالصحةُ والفَراغ، والشبابُ والغِنى من أكبرِ النِّعَمِ التي يُغْبَنُ فيها الناس، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ " . رواه البخاري.

فنسال الله أن يحفظ علينا أوقتنا ويعيننا على استثمارها وصرفها فيما يرضيه عنا .

اللهمَّ إنا نسألُكَ من الخيرِ كلِّهِ عاجلهِ وآجله، ما علمنا منهُ وما لم نعلَم، ونعوذُ بك ربَّنا من الشرِّ كلِّه عاجلِه وآجلِه، ما علمنا منه وما لم نعلَم.

اللهم إنا نسألكَ عيشَ السُّعَداء وموتَ الشهداء والحشرَ مع الأتقياء ومُرافَقَة الأنبياء.

ونعوذُ بكَ ربَّنا من جهدِ البلاء، ودَرَكِ الشقاء، وسوءِ القضاء، وشماتَةِ الأعداء.

اللهمَّ إنا نعوذُ بكَ من زوالِ نعمتِك، وفُجاءَةِ نِقمَتِك، وتَـحَوُّلِ عافِيَتك، وجميعِ سخطك.

اللهم اغفِرْ لنا ولآبائِنا وأمهاتِنا، اللهمَّ من كانَ منهم حيًّا فمتِّعْهُ بالصحةِ على طاعتِك، واختِم لنا وله بخير، ومن كان منهم ميِّتًا فوَسِّعْ له في قَبرِه، وضاعِفْ له حسناتِه، وتجاوَزْ عن سيئاتِه، واجمَعنا به في جنَّتِك يا ربَّ العالمين.

اللهمَّ صَلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ؛ كما صليتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيم، وبارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمد؛ كما بارَكتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ، إنَّكَ حميدٌ مجيد.

سُبحانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عمَّا يَصِفون ، وسلامٌ على المرسلين ، والحمدُ للهِ رَبِّ العالمين.

 

 

المرفقات

أهمية-الوقت

أهمية-الوقت

2خطبة-أهمية-الوقت

2خطبة-أهمية-الوقت

المشاهدات 4877 | التعليقات 0