استثمار الأوقات في الأيام المعدودات

خالد علي أبا الخيل
1437/09/19 - 2016/06/24 13:24PM
استثمار الأوقات في الأيام المعدودات
التاريخ: الجمعة: 12/ رمضان /1437 هـ

الحمد لله هو الأول والآخر، والباطن والظاهر، أحمده على ما أولى من بره وإحسانه المتظاهر، وأشكره وقد وعد بالمزيد للشاكر، وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة أدخرها ليوم لا تنفع فيه الأموال والعشائر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، المؤيد بالمعجزات والبصائر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، أهل الفضائل والمفاخر.
أما بعد،.
فاتقوا الله عباد الله، وجدوا واجتهدوا في طاعة الله، تنالوا جنته ورضاه، واعلموا أن السعادة في العبادة، وأن اللذة والراحة في العبادة، وأن الأمن والسكينة في العبادة، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية.
ويقول: أسعد الخلق أعظمهم عبودية لله.
وأنتم في موسم العبادة، ومغنم الطاعة، {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} [المزمل: 20]، لما علم العاملون ما ادخر لهم من الجزاء أتعبوا جوارحهم، ولذا قيل: ثواب الأعمال سهلت العمل على العمال.
أيها المسلمون: مواسم الخيرات والبركات، ومظان الربح والتجارات، ليست دائمة ثابتة في كل حال، ولا متاحة في كل مجال، إنها فرص مهيأة، وأحوال مخبأة في الأيام والأزمنة، الفائز واللهِ من قام بها، وعمر أوقاتها، واجتهد في طلبها، والخاسر من أضاعها وأهملها، ولم يقدرها حق قدرها، فرمضان –يا مسلمون- فرصة عظيمة، ومنحة جسيمة لزيادة الأعمال والمضاعفة.
يا صائمون: إن رمضان أيام معدودات، ولحظات محدودات، وهي محفوفة بالخيرات والبركات، استثمروا أوقاتكم، واجتهدوا في قرباتكم، فربما يكون آخر شهركم، ومن آخر أوقاتكم وأعمالكم.
أيها الإخوة الكرام: لا إرث يبقى لكم ويدوم بعدكم مثل الأعمال الصالحة، فهي الميراث الحقيقي، والمال الرابح، والكنز الوفي، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} [آل عمران: 30]، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة: 7].
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد
***
ذخرًا يكون كصالح الأعمال

أيها الصائمون: هذه الأيام المعدودة، درة ثمينة، وجوهرة عظيمة، إن لم تعمرها الآن فاتتك غدًا، وإن أضعتها في الدنيا ساءتك في الأخرى، قبيح بالعقلاء أن يدركوا أوقات الشرف والهناء، فلا يتسابقون، ولا يتنافسون، و لا يجتهدون، وقد كان أنبياء الله بالصالحات يعملون، {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].
إخواني: هذا شهر اغتنام الخيرات والمسابقة، فطوبى ثم طوبى لمن تلقاه بتوبة صادقة، وشمر إلى فضائله بعزيمة واثقة، فعيشته عيشة راضية، ومآله إلى جنة عالية، قطوفها دانية، وسيقال له في الدار الآخرة: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24].
فيا من أدرك شهر رمضان: أو ما سمعت قول الملك المنان في شهر رمضان: (الصوم لي، وأنا أجزي به).
من كان يشكو عظم داء ذنوبه
***
فليأت في رمضان باب طبيبه

ويفوز من عرف الصيام بطيبه
***
أو ليس قال الله في ترغيبه: الصوم لي وأنا أجزي به
عباد الله: إن شهر رمضان مضمار السابقين، وغنيمة الصادقين، هذا شهر الصيام والقيام، هذا موسم الخيرات لأهل الاغتنام، فما لك لا تشمر فيه إلى معالي الأمور، وتسعى بجد إلى مضاعفة الأجور؟!.
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
*** ولاقيت بعد الموت من قد تزود


ندمت على أن لا تكون كمثله
***
وأنك لم ترصد كما كان أرصد

كم تجلي الآيات {أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184]؟ إنها لفتات وإشارات إلى استثمارها بالطاعات، وأنها أيام معدودات قد لا تمر عليك في سائر الأوقات، فمن الحرمان إهمالها، وتضييع لحظاتها بالنوم، والكسل، والبطالة، والسهر، والغفلة، وسوء المعاملة.
أمة الصيام: قد أمكنكم من التجارة الرابحة من أوسَعَ لكم مواسمها، ويسر لكم الأعمال الصالحة، من بين لكم معالمها، ورغبكم في الخيرات من وفر مغانمها، ودعاكم إلى رفيع الدرجات من منحكم كرائمها، فاحمدوا الله على ما أعطاكم من نعمة الإسلام، وخصكم بشهر الصيام والقيام.
من أسباب الاجتهاد في شهر الصيام: تذوق حلاوة الصيام، الصيام طب النفوس، وغذاء الأرواح، وزاد القلوب، وأنس المتقين، وحلاوة الطائعين، وحياة الصالحين، إن للصيام حلاوة، ولذة وطلاوة.
الصيام ظاهره التعب والجوع، والألم والمشقة، لكنه في الحقيقة جنة إيمانية، وزهرة روحانية، يجني الصائمون لذائذ الإيمان، وتمام التقوى في القرب من المولى، كيف لا يتلذذ الصائم بصومه، وهو يترنم بقول خالقه: (الصوم لي، أنا أجزي به)؟! كيف لا يتلذذ الصائم وأبواب الجنة قد فتحت له؟! كيف لا يتلذذ الصائم، وباب ينتظره في جنة ربه؟!، إن طعم العبادة تفوق لذات الدنيا برمتها، وانظر حالة الصائم، وما يجده من الفرح والسرور والمغانم، وانظر أحوال الصائمين وهم ينتظرون وجبات الإفطار بأنس وراحة واستبشار، هذه اللذة والحلاوة في عبادة واحدة، فكيف بمن منّ الله عليه بعبادات وطاعات، فأيامه كلها أعياد ومسرات، ولذا يقول شيخ الإسلام: إن في الدنيا جنة، من لم يدخلها، لم يدخل جنة الآخرة.
ويقول الآخر: إنه ليمر بالقلب أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيش طيب.
وقال بعض المحبين: مساكين أهل الدنيا، خرجوا من الدنيا، وما ذاقوا أطيب ما فيها. قالوا: وما أطيب ما فيها؟. قال: محبة الله والأنس به، والشوق إلى لقائه، والإقبال عليه، والإعراض عن ما سواه.
وقال بعض العارفين: ما تعدون العيش فيكم؟. قالوا: الطعام والشراب. فقال: إنما العيش ألا يبقى منك جارحة إلا وهي تجاذبك إلى طاعة الله، من عاش مع الله طاب عيشه، ومن عاش مع نفسه وهواه طال طيشه.
فليتك تحلو والحياة مريرة
***
وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر
***
وبيني وبين الناس خراب

إذا صح منك الود فالكل هين
***
وكل الذي فوق التراب تراب

قال الحسن: إن أحباء الله هم الذين ورثوا أطيب الحياة بما وصلوا إليه من مناجاة حبيبهم، وبما وجدوا من لذة حبه في قلوبهم.
أكل إبراهيم بن أدهم مع أصحابه كسرًا يابسة، ثم قام إلى نهر فشرب بكفه، ثم حمد الله، وقال مقالته الشهيرة: لو علم الملوك، وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم والسرور، لجالدونا عليه بالسيوف.
وقيل لبعضهم وقد اعتزل الخلق: إذا هجرت الخلق مع من تعيش؟. قال: مع من هجرتهم لأجله.
وقيل لمالك بن مغول وهو جالس في بيته وحده: ألا تستوحش؟. فقال: ويستوحش مع الله أحد؟!.
وقال مسلم بن يسار: ما تلذذ المتلذذون بمثل الخلوة بمنجاة الله.
وقال الفضيل: طوبى لمن استوحش من الناس، وكان الله جليسه.
وقال إبراهيم بن أدهم: أعلى الدرجات أن تنقطع إلى ربك، وتستأنس بقلبك إليه.
وأخيرًا: شعار القوم:
أهل المحبة قوم شأنهم عجب
العيش عيشهم، والملك ملكهم
***
***
سرورهم أبد، وعيشهم طرب
ما الناس إلا هم بانوا أو اغتربوا

الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل الصيام جنة، ومنح أهله الثواب والجنة، وصلى الله وسلم على خير خلقه وأفضل إنسه وجنه.
ومما يشحذ الهمم، ويرفع القمم في شهر الصوم والكرم ما أودعه الله من تلك الفرحة، وكم لها من لذة وطعم ولمحة، فقد ثبت في صحيح السنة: (للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه)، الله أكبر وأجل وأعظم وأقدر، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]، فرحة عند فطره، ذلك أن النفوس مكبولة على الميل إلى الطعام والشراب والنكاح، فإذا منعت في وقت، ثم أبيح لها في وقت، فرحت واستبشرت، وكذا يفرح بسلامته وتمامه، وصحته وكماله، والصائم وقته كله فرح وعبادة، ففرحه ولذته بصيامه، قالت حفصة بنت سيرين: قال أبو العالية: الصائم في عبادة ما لم يغتب أحدًا، وإن كان نائمًا على فراشه. فكانت حفصة تقول: يا حبذا عبادة وأنا نائمة على فراشي. رواه عبد الرزاق.
وأما الفرحة الأخرى: فهي عند لقاء الرب في الأخرى، يفرح بصومه، وثواب أجره، وعظيم منزلته، يفرح بالحسنات الباقيات، والأعمال الصالحات المدخرات، يفرح بما يجده في وقت هو بأمس الحاجة إليه، {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ} [البقرة: 110]، [المزمل: 20]، قال سفيان بن عيينة: إن ثواب الصيام لا يأخذه الغرماء في المظالم، بل يدخره الله عنده للصائم حتى يدخله به الجنة. ويقول سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، يقول سفيان: الصائم لا يوزن له ولا يكال، وإنما يغرف له غرفًا.
أيها الصائمون: أتدرون أن رائحة الصيام التي تغير الفم لقلة الشراب والطعام، هي عند الملك العلام، كما قال سيد الأنام: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)، هذه الرائحة التي يتقزز منها بعض الناس، تصوروا –عباد الله- أنها عند الله أذكى الروائح، وأعظم الأطياب والمنائح.
أيها الصائمون: شرفكم الله وعظمكم، وأعطاكم ومنحكم، ومن حق هذا التشريف القيام بما أوجب الله نحو هذا الصيام، فالصيام تهذيب للنفوس يهذبها ويهديها، ويمنحها ويذكيها، فأعظم المقاصد للصيام الأسمى حكمته العليا، وهي تقوى الله جلا وعلا، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].
أيها الصائمون: إن صيامكم باعث على حفظ جوارحكم، وطاعة ربكم، وجدكم واجتهادكم.
أيها الصائمون والصائمات: إن صيامكم ليس كفًا عن المطعومات والمشروبات فحسب، بل فعل للطاعات واجتناب للسيئات، تذكروا أنكم تلبستم بطاعة شريفة، وعبادة مباركة منيفة، هي تاجكم وزينتكم، هي شوقكم ولذتكم.
أيها الصائمون والصائمات: السعداء في الصيام عرفوا قدر الصوم، فجعلوه خصبًا بفعل الطاعات، ريان بقراءة القرآن والصدقات، محفوفًا بالبر والصلوات، والإحسان والذكر والصلات، السعداء في رمضان صائمون، ذاكرون، قائمون، قانتون، داعون، مجتهدون، راكعون، ساجدون.
رمضان عندهم عيد وسرور، وجنة وحبور، وذكر ونور، يودون لو طالت أيامه، وبعدت لياليه، واستدامت نعمته، وفرحته وبهجته، السعداء في رمضان أهل ذكر وتلاوة، ومواساة وإطعام وعبادة، ومناجاة وصدق وحلاوة، السعداء في رمضان أهل همة ونشاط وقوة، وبعد عن الكسل والفتور وضعف الهمة، السعداء في رمضان أسعدوا أنفسهم وأسعدوا غيرهم.
فيا أيها الصوام الكرام، والقوام في جنح الظلام: هنيئًا لكم حسن الصيام والقيام، ظفرتم بالسعادة والسرور، وحزتم البركة والأجور، فيا لها من فرحة تغمر النفوس، وتهذب الملموس، وتشرح الفؤاد، {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
والله أعلم.
المشاهدات 1359 | التعليقات 0