{اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}

عبدالله محمد الطوالة
1442/12/27 - 2021/08/06 03:49AM

الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ مُعزِّ مَن أطاعهُ واتقاهُ، ومُذِلِّ من خالفَ أمرهُ وعصاهُ .. لهُ من الحمدِ أسْمَاهُ وأسْنَاهُ، ولهُ من الشُّكرِ أجزاهُ وأوفاه، ولهُ من الثناء الحسنِ أجملهُ وأبهاهُ .. سبحانهُ وبحمده، لا تُحصى نِعمُهُ، ولا تُكافئُ عطاياهُ، {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ} ..

وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، ولا ربَّ لنا سواهُ، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} ..

وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسولهُ ومصطفاهُ، وخليلهُ ومجتباهُ، طوبى لمن والاهُ وتولاهُ، واتبعَ سنَّتهُ واهتدى بهداهُ، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابهِ واتباعه ومن والاه، وسلِّم تسليماً كثيراً لا حدَّ لمنتهاه ..

أمَّا بعدُ: فـ{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ..

معاشر المؤمنين الكرام: جُبِلَت النفوسُ على حُبِّ من أحسنَ إليها، ولا أحدَ أعظمُ إحسانًا من الله جلَّ في علاه؛ فالمخلوقُ يتقلَّبُ في نعَمِ من الله لا تُعدُ ولا تحصى، ومع هذا فاللهُ تبارك وتعالى يقول: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} ..

ولا شكَّ أن ذِكرَ النِّعمِ وشُكرَ المنعِم أمرٌ واجبٌ على كلِّ مؤمن .. قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} .. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} .. وشُكرُ المنعِمِ والتَّحدُثَ بنِعمه هو منهجُ الأنبياء والمرسلين، فهذا سليمانُ عليه السلام يقول: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} .. وقال تعالى مثنياً عليه وعلى أبيه داوود: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} .. وأثنى قبل ذلك على جدهم إبراهيمُ عليه السلام فقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .. ومن بعدهم موسى عليه السلام يُعاهِدُ ربَّه فيقول: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} .. وعيسى عليه السلامُ يتحدثُ بنعمة اللهِ عليهِ فيقول: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا}، وقال اللهُ تعالى لخاتم أنبيائهِ وأفضلِ رُسله: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}، فقام صلى الله عليه وسلم حتى تفطرت فدماه، وحتى تعجبَ الصحابةُ من طول قيامه، فقال: أفلا أكونُ عبداً شكوراً ..

فيا أُخيَّ المسلم: أذكر نِعمتَ اللهِ عليك: وأنَّ الله تباركَ وتعالى هو الذي أوجدكَ من العدم، وخلقك من ترابٍ وطين، وسواك في أحسنِ تقويم، ونفخَ فيك من روحه، وعلمك ما لم تكن تعلم، ورزقك من الطيبات، وهو الذي أطعمك وسقاك، وكساك وآواك، وهو الذي متَّعك بسمعك وبصرك، وعقلك وجوارحك، وسائر قواك .. وهو الذي كرَّمك وحملك في البر والبحر، وفضَّلك على كثيرٍ ممن خلقَ تفضيلاً .. {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} ..

ويا أُخيَّ المبارك: أذكر نعمتَ اللهِ عليك: فهو الذي هداك لهذا الدين العظيم، وهو الذي وفقكَ لصراطه المستقيم، وهو الذي ثبتكَ على شرعه القويم .. وهو الذي: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} .. {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} ..

ويا معاشر المؤمنين الكرام: أذكروا نعمتَ اللهِ عليكم: فـــ{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}، و{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}، و{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} .. {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} ..

ويا أيَّها المؤمنون الكرام: أُذكروا نعمتَ اللهِ عليكم: فـ {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}، و{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}، و{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا}، و{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} .. و{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، وهو الذي {أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، و{هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}، وهو الذي: {أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}، وهو الذي غمركم بفضله وإحسانه: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}، وهو الذي {سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ..

ويا أيَّها الأحبة المؤمنون: أُذكروا نعمتَ اللهِ عليكم: فــ{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ..

وحين يتأمَّلُ المسلمُ نِعم اللهِ وفضلهِ، وما وفق له من طاعةٍ وعبادة، يجدُ أنَّ اللهَ تباركَ وتعالى هو الذي أوجدَ وخلق، وهو الذي أعطى ورزق، وهو الذي ألْهم ووفَق، وهو الذي علَّمَ وهدى، وهو الذي أعانَ وقوَّى، وهو الذي تمَّمَ وأكمل، وهو الذي يتكرمُ فيتقبَّل، ثمَّ يُثيبُ ويأجُر، ويُضاعِفُ الثوابَ ويشكُر .. فما أعظمَ اللهَ وما أعظمَ قُدرته، وما أوسعَ حِلمهُ ورحمته، وما أجلَّ كرمهُ ونِعمته، وما أبلغَ عِلمهُ وحِكمته .. و{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} ..

وبارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ..

الحمدُ للهِ كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله وعظيم سلطانه ....

أما بعدُ فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ وكونوا مع الصادقين ..

معاشرَ المؤمنين الكرام: تأمَّلوا قولَ الحقّ جلَّ وعلا: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}، تأمَّلْوا كيفَ أفردَ اللهُ تباركَ وتعالى كلِمةَ (نِعمَة) ولم يقُل: (نِعَم) .. فالنِّعمةُ الواحِدةُ لا يُمكِنُ إحصَاءُها .. وذلك لأنَّ كُلَّ نعمةٍ يتولدُ منها نِعمٌ فَرعِيةٍ لا يُمكِنُ عَدُّها .. وكُلُّ فَرعٍ مِنها يَتجَدَّدُ على مَدارِ الثانيةِ واللحظةِ .. وكلُّ هذه النِعمِ المتجدِّدةِ تتكرَّرُ على مستوى كلِّ مخلوقٍ لوحدِه، والخلائِقُ لا يمكنُ إحصائُهم ..

{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}، فنِعمةُ الحركةِ مثلاً لا يُمكِنُ إحصَاءُ تَنوعَاتِها للعضوِ الواحِدِ، فكيفَ بحركات الأعضاءِ كُلِّها، ثمَّ إنَّ كُلَّ حَركةٍ منها تتجدَّدُ وتتكرَّرُ بصورةٍ لا يُمكِنُ إحصَائُهُا .. فكيف بحركات الخلائقِ أجمعين ..

وما مِنْ نِعمةٍ إلا ويمكنُ أنْ تتكامَلَ معَ غيرِها لتتَضاعَفَ مَنفعتُها، وتَتعدَّدُ صُورُها فلا يُمكِنُ إحصَائُها أيضاً .. فلو اضفنا لنِعمَةِ الحركةِ نِعمَةُ الأدواتِ والمعُداتِ مثلاً، فستتولدُ صورٌ وأشكالٌ جديدةٌ ومختلفةٌ من نِعمَ الحركةِ لا يمكنُ إحصائُها ..

ثم إنك أيُّها الانسانُ مع كلُّ لقمةٍ تأكلها، أو شربةٍ تشربها، أو نفسٍ تتنفسه، هناك نعمٌ لا تُعدُ ولا تحصى .. ومع كُلِّ خفقةِ قلبٍ، ومع كلِّ  طرفةِ عينٍ، ومع كلِّ حركةِ عضوٍ، ومع كلِّ خاطرةِ عقلٍ، هناك نعمٌ لا تعدُ ولا تحصى، ومع كُلِّ كلمةٍ تنطقها، أو عِبارةٍ تسمعها، أو معنىً تفهمهُ, هناك نعمٌ لا تُعدُ ولا تُحصى ..

وفي جسمك العجيبِ ملياراتُ الخلايا، وملايينُ الأنسجة، والآلافُ الكيلوات من الشعيرات الدموية، والنهايات العصبية، وما لا يُتصورُ من التفاعلات الكيميائية، والتحولاتِ الفيزيائية، والعملياتِ الحيوية، كُلُّها تَتمُّ على مدار اللحظةِ والثانية، وكُلُّ واحدةٍ منها، فيها من النِّعمِ والآلاءِ ممَّا لا يُعدُ ولا يُحصى .. ثم إنَّ هناك نِعمٌ أُخرى هائلةٌ وغزِيرةٌ، لها اشكالٌ وأحوالٌ وفروعٌ كثيرةٌ كثيرة، لا يتصورها خيال، ولا يمكنُ أن تَخطرَ على بالِ، فضلاً عن أن تُعرفَ أو تُستقصى .. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} ..

وإذا كان الذي وصَلَنا من الخيرات والنِّعمِ لا يُعدُ ولا يُحصر، فإنَّ ما صَرفَهُ اللهُ عنَّا من الشرور والأخطارِ أكثرَ وأكثر .. ومن تأمَّلَ حِكمةَ اللهِ في المنعِ والعطاءِ، عَرفَ أنَّ بعضَ العطاءِ منعٌ، وبعضَ المنعِ عطاء، وإذا كان العَطاءُ نِعمةٌ، فإن المنعَ نِعمةٌ أيضاً، بل ربما كان المنعُ أفضلَ من العطاء: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ..

تخيل لو نقصت الحموضةُ في دمك أو زادت، أو لو نقصَ السُّكرُ في دمِك أو زاد، أو لو نقصَ الضغطُ أو زاد، أو لو نقصت سيولةُ الدم أو زادت، أو لو نقصت خلاياك البيضاء أو زادت .. لولواتٌ كثيرةٌ، واحتمالاتٌ عديدةٌ، في أوضاع الدمِ فقط، فكيفَ بالقلب، وكيف بالكبدِ، وكيف بالرئةِ والكليةِ والدماغِ وغيرها من الأعضاء .. والتي كُلُّها بفضل اللهِ ونعمتهِ تسيرُ على ما أحسنِ ما يُرام ..

ثم إنَّ هناك الملايين بل مئاتُ وألوفُ الملايين من الميكروبات والفيروساتِ والفطريات والحشراتِ السامة، وغيرها من المخلوقات الضارة، كُلُّها تعيشُ معنا ومِن حولِنا أو في أجوائِنا أو داخِلَ اجسامِنا، ولا يخلو منها طعامٌ ولا شرابٌ ولا هواءٌ ولا مكانٌ .. وهناك العشراتُ والمئاتُ من الأمراض المعدية، والأوبئةِ المهلكة، والأخطارِ المحدقة، تتنقلُ بيننا بسرعةٍ وسُهولة .. ولكن الحافظَ سبحانهُ يُنعمُ علينا فيحمِينا من شرها، ويحفظنا من أذاها .. {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ..

وكم للهِ من لُطفٍ خَفِيٍ ... يَدِقُ خَفَاهُ عن فَهْمِ الذَّكِي ..

وحين يتنقلُ الانسانُ بأيِّ وسيلةٍ من وسائل المواصلات، فإنَّ احتمالَ تعرُضهِ للحوادث بعدد الثواني التي يستغرقُها مشوارهُ، بل هي أكثر .. تأمَّل قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}، فقد جاءَ في تفسيرها: أنهم ملائكةٌ يحفظونَ الانسانَ من بين يديه ومن خلفه, فإذا جاءَ قدرهُ خَلَّوا عنه .. وما أجملَ قولَ الشاعر:

كم نطلبُ اللهَ في ضُرٍ يحِلُ بِنا .. فإن تولت مُصيبتنا نسيناه

ندعوهُ في البحر أن يُنجي سفينتنا .. فلمَّا رجعنا إلى الشاطي عصيناه

ونركبُ الجو في أمنٍ وفي دعةٍ .. فما سقطنا لأنَّ الحافظَ اللهُ

ووالله يا عباد الله: لو لَمْ يَكُنْ في الشَّدَائِدِ من المِنَحِ إلَّا أن يَصدُقَ المؤمنُ في الالتِجَاءِ والعودةِ إِلى ربه تبارك وتَعَالَى، لَكْفى بها من نِعمةٍ عظمية ..

 

. {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} .. لقد تكرَّر هذا المقطعُ العجيبُ في القرآن الكريمِ مرتين .. ففي الأولى: إشارةٌ أنَّ من لا يَشْكُرِ اللهَ على نِعمٍ لا يمكنُ إحصائُها فهو ظلومٌ كفَّار .. وفي الأخرى: أنَّهُ تعالى أنْعمَ بتلك النِعَمِ (حتى على من لا يَشْكُرُهَا) لأنَّهُ غفورٌ رحِيم .. فالحمدُ للهِ على نِعَمهِ كُلِّهَا، أولِهَا وآخِرهَا، ظَاهِرهَا وباطِنُها، ما عَلِمنَا مِنهَا وما لم نَعلَم ..

ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان ..

اللهم صلِّ على محمد ... 

المشاهدات 1016 | التعليقات 0