((اختم شهر رمضان بالعفو والفصح)). 28/9/1439

أحمد بن ناصر الطيار
1438/09/27 - 2017/06/22 14:45PM
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلم تسليما كثيراً. أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنّ الكثير من المسلمين, يرون أنّ النعم التي تستحق الشكر والحمد, ما فيها نفعٌ وخيرٌ عاجل, ويرون كذلك أنّ المصائبَ التي يُقَدِّرها الله تعالى على العبد, مِمَّا ليس لبشرٍ فيها سببٌ, هي التي يُصبر عليها, ويُرضى بتقدير الله لها, ولا تَجْزَعُ النفوسُ بها؛ لأنها مما قدره الله تعالى, كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}.
ويبقى السؤال الكبير: هل استشعرنا أنّ المصائب والمحن, التي تأتينا من الناس كالأقارب والأصدقاء وغيرهم, هي نعمٌ تستحق الشكر, أو هي مثلُ التي يُقدرها الله تعالى علينا, مما ليس لبشر فيه سببٌ, كالجوع والمرض ونحوها؟
إنّ المصائب التي يقدرها الله تعالى علينا, قد يُجريها على أيدي الناس, وقد يُجريها على غيرهم, فلماذا لا نصبر على جميع هذه المصائب؟

وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله, أنَّ للعبد عدّةَ مشاهد, فيما يصيبه من أذى الخَلْق وجنايتهم عليه:
أحدُها: مشهد القَدَر، وأن الذي جرى عليك بمشيئة الله وقضائه وقدره، فاجعل ذلك كالتأذي بالحر والبرد، والمرض والألم، وهبوب الرياح، وانقطاع الأمطار؛ فإنَّ الكلَّ أوجبته مشيئة الله، فما شاء الله كان ووجب وجودُه، وما لم يشأ لم يكن وامتنع وجوده.
وإذا شهد هذا: استراح، وعلم أنه كائنٌ لا محالة، فما لِلْجزع منه وجْهٌ, وهو كالجزع من الحر والبرد والمرض والموت.

المشهد الثاني: مشهد الصبر, فيشهده ويشهد وجوبَه، وحسنَ عاقبته، وجزاءَ أهله، وما يترتب عليه من الغِبطة والسرور.
ويكفي في فضل صبرك على أذى الناس: أنّ الله تعالى يُوَفِّيك الأجر الوفير يوم القيامة بغير حساب, قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
وأنك تفوز بمحبة الله لك, قال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}.
وأنّه تعالى معك حين صبرِك, يحفظك، وينصرك، ويُؤيِّدك، قال تعالى: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.

المشهد الثالث: مشهد العفو والصفح والحلم, وما فيه من الحلاوة والطمأنينة والسكينة، وشرفِ النفس وعزها ورفعتها عن تشَفِّيها بالانتقام.

المشهد الرابع: مشهد الرضا, وهو فوق مشهد العفو والصفح، وهذا لا يكون إلا للنفوس المطمئنة، لا سيما إنْ كان ما أصيبتْ به سببُه القيامَ لله, ومن لم يرض بما يصيبه في سبيل محبوبه فلينزل عن درجة المحبة، وليتأخر فليس من ذا الشأن.
المشهد الخامس: مشهد الإحسان, وهو أرفع مما قبله، وهو أن تُقابل إساءة المسيء إليك بالإحسان، فتُحسن إليه كلَّما أساء هو إليك.
فيا من آذاك أحدٌ من الناس, إنك قد ربحت عليه؛ لأنه قد أهدى إليك حسناتِه, ومحاها من صحيفتك, فينبغي لك أن تشكره وتحسن إليه.
واعلم أنَّ الجزاءَ مِن جنس العمل, فإنْ عفوت عمَّن أساء إليك وأحسنت إليه، فسيعفو اللهُ تعالى عنك, في يومٍ أنت أحوجُ ما تكون فيه إلى العفو والمغفرة.

المشهد السادس: مشهد السلامة وبَرْد القلب, فلا تُشغل قلبَك وخاطرك بما نالك من الأذى وطلبِ الثأر، وشفاءِ نفسِك، بل فرِّغْ قلبك من ذلك، وسترى أنَّ سلامتك وصفاء ذهنِك أنفع لك وألذُّ وأطيب.

المشهد السابع: مشهد الأمن, فإنك إذا تركتَ المقابلة والانتقام: أمِنت ما هو شرٌّ من ذلك، ولابد أنَّ عفوَك وحلمَك وصفحَك, سيُخفف حقدَ عدوك، ويكف من غيظِه، بعكس الانتقام، فإنه يزيد الشرّ والحقد والعداوةَ والفرقة.

المشهد الثامن: مشهدُ النعمة, فأنت في نعمةٍ عظيمةٍ حينما يصلك الأذى من الناس, وذلك من وجوه:
أحدها: أن تشهد نعمة الله عليك في أن جعلك مظلوماً تترقب النصر, ولم يجعلك ظالما تترقب الْعقابَ والأَخْذ، فلو خُيِّر العاقل بين الحالتين ولابد من إحداهما, لاختار أن يكون مظلوما.
ومنها: أن تشهد نعمة الله في التكفير بذلك من خطاياك، فإنه ما أصاب المؤمن همٌّ ولا غمٌّ ولا أذى إلا كفَّر الله به من خطاياه، فذالك في الحقيقة دواء يُستخرج به منك داءُ الخطايا والذنوب.
ومنها: أن تشهد كون تلك البليِّة أهونَ وأسهلَ من غيرها، فإنه ما من مِحنة إلا وفوقَها ما هو أقوى منها وأمَرّ.
ومنها: توفيةُ أجرِها وثوابِها يوم الفقر والفاقة.
وفي بعض الآثار: أنه يتمنى أناس يوم القيامة لو أن جلودهم كانت تُقرَض بالمقاريض؛ لِمَا يرون من ثواب أهل البلاء.
وإن العبد ليشتدُّ فرحه يوم القيامة, بما له على الناس من الحقوق في المال والنفس والعرض، فالعاقل يَعُدُّ هذا ذُخراً ليوم الفقر والحاجة، ولا يُبطله بالانتقام الذي لا يُجدي عليه شيئا.
المشهد التاسع: مشهد الأُسْوة, وهو مشهد شريف لطيف جدا، فإن العاقل اللَّبيب, يرضا أنْ يكون له أسوةٌ برُسُل الله وأنبيائه وأوليائه، وخاصته من خلقه؛ فإنهم أشد الخلق امتحانًا بالناس, وأعظمهم صبرًا على أذاهم.
فيا من آذاك أحد إخوتك, أما ترضا أن يكون يوسفُ عليه السلام أُسوتك وقدوتك, وهو الذي صبر على أعظم الأذى من إخوتِه؟
ويا من آذاك أحد أصدقائك أو أقارِبِك, أما ترضا يكون أُسوتك وقدوتك, ذاك النَّبِيُّ الذي ضَرَبَهُ قَوْمُهُ حتى خرج منه الدم ، فجعل يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: «رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ».
يدعو لهم, ويجتهد في أن يغفر الله لهم, ويعتذر عن قبيح فعلهم بأنهم لا يعلمون, فأيّ عفو ورحمةٍ وإحسانٍ أعظم من هذا؟

أفلا ترضا أن يكون لك أسوةٌ بخيارِ خلق الله، وخواصِّ عباده وأوليائِه؟

نسأل الله تعالى أن يرزقنا صلاح القلب, وأنْ يثبتنا على دينه حتى نلقاه, إنه سميع قريب مجيب.



الحمد لله ذي الإفضال والإنعام، وصلى الله تعالى وسلم على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه والأئمة الأعلام, أما بعد:

معاشر المسلمين: هنيئًا لكل من أُوذي فعفا وغفر, هنيئًا لكل من سمع من غيرِه كلامًا جارحًا فكتم غيظه وصبر, هنيئًا لكل من اختار المسامحة على المقاطعة, واختار الحلم على الجهل, واختار الرفق على العنف, واختار البشاشة على العُبوس, وقدّم التآلف على التدابر, وقدم مصلحة الجماعةِ على مصلحة نفسِه.
هنيئًا لهم هذه الفضائل العظيمة, التي لا يشمها من لا يحتمل أذى الآخرين, ومن ينتقم لنفسه ويرى ذلك عزةً وحفظًا للكرامة, وكأن الأنبياء والصالحين لا كرامة لهم, حينما عفوا وصفحوا وتركوا الانتقام لأنفسهم.

وأما أنت أيها القاطع لأحدٍ من أقاربك وأرحامك, بسبب خصام أو حطام الدنيا: فمع ما تتجرعه في الدنيا من المرارة, فلك يومٌ ستذوق فيه الأسى والألم على قبيح فعلك, وتجبرك وقسوة قلبك إن لم يتداركك الله برحمة.
وأما أنت أيها القاسي على مَن خاصمك, أو المنتقمُ لنفسِه, الرادُّ بغلظة على من أساء إليك, فيكفيك شؤمًا أنك خسرت هذه الرتب العالية, والفضائل العظيمة, التي لا ينالها أمثالك, ممن ينتقم لنفسِه في كلّ صغيرة وكبيرة, ولم يذق طعم العفو والحلم والصبر.


اللهم أعذنا من قطيعة الرحم, وأجرنا من الغلظة والقسوة والانتقام للنفس, إنك سميع قريب مجيب.
المشاهدات 1069 | التعليقات 0