احفظ بصرك
موسى بن عبدالله الموسى
احفظ بصرك
أيُّها المؤمنون من أعظم نعم الله على عباده امتنّ عليهم بها، وابتلاهم؛ فمَن حفظها حفِظ بها قلبه، ومن أطلقها وضيعها أورد نفسه الموارد، وتتابعت عليه المتاعب؛ قائده والهوى دليله.
(نعمة البصر)
أيُّها المؤمنون يعرف الإنسان بها طريقه، ويتقي بها المخاطر، ويُميز بها الأمور، يتأمل بها العاقل في عظم مخلوقات الله وبديع صنعه: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [يونس:101]، ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ [العنكبوت:20].
أمر الله بشُكرها فقال: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل:78]، ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ [الملك: 23].
سمَّى الله العينين بالحبيبتين؛ لعظم إنعامه بهما على عبده، وشدة حاجته لهما.
وجعل عوض الصبر على فقدهما الجنة؛ فقد روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث أنس أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «إنَّ اللَّهَ قالَ: إذا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ، عَوَّضْتُهُ منهما الجَنَّةَ»().
أيُّها المؤمنون البصر منفذٌ إلى القلب خطير يأخذ بمجامعه، ويبني القلب عليه أفكاره؛ لأجل ذلك عظُم التحذير من التساهل في إطلاقه، وجاء التأكيد على حفظه حمايةً للقلب وحرزًا، وصدق الله ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء:36].
وقال الله: ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [فصلت:20].
فما أعظم خطر النظر على القلب، وما أشد السؤال عنه يوم القيامة!
قال ابن تيمية –رحمه الله-: "النظر داعية إلى فساد القلب".
وقال بعض السلف: "النظر سهم سم إلى القلب، لا يكاد عبد ُيطلٍق بصره بحرام إلا ويوقعه في الحرام".
لأجل ذلك جعلته الشريعة بوابةً يجب حفظها دون الفواحش والزنا: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ﴾ [النور: 30]، ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ [النور:31].
وفي الصحيحين أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ»().
يخلو المرء بنفسه في غرفةٍ مغلقة لا يراه من الخلق أحد، يُقلِّب الأجهزة والقنوات؛ فتُعرَض أمامه النساء الكاشفات، بل والسافرات والعاريات، يغفل عن مراقبة الله له والكرام الكاتبين والله يقول: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور﴾ [غافر:19].
قال ابن عباس –رحمه الله-: "هو الرجل يكون في القوم، فتمر المرأة فيُريهم أنه يغض بصره عنها؛ فإن رأى منهم غفلة نظر إليها، وإن خاف أن يفطنوا إليه غض بصره، وقد اطلع الله على قلبه أنه يود لو اطلع إلى عورتها".
أيُّها المؤمنون إننا في زمن كثُرت فيه الصور الفاتنات في الصحف والدعايات، وفي الأجهزة والمجمعات؛ بل وكثُر وللأسف التبرج والسفور وهذا والله ابتلاء ابتلى الله به عباده.
قال جرير بن عبد الله -رضي الله عنه-: سألت النبي –صلى الله عليه وسلم- عن نظر الفجأة، فقال: «اصرِف نظرَك»() رواه مسلم.
وفي السنن عن ابن بُريدة عن أبيه أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال:» يا عليُّ لا تُتبعِ النَّظرةَ النَّظرةَ ، فإنَّ لَكَ الأولى وليسَت لَكَ الآخرَةُ»().
وقال خالد بن عمران –رحمه الله-: "لا تُتبعن النظرة النظرة؛ فربما نظر العبد نظرة نغل منها قلبه كما ينغل الأديم فلا يُنتفع به" أي: فسد فسادًا لا صلاح بعده.
ولما سُئِل الإمام أحمد –رحمه الله- عن النظر إلى المملوكة قال: "إذا خاف الفتنة لا ينظر".
كم نظرة قد ألقت في قلب صاحبها البلابل" ا.ه.
وقال ابن جوزي –رحمه الله-: "وإنما بالغ السلف في الغض حذرًا من فتنة النظر، وخوفًا من عقوبته".
فأما فتنته فكم من عابد خرج من صومعته بسبب نظرة؟! وكم استغاث من وقع في تلك الفتنة؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ﴾ [الأنعام:46].
بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله يغفر لي ولكم.
الخطبة الثانية
لقد تقحمت معصية النظر المحرمة على الناس في بيوتهم، ومجالسهم، وفي أسواقهم ومجامعهم، امتلأت بها الأجهزة والفضائيات؛ حتى أصبحت صناعة الفتنة بالمرأة بضاعة رائجة لإفساد القلوب وزيادة الآثام.
فكم من صاحب قلبٍ سليم صار ضحية نظرة خاطفة، أو صورة عابرة؛ أفسدت عليه قلبه، وتنكرت عليه نفسه، ثقُلت بسببها عليه الصلوات، بل وثقُل لسانه عن كثرة ذكر الله.
إن النور الذي يقذفه الله في قلب عبده لا يكون إلا لذو القلب السليم؛ وإن بغض البصر تُنال حلاوة الإيمان، والظفر بنور القلب وفراسته.
وقبل أن يذكر الله آيات النور قال: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ [النور:30]؛ لأن القلب إذا تطهر من الفتن كان محلًا لقبول الحق والاهتداء به.
وختامًا أيُّها المؤمنون فإن علينا أن نحفظ أبصارنا؛ لتسلم قلوبنا، ونتواصى على ذلك ويعظ بعضنا بعضا، ونحذِّر بعضنا من نشر الصور الفاتنة ولو كانت عابرة؛ فإن القلب ضعيف كثير التقلب.
وما طُهّرت القلوب بمثل الصلاة؛ فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، ومَن أكثَرَ النوافل بعد الفرائض كان الله له سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به؛ فاللهم احفظ لنا أسماعنا، وأبصارنا، وقواتنا ما أبقيتنا.