احذروا هذا النوع من الغيرة!! 13-7-1436
أحمد بن ناصر الطيار
1436/07/11 - 2015/04/30 18:53PM
الحمد لله رب العالمين، قيومِ السماوات والأراضين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وسعت رحمته جميع المخلوقات، وامتدت نعمه وآلاؤه من في الأرض والسموات ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وصفيُّه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وذريته، وصحابته وأتباعه، ومن سار على نهجه واستنّ بسنته إلى يوم الدين.. أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله, واعلموا أنّ الله تعالى إذا أرادَ بعبدٍ خيرًا, غرس في نفسه الخصال الحميدة, والأخلاق الفاضلة, وجنّبه مساوئ الأخلاق.
وإنّ مِن أعظم الأخلاق والفضائل: الغيرة, وذلك بأنْ يغارَ المسلمُ على محارمه, فلا يرضى منهم السفورَ والتبرج والعلاقاتِ المحرّمة.
ثبت في الصحيحين , عن سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رضي الله عنه أنه قال: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفِحٍ - أيْ غَيْرَ ضاربٍ بِعَرْضِهِ بل بِحَدِّه- فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، وَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي».
فالقلب الذي لا غيرة فيه قلبٌ مريضٌ فاسد, نُزعت منه الفطرةُ, وحلّت فيه الرذيلة.
معاشر المسلمين: قد يظنُّ البعضُ أنَّ الغيرة محمودةٌ على الإطلاق, وليس كذلك, بل هناك غيرةٌ مَذْمَومَةٌ يُبغضها الله تعالى.
ولكنْ ما الفرق بينهما؟ وما ضابطُ الغيرةِ المحمودةِ والْمذمومة؟ اسْمعوا إلى جواب ذلك مِن أفصحِ الخلق وأصدقِهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال:" إِنَّ مِنَ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّ اللهُ، وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللهُ، فَالْغَيْرَةُ الَّتِي يُحِبُّ اللهُ: الْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ - أي عند حُدوثها, وتوفُّرِ أسبابها-، وَالْغَيْرَةُ الَّتِي يُبْغِضُ اللهُ: الْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ.
رواه الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ والنسائي, وحسنه الألباني.
ومعنى الْغَيْرَةِ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ: الغيرةُ التي لا مجال للريبة فيها, بل بمجرد سوء الظن.
فهذا الحديث الصحيح: هو الضابط في الغيرة التي يُلام صاحبها, والتي لا يُلام فيها.
فالغيرةُ المحمودة: هي تدعو إلى العفَّة والمودَّة, ولا تكون إلا إذا قامت أسباب الرِّيبة والفتنة.
أما الغيرةُ المذمومة: فهي لا تخلو من ثلاثة مُسبِّبات:
السبب الأول: الشك والوسوسة.
السبب الثاني: الحسد والتنافسُ المذموم.
السبب الثالث: الحبُّ الْمُفرط, وحبُّ التملُّك.
فكلُّ غيرةٍ تكون بسبب هذه الأمورِ الثلاثة أو أحدِها: فهي غيرةٌ مذمومةٌ مكروهة, ولْنأخذ أمثلةً لكلِّ واحدةٍ منها, لِنحذرها ونَتجنَّبَها:
فأما الغيرةُ التي سببها الشك والوسوسة: فمثاله ما يقع به بعضُ الآباء والأزواج, حيث يعتقد أنَّ مِن الغيرة, أنْ يطَّلع على خصوصيَّات زوجته أو ابنته, ويُراقبها في كلِّ حين, ويُفتِّشَ هاتِفَها ومُحتوياتِها, فهذا من الغلو والوسواس.
وكذلك ما تقومُ به بعضُ الزوجات, مِن تنصُّتها على زوجها, وتفتيشِها لهاتفه وأسراره, فهذه غيرةٌ مذمومة.
فإنْ رأى أحدٌ من الزوجين على الآخر ما يُريبه, فليس هذا هو التعاملُ الصحيحُ في ذلك, بل هذا التعاملُ ممَّا يزيدُ في الْمشكلة.
وقد ثبت في صحيح مسلم , أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى, أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلاً؛ مَخَافَة أَنْ يَتَخَوَّنَهُمْ, أَوْ يَلْتَمِسَ عَثَرَاتِهِمْ.
قال الصنعانيُّ رحمه الله: فِي الْحَدِيثِ, الْحَثُّ عَلَى الْبُعْدِ عَنْ تَتَبُّعِ عَوْرَاتِ الْأَهْلِ، وَالْحَثُّ عَلَى مَا يَجْلِبُ التَّوَدُّدَ وَالتَّحَابَّ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ, وَعَدَمَ التَّعَرُّضِ لِمَا يُوجِبُ سُوءَ الظَّنِّ بِالْأَهْلِ، وَبِغَيْرِهِمْ أَوْلَى. ا.ه
وأما الغيرةُ التي سببها الحبُّ الْمُفرط, وحبُّ التملُّك: فمثاله ما تقع به كثيرٌ من النساء, في مُبالغتهن في غيرتهنّ من الضرَّة, إما بعد وجودها, وإما قبل مجيئها, بأنْ تجعل المرأةُ أكبرَ مَصائِبها, أشدَّ همومها: أنْ يتزوَّج زوجُها امرأةً تحلُّ له, بل هي سنَّةٌ من سنن الأنبياء والصالحين, لمن قَدَرَ على ذلك, وكان عادلاً غنيًّا قادراً.
وتأمَّلن - معاشر النساء- ما رَوَتْه عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يَعْتَكِفُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فضَرَبْ لَهُ خِبَاءً - أي خيمة-، فَيُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ يَدْخُلُهُ، فَاسْتَأْذَنَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَضْرِبَ خِبَاءً, فَأَذِنَتْ لَهَا، فَضَرَبَتْ خِبَاءً، فَلَمَّا رَأَتْهُ زَيْنَبُ ابْنَةُ جَحْشٍ ضَرَبَتْ خِبَاءً آخَرَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى الأَخْبِيَةَ، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟» فَأُخْبِرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آلْبِرَّ أَرَدْنَ بِهَذَا؟» فَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ ذَلِكَ الشَّهْرَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ. رواه البخاري
فالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ترك الاعتكاف الذي كان يعتكفه كلَّ سنة, لأجل غيرةِ نسائه, فهكذا تفعل الغيرةُ بين النساء.
قال الحافظ رحمه الله: فِي الْحَدِيثِ شُؤْمُ الْغِيرَةِ؛ لِأَنَّهَا نَاشِئَةٌ عَنِ الْحَسَدِ, الْمُفْضِي إِلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ لِأَجْلِهِ.
وقال أيضًا: الْمَرْأَة إذا غَارَتْ مِنْ زَوْجهَا فِي اِرْتِكَاب مُحَرَّم, إِمَّا بِالزِّنَا مَثَلًا, وَإِمَّا بِنَقْصِ حَقّهَا, وَجَوْرِه عَلَيْهَا لِضَرَّتِهَا وَإِيثَارِهَا عَلَيْهَا، فَإِذَا تَحَقَّقَتْ ذَلِكَ أَوْ ظَهَرَتِ الْقَرَائِنُ فِيهِ, فَهِيَ غَيْرَةٌ مَشْرُوعَة، ولَوْ وَقَعَ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ التَّوَهُّم عَنْ غَيْر دَلِيل, فَهِيَ الْغَيْرَة فِي غَيْر رِيبَة. ا.ه
حتى إنَّ بعض النساء, تغار على زوجها الذي يتصدَّر الفتوى, أو حلِّ مشاكل الناس, فتغار إذا اتصلت عليه امرأةٌ سائلةٌ أو شاكية.
ومِن أمثلةِ الغيرةِ المذمومة: المبالغةُ في الغيرة على الْمحارمِ والأعراض, حيث تصل إلى درجة الوهم والشكّ, وبعضُهم يتشدد في غيرته على محارمه من دون ريبة, فيغار في غير موضعه.
وقد ثبت في صحيح مسلم , عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ جَارًا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعاه إلى طعام, فأبى أنْ يحضر إلا برفقةِ زوجتِه, فَقَامَا يَتَدَافَعَانِ حَتَّى أَتَيَا مَنْزِلَهُ.
فلم يجد صلى الله عليه وسلم حرجاً ولا غضاضةً, من الذهاب والمجيءِ مع زوجته, ومرافقتِه لها, بل والإلحاحِ على أن لا يُستضاف إلا وهي معه! وهذا بخلاف ما عليه بعض الناس الذين يجدون الحرج الشديد من ذلك.
ثم تأملوا قوله: (فَقَامَا يَتَدَافَعَانِ) قال النووي رحمه الله: "مَعْنَاهُ يَمْشِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي أَثَرِ صَاحِبِهِ", أي أنه لم يمش مع الرجل, بل مشى مع زوجته, يُرافقها ويُؤانسُها! فأين هذا مع حال كثير من الناس, الذين يمشون أمام زوجاتهم- خوفًا من أنْ يراه الناسُ يمشي مع زوجته-, بل بعضُهم يبتعد عنها مسافةً بعيدة.
ونُلاحظ أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم, مشى معها أمام الناس, ولم يجد الحرج في خروجها للجاحة, ولو رأى الناسُ شخصها, ما دامتْ بحجابها الكامل, والبعضُ من الناس يُبالغ في ستر شخص المرأة المحجبة, وكأنّ ظاهرَ عباءتِها أصبحتْ عورةً!.
وصدق القائل:
ما أحسن الغيرة في حينها ... وأقبحَ الغيرة في غيرِ حين
نسأل الله تعالى أنْ يُعيذَنا من الْوساوسِ والشّكوك, وأنْ يُحسن أخلاقَنَا, ويُباركَ في ما أعطانا, أنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.
الحمد لله الكريمِ الوهاب، وصلى الله وسلم على محمدٍ عبده ورسوله, المطهَّرِ من الفحشِ والسباب, وعلى آله وأصحابه أولي العقول والألْباب, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين, أما بعد:
أيها المسلمون: وأما الغيرةُ التي سببُها الْحَسَدُ والتنافسُ المذموم: فمثالُه ما يحدثُ بين أصحاب المهنةِ الواحدة، كالتُّجَّار، وأصحابِ المحلاَّتِ والمصانع ونحوِهم، فإذا نجح أحدُهم في تجارته ومهنته, واشْتُهر بين الناس في إتقانه وجودته: حصلت الغيرةُ الْمذمومةُ من بعض التجار وأصحابِ المحلاَّتِ, وربَّما أدَّى ذلك ببعضهم إلى الإضرار به.
ومن أمثلته أيضاً: الغيرة والتنافس من أصحاب النِّعَم، ولذا قالوا: "كل ذي نعمة محسود".
ومن أمثلته أيضاً: الغيرة بين الأندادِ والأقران، فالمعاصرةُ سببٌ للمنافرة، فتحصل المنافسةُ المذمومةُ, بين الأقران من الشعراء والأدباء, والكتَّاب والأطباء, الذي يُؤدِّي بهم إلى القدح بالآخر, والتندُّرِ به, والتقليلِ من شأنه, ولا يرى فيه عيباً إلا أنه أفضلُ منه, ولا يرى فيه قادحاً إلا أنه أشهر منه, فهذا هو الحسد بعينه عافانا الله وإياكم منه.
وأسوأ هذا النوعِ وأخطرُه: الغيرة بين العلماء والدعاة، علمًا أنّ العلماء الربانيّين لا يتنافسون إلا منافسةً شريفة, ولا يتحاسدون ولا يقدح بعضُهم ببعض..
وما نراه في الساحة والواقع, مِن قدح مَن يَنتسب للعلم والقضاء, في الدعاةِ الْمُصلحين, والعلماء الربانيين, إنما هو بسبب غيرتهم من هؤلاء الفضلاء, وحسدهم من هؤلاء النجباء, حيث لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من المكانة والرفعة والقبول.
نسأل الله تعالى أنْ يجمع كلمةَ المسلمين على الحق, وأنْ يُعيذهم من الشحناء والتفرق والبغضاء, إنه على كلّ شيءٍ قدير.
فاتقوا الله عباد الله, واعلموا أنّ الله تعالى إذا أرادَ بعبدٍ خيرًا, غرس في نفسه الخصال الحميدة, والأخلاق الفاضلة, وجنّبه مساوئ الأخلاق.
وإنّ مِن أعظم الأخلاق والفضائل: الغيرة, وذلك بأنْ يغارَ المسلمُ على محارمه, فلا يرضى منهم السفورَ والتبرج والعلاقاتِ المحرّمة.
ثبت في الصحيحين , عن سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رضي الله عنه أنه قال: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفِحٍ - أيْ غَيْرَ ضاربٍ بِعَرْضِهِ بل بِحَدِّه- فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، وَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي».
فالقلب الذي لا غيرة فيه قلبٌ مريضٌ فاسد, نُزعت منه الفطرةُ, وحلّت فيه الرذيلة.
معاشر المسلمين: قد يظنُّ البعضُ أنَّ الغيرة محمودةٌ على الإطلاق, وليس كذلك, بل هناك غيرةٌ مَذْمَومَةٌ يُبغضها الله تعالى.
ولكنْ ما الفرق بينهما؟ وما ضابطُ الغيرةِ المحمودةِ والْمذمومة؟ اسْمعوا إلى جواب ذلك مِن أفصحِ الخلق وأصدقِهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال:" إِنَّ مِنَ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّ اللهُ، وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللهُ، فَالْغَيْرَةُ الَّتِي يُحِبُّ اللهُ: الْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ - أي عند حُدوثها, وتوفُّرِ أسبابها-، وَالْغَيْرَةُ الَّتِي يُبْغِضُ اللهُ: الْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ.
رواه الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ والنسائي, وحسنه الألباني.
ومعنى الْغَيْرَةِ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ: الغيرةُ التي لا مجال للريبة فيها, بل بمجرد سوء الظن.
فهذا الحديث الصحيح: هو الضابط في الغيرة التي يُلام صاحبها, والتي لا يُلام فيها.
فالغيرةُ المحمودة: هي تدعو إلى العفَّة والمودَّة, ولا تكون إلا إذا قامت أسباب الرِّيبة والفتنة.
أما الغيرةُ المذمومة: فهي لا تخلو من ثلاثة مُسبِّبات:
السبب الأول: الشك والوسوسة.
السبب الثاني: الحسد والتنافسُ المذموم.
السبب الثالث: الحبُّ الْمُفرط, وحبُّ التملُّك.
فكلُّ غيرةٍ تكون بسبب هذه الأمورِ الثلاثة أو أحدِها: فهي غيرةٌ مذمومةٌ مكروهة, ولْنأخذ أمثلةً لكلِّ واحدةٍ منها, لِنحذرها ونَتجنَّبَها:
فأما الغيرةُ التي سببها الشك والوسوسة: فمثاله ما يقع به بعضُ الآباء والأزواج, حيث يعتقد أنَّ مِن الغيرة, أنْ يطَّلع على خصوصيَّات زوجته أو ابنته, ويُراقبها في كلِّ حين, ويُفتِّشَ هاتِفَها ومُحتوياتِها, فهذا من الغلو والوسواس.
وكذلك ما تقومُ به بعضُ الزوجات, مِن تنصُّتها على زوجها, وتفتيشِها لهاتفه وأسراره, فهذه غيرةٌ مذمومة.
فإنْ رأى أحدٌ من الزوجين على الآخر ما يُريبه, فليس هذا هو التعاملُ الصحيحُ في ذلك, بل هذا التعاملُ ممَّا يزيدُ في الْمشكلة.
وقد ثبت في صحيح مسلم , أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى, أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلاً؛ مَخَافَة أَنْ يَتَخَوَّنَهُمْ, أَوْ يَلْتَمِسَ عَثَرَاتِهِمْ.
قال الصنعانيُّ رحمه الله: فِي الْحَدِيثِ, الْحَثُّ عَلَى الْبُعْدِ عَنْ تَتَبُّعِ عَوْرَاتِ الْأَهْلِ، وَالْحَثُّ عَلَى مَا يَجْلِبُ التَّوَدُّدَ وَالتَّحَابَّ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ, وَعَدَمَ التَّعَرُّضِ لِمَا يُوجِبُ سُوءَ الظَّنِّ بِالْأَهْلِ، وَبِغَيْرِهِمْ أَوْلَى. ا.ه
وأما الغيرةُ التي سببها الحبُّ الْمُفرط, وحبُّ التملُّك: فمثاله ما تقع به كثيرٌ من النساء, في مُبالغتهن في غيرتهنّ من الضرَّة, إما بعد وجودها, وإما قبل مجيئها, بأنْ تجعل المرأةُ أكبرَ مَصائِبها, أشدَّ همومها: أنْ يتزوَّج زوجُها امرأةً تحلُّ له, بل هي سنَّةٌ من سنن الأنبياء والصالحين, لمن قَدَرَ على ذلك, وكان عادلاً غنيًّا قادراً.
وتأمَّلن - معاشر النساء- ما رَوَتْه عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يَعْتَكِفُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فضَرَبْ لَهُ خِبَاءً - أي خيمة-، فَيُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ يَدْخُلُهُ، فَاسْتَأْذَنَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَضْرِبَ خِبَاءً, فَأَذِنَتْ لَهَا، فَضَرَبَتْ خِبَاءً، فَلَمَّا رَأَتْهُ زَيْنَبُ ابْنَةُ جَحْشٍ ضَرَبَتْ خِبَاءً آخَرَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى الأَخْبِيَةَ، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟» فَأُخْبِرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آلْبِرَّ أَرَدْنَ بِهَذَا؟» فَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ ذَلِكَ الشَّهْرَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ. رواه البخاري
فالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ترك الاعتكاف الذي كان يعتكفه كلَّ سنة, لأجل غيرةِ نسائه, فهكذا تفعل الغيرةُ بين النساء.
قال الحافظ رحمه الله: فِي الْحَدِيثِ شُؤْمُ الْغِيرَةِ؛ لِأَنَّهَا نَاشِئَةٌ عَنِ الْحَسَدِ, الْمُفْضِي إِلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ لِأَجْلِهِ.
وقال أيضًا: الْمَرْأَة إذا غَارَتْ مِنْ زَوْجهَا فِي اِرْتِكَاب مُحَرَّم, إِمَّا بِالزِّنَا مَثَلًا, وَإِمَّا بِنَقْصِ حَقّهَا, وَجَوْرِه عَلَيْهَا لِضَرَّتِهَا وَإِيثَارِهَا عَلَيْهَا، فَإِذَا تَحَقَّقَتْ ذَلِكَ أَوْ ظَهَرَتِ الْقَرَائِنُ فِيهِ, فَهِيَ غَيْرَةٌ مَشْرُوعَة، ولَوْ وَقَعَ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ التَّوَهُّم عَنْ غَيْر دَلِيل, فَهِيَ الْغَيْرَة فِي غَيْر رِيبَة. ا.ه
حتى إنَّ بعض النساء, تغار على زوجها الذي يتصدَّر الفتوى, أو حلِّ مشاكل الناس, فتغار إذا اتصلت عليه امرأةٌ سائلةٌ أو شاكية.
ومِن أمثلةِ الغيرةِ المذمومة: المبالغةُ في الغيرة على الْمحارمِ والأعراض, حيث تصل إلى درجة الوهم والشكّ, وبعضُهم يتشدد في غيرته على محارمه من دون ريبة, فيغار في غير موضعه.
وقد ثبت في صحيح مسلم , عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ جَارًا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعاه إلى طعام, فأبى أنْ يحضر إلا برفقةِ زوجتِه, فَقَامَا يَتَدَافَعَانِ حَتَّى أَتَيَا مَنْزِلَهُ.
فلم يجد صلى الله عليه وسلم حرجاً ولا غضاضةً, من الذهاب والمجيءِ مع زوجته, ومرافقتِه لها, بل والإلحاحِ على أن لا يُستضاف إلا وهي معه! وهذا بخلاف ما عليه بعض الناس الذين يجدون الحرج الشديد من ذلك.
ثم تأملوا قوله: (فَقَامَا يَتَدَافَعَانِ) قال النووي رحمه الله: "مَعْنَاهُ يَمْشِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي أَثَرِ صَاحِبِهِ", أي أنه لم يمش مع الرجل, بل مشى مع زوجته, يُرافقها ويُؤانسُها! فأين هذا مع حال كثير من الناس, الذين يمشون أمام زوجاتهم- خوفًا من أنْ يراه الناسُ يمشي مع زوجته-, بل بعضُهم يبتعد عنها مسافةً بعيدة.
ونُلاحظ أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم, مشى معها أمام الناس, ولم يجد الحرج في خروجها للجاحة, ولو رأى الناسُ شخصها, ما دامتْ بحجابها الكامل, والبعضُ من الناس يُبالغ في ستر شخص المرأة المحجبة, وكأنّ ظاهرَ عباءتِها أصبحتْ عورةً!.
وصدق القائل:
ما أحسن الغيرة في حينها ... وأقبحَ الغيرة في غيرِ حين
نسأل الله تعالى أنْ يُعيذَنا من الْوساوسِ والشّكوك, وأنْ يُحسن أخلاقَنَا, ويُباركَ في ما أعطانا, أنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.
الحمد لله الكريمِ الوهاب، وصلى الله وسلم على محمدٍ عبده ورسوله, المطهَّرِ من الفحشِ والسباب, وعلى آله وأصحابه أولي العقول والألْباب, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين, أما بعد:
أيها المسلمون: وأما الغيرةُ التي سببُها الْحَسَدُ والتنافسُ المذموم: فمثالُه ما يحدثُ بين أصحاب المهنةِ الواحدة، كالتُّجَّار، وأصحابِ المحلاَّتِ والمصانع ونحوِهم، فإذا نجح أحدُهم في تجارته ومهنته, واشْتُهر بين الناس في إتقانه وجودته: حصلت الغيرةُ الْمذمومةُ من بعض التجار وأصحابِ المحلاَّتِ, وربَّما أدَّى ذلك ببعضهم إلى الإضرار به.
ومن أمثلته أيضاً: الغيرة والتنافس من أصحاب النِّعَم، ولذا قالوا: "كل ذي نعمة محسود".
ومن أمثلته أيضاً: الغيرة بين الأندادِ والأقران، فالمعاصرةُ سببٌ للمنافرة، فتحصل المنافسةُ المذمومةُ, بين الأقران من الشعراء والأدباء, والكتَّاب والأطباء, الذي يُؤدِّي بهم إلى القدح بالآخر, والتندُّرِ به, والتقليلِ من شأنه, ولا يرى فيه عيباً إلا أنه أفضلُ منه, ولا يرى فيه قادحاً إلا أنه أشهر منه, فهذا هو الحسد بعينه عافانا الله وإياكم منه.
وأسوأ هذا النوعِ وأخطرُه: الغيرة بين العلماء والدعاة، علمًا أنّ العلماء الربانيّين لا يتنافسون إلا منافسةً شريفة, ولا يتحاسدون ولا يقدح بعضُهم ببعض..
وما نراه في الساحة والواقع, مِن قدح مَن يَنتسب للعلم والقضاء, في الدعاةِ الْمُصلحين, والعلماء الربانيين, إنما هو بسبب غيرتهم من هؤلاء الفضلاء, وحسدهم من هؤلاء النجباء, حيث لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من المكانة والرفعة والقبول.
نسأل الله تعالى أنْ يجمع كلمةَ المسلمين على الحق, وأنْ يُعيذهم من الشحناء والتفرق والبغضاء, إنه على كلّ شيءٍ قدير.
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق