احذروا خسارة المغفرةِ، واجتهدوا في الليالي البواقي
عبدالمحسن بن محمد العامر
الحمدُ للهِ الكريمِ الغفّارِ، وَسِعَتْ رحمتُه الأبرارَ والفجّارَ، وما حوتْ البراري والقفارِ، والمحيطاتُ والبحارُ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له العزيزُ الجبّارُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه المصفى المختارُ، صلى اللهُ وسلمَ عليه وعلى آله الأطهارِ، وصحابتِه الأبرارِ، وعلى التابعينَ ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ العرضِ على الواحدِ القهّارِ.
أمّا بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ، فالتقوى سببٌ لمغفرةِ الذنوبِ؛ قالَ تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ"
معاشرَ المؤمنينَ: بعدَ أنْ مكثَ نوحٌ عليه السلامُ تسعَمِائةٍ وخمسينَ عاماً في دعوةِ قومِه، وبعدَ أنْ عانى صناعةَ السفينةِ العظيمَةِ، وسخريةِ قومِه، وبعدما رأى مِنْ أهوالِ الطّوفانِ الذي أغرقَ الأرضَ وما عليها، وأمواجِه التي كالجبالِ، وغيرِ ذلك مِنَ الأهوالِ والشدائدِ؛ بعدَ ذلكَ نادى ربّه سألاً إياهُ أنْ يُنجَّي ابنَه مِنَ الغرقِ ظانَّاً أنّه مِنْ أهلِه الذينَ وعدَه اللهُ بإنجائهم؛ قالَ تعالى: "وَ َنادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ" فقالَ اللهُ له: "قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ" بعدَ هذا الخطابِ الرَّبانيِّ وَجِلَ نوحٌ مِنْ ربِّه وخافَ أنَّه عصاهُ، وخشيَ أنْ يكونَ ارتكبَ مُحرّماً يكرهه اللهُ فقالَ: "قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ" لم يغترَّ عليه السلامُ بعملِه، ولا بطولِ سنينِ دعوتِه، ولا بصبرِه على الشدائدِ والمعاناةِ؛ بلْ خافَ الخسارةَ وعدّمَ رحمةِ اللهِ له.
وهذا قالَه آدمُ وحواءٌ عندما عصيا اللهَ وأكلا مِنَ الشجرةِ:" قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ"
وهذا ما قالَه الذين عبدوا العجلَ مِنْ بني إسرائيلَ ثمَّ تابوا؛ قالَ تعالى: "وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِن لَّمْ
يَرحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ "
عبادَ اللهِ: إنَّ مَنْ فاتته المغفرةُ والرحمَةُ فهو الخاسرُ الأكبرُ، وستلحقُه الندامةُ والحسرةُ، خاصّةً مَنْ تهيّأتْ له أسبابُ المغفرةِ ففرَّطَ فيها، وفُتحتْ له أبوابُ الرحمَةِ فلمْ يَلِجْ منها، وهلْ أهْيَأُ مِنْ شهرِ رمضانَ لذلك؟ وهلْ أفتَحُ لأبوابِ الجنّةِ مِنْ رمضانَ؟ ألم يَقُلْ عليه الصلاةُ والسلامُ: " إذا كان أولُ ليلةٍ من شهرِ رمضانَ صُفِّدَتِ الشياطينُ ومَرَدةُ الجنِّ، وغُلِّقتْ أبوابُ النارِ فلم يُفتحْ منها بابٌ، وفُتِّحَتْ أبوابُ الجنةِ فلم يُغلقْ منها بابٌ، ويُنادي منادٍ كلَّ ليلةٍ: يا باغيَ الخيرِ أقبلْ، ويا باغيَ الشرِّ أقْصر، وللهِ عتقاءُ من النارِ، وذلك كلَّ ليلةٍ" رواه ابن ماجه عن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه، وصحّحَه الألباني.
فأسبابُ المغفرةُ وافرةٌ متوافرةٌ في رمضانَ، مَنْ أخطأها فقدْ ظلمَ نفسَه وخسِرَها وذلك هو الخسرانُ المبين: "قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ"
وللتّحذيرِ مِنْ هذه الخسارةِ، وتَنْبِيهِ الأمّةِ مِنْ الوقوعِ في حسْرَتِها؛ قالَ صلى اللهُ عليه وسلّمَ: "رغِمَ أَنفُ رجلٍ ذُكِرتُ عندَهُ فلم يصلِّ عليَّ، ورَغِمَ أنفُ رجلٍ دخلَ علَيهِ رمضانُ ثمَّ انسلخَ قبلَ أن يُغفَرَ لَهُ، ورغمَ أنفُ رجلٍ أدرَكَ عندَهُ أبواهُ الكبرَ فلم يُدْخِلاهُ الجنَّةَ" رواه التّرمذيُّ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه وصحّحَه الألبانيُّ.
وفي روايةٍ "شَقِي عبدٌ أدركَ رمضانَ فانسَلَخ منه ولم يُغفَرْ له" وفي رواية "بُعدًا لِمَن أدركَ رمضانَ فلم يُغفَرْ له"
فدعا جبريلُ ّــ عليه السلامُ ــ بالبعدِ والسُّحْقِ، والشَّقَاءِ والذُّلِّ، وعدمِ المغفرةِ، ودخولِ النارِ على مَنْ أدركَ رمضانَ ولم يُغفرْ له، وذلك أنَّ رمضانَ نفحةٌ مِنْ نفحاتِ اللهِ في دَهْرِهِ؛ يُصِيبُ بها مَن يشاُءُ مِنْ عبادِه، فالمُفرِّطُ في رمضانَ المضيِّعُ لِمغْفِرَةِ اللهِ فيه، مُسْتَحِقٌّ لِهذا الدُّعَاءِ؛ لِزيادَةِ دواعيْ الخيرِ في هذا الشَّهْرِ المبَارَكِ، وَضَعْفِ دواعي الشرِّ فيه، فَحَبْسُ شَيَاطِينِ الجِنِّ عَنْ إغواءِ النَّاسِ حُجَّةٌ على المُقَصِّرِ في طاعةِ اللهِ؛ المُتمادِي في معصيَتِهِ - سُبْحَانَه وتعالى - فليس للعبدِ فُرصةٌ أقربُ مِنْ هذه يَنالُ بِها رحمةَ اللهِ ومغفرتَه، فإنْ لم يَسْتَغِلَّهَا ولم يحرصْ عليها، اسْتَحَقَّ الطَّردَ والإبْعَادَ.
عبادَ اللهِ: المغفرةُ في رمضانَ كنْزٌ ثمينٌ، وحظٌّ عَظِيمٌ؛ ينالُه العبدَ بعملٍ يسيرٍ؛ صيامٌ نهارٍ، وقيامُ ليلٍ بإيمانٍ واحتسابٍ، وتحري ليلةَ القدرِ وقيامُها بإيمانٍ واحتسابٍ،
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: مَنْ صامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تقدَّمَ مِن ذَنبِه" وقال: " مَن قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ" وقال: " مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" رواه البخاريُّ ومسلمٌ.
وعنه رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: قالَ عليه الصلاةُ والسّلامُ: الصَّلَواتُ الخَمسُ، والجُمُعةُ إلى الجُمُعةِ، ورمضانُ إلى رَمَضانَ؛ مُكَفِّراتٌ ما بينهُنَّ إذا اجتَنَبَ الكبائِرَ" رواه مسلمٌ
ومِنَ المتقرّرِ شرعاً أنَّ رمضانَ ليس مُكفِّراً للسيئاتِ، بدونِ عملٍ صالحٍ فيه، وليسَ سبباً للمغفرةِ بلا عِبادَةٍ وقُرْبَةٍ خالصةٍ للهِ، وليسَ جالباً للأجورِ والحسناتِ بلا تركٍ للمعاصي وهجرٍ للذنوبِ والخطيئاتِ؛ بلْ هو حُجَّةٌ على العبدِ؛ إذا فرّطَ فيه، إذْ أنَّه منَّةٌ مِنَ اللهُ عليه بأنْ فسحَ في أجَلِهِ وأدْرَكَه.
فاللهَ اللهَ بالإنابةِ والتوبةِ، استدركوا بقيّةَ شهركمِ؛ فما بقيَ مِنْه أفضلُه، فقدْ أفلحَ التائبونَ ونجحوا، يومَ ناداهم ربهم فقالَ: " وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"
باركَ اللهُ ل ولكم بالكتابِ والسُّنةِ، ونفعنا بما فيهما من العبرِ والحكمة ..
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍ وخطيئةٍ إنّه كانَ غفّاراً.
الخطبة الثانيةُ:
الحمدُ للهِ على إحسانِهِ، والشكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيماً لشأنِه، وأشهدُ أنَّ محمَّداً عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانِه، صلى اللهُ وسلّم عليه وعلى آلِه وأصحابِه وإخوانِه، ومن سارَ على نهجِه واستنانِه، إلى يومِ الدّيْنِ والقيامةِ..
أمّا بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: اتقوا اللهَ واعملوا الخيراتِ، فلنْ يَضيعَ عملُكم عند اللهِ: "وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ "
معاشرَ المؤمنين: يتحرّى المسلمونَ في هذِه الليالي الفاضلةِ ليلةَ القدْرِ، راغبينَ في ثوابِها وأجرِها العظيمِ، فهي ليلةٌ خيرٌ مِنْ ألفِ شهرٍ صيامِها وقيامِها وسائرِ العملِ فيها، وألفُ شهرٍ تعادلُ ثلاثاً وثمانينَ سنةً وأربعةَ أشهرٍ، فهل يُفرّطُ في هذا الأجرِ العظيمِ إلا شقيٌّ مغبونٌ محرومٌ! كما قالَ صلى اللهُ عليه وسلّمَ: "من حُرِمَ خيرَها فقد حُرِمَ" رواه النّسائي وصححه الألباني.
وما تبقى مِنْ شهركِم مِنْ ليالٍ هي أرجى الليالي أنْ تكونَ ليلةُ القدرِ فيها؛ عن ابنِ عمرَ رضيَ اللهُ عنه: " أنَّ رِجَالًا مِن أصْحَابِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُرُوا لَيْلَةَ القَدْرِ في المَنَامِ في السَّبْعِ الأوَاخِرِ، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أرَى رُؤْيَاكُمْ قدْ تَوَاطَأَتْ في السَّبْعِ الأوَاخِرِ، فمَن كانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا في السَّبْعِ الأوَاخِرِ" رواه البخاريُّ.
عبادَ اللهِ: شرعَ اللهُ في ختامِ رمضانَ زكاةَ الفطرِ، وهي مِنْ أسبابِ مغفرةِ الذنوبِ، والتَّطهُّرِ منها، فاللهُ يريدُ لنا الطهارةَ مِنَ الذنوبِ، واكتمالَ العمَلِ؛ فعنْ عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما قالَ: "عنِ ابنِ عبَّاسٍ قالَ فرضَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ زَكاةَ الفطرِ طُهرةً للصَّائمِ منَ اللَّغوِ والرَّفثِ وطُعْمَةً للمساكينِ من أدَّاها قبلَ الصَّلاةِ فَهيَ زَكاةٌ مقبولةٌ ومن أدَّاها بعدَ الصَّلاةِ فَهيَ صدقةٌ منَ الصَّدقاتِ" رواه أبوداودَ وابنُ ماجه، وصحّحَه الألبانيُّ.
أرأيتمْ ـــ عبادَ اللهِ ــ كيفَ تهيأتْ أسبابُ المغفرةِ في رمضانَ؟ وهلْ أدركتم لماذا قالَ صلى اللهُ عليه وسلمَ: "ورَغِمَ أنفُ رجلٍ دخلَ علَيهِ رمضانُ ثمَّ انسلخَ قبلَ أن يُغفَرَ لَهُ"
وبعدُ عبادَ اللهِ: احذروا مِنْ خسارةِ المغفرةِ، فقد خافها الأنبياءُ والصالحونَ، والأولياءُ والمتّقونَ، واجتهدوا في نيلها وإدراكها، فالفرصُ معدودةٌ، والأعمارُ محدودةٌ.
هذا وصلوا وسلّموا على رسولِ اللهِ كما أمركم بذلك الله ..