احترام الطعام من شيم الكرام.
عبد الله بن علي الطريف
احترام الطعام من شيم الكرام. 1444/11/6هـ
الحَمدُ للهِ المتفَضِلِ بالنعمِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِراً.. أَمَّا بَعْدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]
أيها الأحبةُ: نعمُ اللهِ على عبادهِ كثيرةٌ وآلاؤهُ جزيلةٌ، وقد أسبغَ اللهُ تعالى على عبادهِ نعمَهُ ظاهرةً وباطنةً، فقالَ تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان:20] ونعمُ اللهِ لا تُعدُ ولا تُحصى قالَ سبحانَهُ: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل:18]. ومن أعظمِ هذه النعمِ وأجلِها نعمةُ الطعامِ، فهو قوامُ حياةِ الإنسانِ، ومصدرُ قوتِه وطاقتِه، وفيهِ لذَتُه، وهو سببٌ لحفظِ الجنسِ البشريِ من الفناءِ فلا حياةَ بلا طعامٍ..
ولقد امتنَ اللهُ تعالى بهِ على عبادهِ فقالَ: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش:3، 4] فنعمةُ الطعامِ من أكبرِ النعمِ الدنيويةِ الموجبةِ لشكرِ اللهِ تعالى وحمدهِ على إحسانِه، والثناءِ عليهِ بعد تناولِه يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة:172].
أَيُّهَا الإخوةُ: ونحنُ في هذه البلادِ المباركةِ قد فتحَ اللهُ علينا أبوابَ الخيراتِ والنِعَمِ، ومن أجلِّها تنوعُ الطعامِ، والحياةُ المترفةُ التي يعيشُها طائفةٌ كبيرةٌ من الناسِ التي لو حُدِّثَ بها أجدادُنا لم يُصدقوا..
نعم: الناسُ في أقطارِ الدنيا يزْرعُون ثَمَرَاتِ كُلِّ شَيْءٍ ويجنونها ويُغلفونَها بأحسنِ تغليفٍ ويحصدِون محاصيلَهُم، ويبعثون بها إلينا رِزْقًا من ربنِا فنَأْكلُ أطيبَ ما يجنونَ، فلا نفقدُ فاكهةَ وخضارَ الصيفِ في الشتاءِ، ولا فاكهةَ وخضارَ الشتاءِ في الصيفِ، وتأتينا أنواعٌ من الحبوبِ، وأصنافٌ من الفواكهِ، وأشكالٌ من المآكلِ والمشاربِ لا تُعدُ ولا تُحصى بينَ طازجٍ، ومجمدٍ ومبردٍ ومعلبٍ منها ما نعرفُه ونعلمُه، ومنها غيرُ ذلك.. قد أفاضَ اللهُ علينا في هذهِ البلادِ من خيراتِ الدنيا ما لاَ نُحْصِي.. فللهِ الحمدُ والشكرُ.
أيها الأحبةُ: وأولُ واجبٍ علينا تجاه هذه النعمِ شكرُ اللهِ تعالى على ما أولانا من نعمٍ، فقد قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة:172] بل جعلَ تعالى الشكرَ سببًا للمزيدِ من فضلِه، فقال: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7] وقال: (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران:144]، وأخبرَ أنَّ الشكرَ حارسٌ وحافظٌ لنعمتِه، وأمانٌ من عذابهِ فقال (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) [النساء: 147]، والشكرُ سببٌ لرضى اللهِ عن عبدهِ: قال تعالى: (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر:7] إذًا الشكرُ يحفظُ النعمَ الموجودةَ، ويجلبُ النعمَ المفقودةَ كما أن كفرَها، يُنَفِرُ النعمَ المفقودةَ ويزيلُ النعمَ الموجودةَ، ويجلبُ عذابَ اللهِ تعالى.
أيها الإخوةُ: ومن شُكرِ نعمةِ الطعامِ والشرابِ، التي قد تغيبُ عن بعضِنا إكرامُ قليلِ الطعامِ، وعدمُ الاستهانةِ بهِ سواءً منه ما كانَ عالقًا بالقدورِ، أو الصحونِ، أو المغارفِ، أو الملاعقِ، وما يتبقى منه في الصحونِ ويُسمى "الفُضلةُ" وكذا المتساقطُ منا على السُفَرِ أثناءَ الأكلِ، أو السَاقطُ في غيرِها.. وقد بينَ لنا المصطفى ﷺ الهديَ القويمَ في التعاملِ مع كلِ هذه الحالاتِ، ولنا به قدوةٌ؛ فقد قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِذَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَأْخُذْهَا، فَلْيُمِطْ [أي يزيلُ] مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى [أي المستقذرِ من غبارٍ وترابٍ وقَذَى ونحوِ ذلك] وَلْيَأْكُلْهَا، وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ، وَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ بِالْمِنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَ أَصَابِعَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.. وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ إِذَا أَكَلَ طَعَامًا لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ، قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَقَالَ ﷺ: «إِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ عَنْهَا الْأَذَى وَلْيَأْكُلْهَا، وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ»، وقَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَأَمَرَنَا أَنْ نَسْلُتَ الْقَصْعَةَ، [نَمْسَحَ إِنَاءَ الطَعَامِ وَنَتَتَبَّعَ مَا بَقِيَ فِيهِ مِنَ الطَّعَامِ] قَالَ: «فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمُ الْبَرَكَةُ». رَوَاهُ مُسْلِم.. وَمَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِتَمْرَةٍ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ: «لَوْلاَ أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنْ صَدَقَةٍ لَأَكَلْتُهَا» رواه البخاري ومسلم عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. [أي: خافَ أن تكونَ ساقطةً من تمر الصدقاتِ والصدقةُ مُحرمةٌ عليهِ فتركهَا]..
أيها الإخوةُ: عَلَّقَ أهلُ العلمِ على هذه الأحاديثِ تعليقاتٍ كثيرةً منها ما قالَهُ النوويُ رَحِمَهُ اللهُ: أنَّ في هذه الأحاديثِ عددًا من سُننِ الطعامِ وذكرَ: "اسْتِحْبَابَ لَعْقِ الْقَصْعَةِ وَغَيْرِهَا، وَاسْتِحْبَابَ أَكْلِ اللُّقْمَةِ السَّاقِطَةِ بَعْدَ مَسْحِ أَذىً يُصِيبُهَا، هَذَا إِذَا لَمْ تَقَعْ عَلَى مَوْضِعٍ نَجِسٍ فَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى مَوْضِعٍ نَجِسٍ تَنَجَسَت، ولابد مِنْ غَسْلِهَا إِنْ أَمْكَنَ، فَإِنْ تَعَذَّرَ، أَطْعَمَهَا حيوانًا ولا يتركُها لِلشَّيْطَانِ، وَمِنْهَا جَوَازُ مَسْحِ الْيَدِ بِالْمِنْدِيلِ لَكِنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ لَعْقِهَا، وَقَوْلُهُ ﷺ «لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمُ الْبَرَكَةُ» مَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الطعامَ الذى يحضُرهُ الإنسانُ فيه بركةٌ ولا يدرى أَنَّ تِلْكَ الْبَرَكَةَ فِيمَا أَكَلَهُ أَوْ فِيمَا بَقِيَ عَلَى أَصَابِعِهِ أَوْ فِيمَا بَقِيَ فِي أَسْفَلِ الْقَصْعَةِ أَوْ فِي اللُّقْمَةِ السَّاقِطَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافِظَ عَلَى هَذَا كُلِّهِ لِتَحْصُلَ الْبَرَكَةُ وَأَصْلُ الْبَرَكَةِ: الزِّيَادَةُ وَثُبُوتُ الْخَيْرِ وَالْإِمْتَاعِ به، والمرادُ هنا واللهُ أعلمُ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّغْذِيَةُ، وَتَسْلَمُ عَاقِبَتُهُ مِنْ أَذىً، وَيُقَوِّي عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَغَيْرُ ذلك.."
وقَالَ الْخَطَّابِيُّ رحمه الله: "عَابَ قَوْمٌ أَفْسَدَ عُقُولَهُمُ التَّرَفُّهُ فَزَعَمُوا أَنَّ لَعْقَ الْأَصَابِعِ مُسْتَقْبَحٌ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الطَّعَامَ الَّذِي عَلِقَ بِالْأَصَابِعِ أَوِ الصَّحْفَةِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ مَا أَكَلُوهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ سَائِرُ أَجْزَائِهِ مُسْتَقْذَرًا لَمْ يَكُنِ الْجُزْءُ الْيَسِيرُ مِنْهُ مُسْتَقْذَرًا، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ أَكْبَرُ مِنْ مَصِّهِ أَصَابِعَهَ بِبَاطِنِ شَفَتَيْهِ، وَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي أَنْه لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ فَقَدْ يُمَضْمِضُ الْإِنْسَانُ فَيُدْخِلُ إِصْبَعَهُ فِي فِيهِ فَيُدَلِّكُ أَسْنَانَهُ وَبَاطِنَ فَمِهِ ثُمَّ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّ ذَلِكَ قَذَارَةٌ أَوْ سُوءُ أَدَبٍ". وقال ابنُ حجرٍ في فتحِ الباري: "وَفِي الْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى مَنْ كَرِهَ لَعْقَ الْأَصَابِعِ اسْتِقْذَارًا.. نَعَمْ يَحْصُلُ ذَلِكَ [أي الاسْتِقْذَار] لَوْ فَعَلَهُ فِي أَثْنَاءِ الْأَكْلِ لِأَنَّهُ يُعِيدُ أَصَابِعَهُ فِي الطَّعَامِ وَعَلَيْهَا أَثَرُ رِيقِهِ.". وقال شيخنُا محمدٌ العثيمينُ رحمَهُ اللهُ: "ومع الأسفِ أنَّ الناسَ يتفرقُون عن الطعامِ بدونِ تنفيذِ هذه السُنةِ وهي -سلتُ موضعِ أكلِ الإنسانِ من الإناءِ- فتجدُ حافاتِ الآنيةِ عليها الطعامُ كما هي؛ والسببُ في هذا الجهلِ بالسنةِ" وسُئلَ رحمه اللهُ: عن حديثِ «إِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ عَنْهَا الْأَذَى وَلْيَأْكُلْهَا، وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ» فقال: "أخذُ اللقمةِ الساقطةِ من آدابِ الأكلِ لأنَّ الشيطانَ يحضرهُ في جميعِ شؤونِه.. وإذا أخذَ الإنسانُ الساقطَ حصلَ على ثلاثِ فوائدَ: الامتثالِ لأمرِ النبيِّ ﷺ، والتواضعِ، وحرمانِ الشيطانِ من أكلهِا" ولما سُئلَ عن "الطعامِ الذي يسقطُ على السفرةِ هل يدخُلُ في هذا الحديثِ أجابَ: نعم الطعامُ الذي يسقطُ على السفرةِ داخلٌ في هذا الحديثِ" انتهى ملخصًا
ومَنْ نظرَ إلى حالِ بعضِ المسلمين مع الطعامِ، وسلوكهِ في أكلِه، ثم قارنَ ذلك بهدي رسولِنا ﷺ الذي ذكرنا، وما عليهِ سلفُ الأمةِ وجدَ بَوْنًا شاسعًا بيننا.. فمنا مَنْ يستهينُ بقليلِ الطعامِ مما يتساقطُ منه أثناءَ أكلهِ على السُفْرةِ ويأنَفُ من أخذِه مع نظافةِ السُفرةِ، بل ويعُدُ أخذُه من قلةِ الذوقِ وسوءِ الأدبِ.! وما علمَ أنَّ تركَهُ هو المخالفُ لسنةِ رسولنِا ﷺ وأنه المتصفُ بقلةِ الذوقِ وعدمِ احترامِ نعمِ اللهِ.. جعلنا اللهُ ممن يحفظْ نعمَهُ ويشكرُه عليها.. وصلى الله وسلمَ على نبينِا محمدٍ وعلى وآلهِ وصحبهِ أجمعين..
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهديه وسلمَ تسليماً كثيراً أما بعدُ أيها الإخوةُ: ومما ينبغي التنبهُ لهُ عندَ طَهي الطعامِ أو تقديمِه الاقتصارُ على المقدارِ المطلوبِ منه سواءً ما يُعدُه الإنسانُ لنفسِه وأهلِ بيتهِ أو لضيوفِه أو ما يأخذُهُ لنفسِه بالمناسباتِ بما يُسمَى "البوفيهات" وتعني الموائدَ المفتوحةَ، فأيُ زيادةٍ عن الحاجةِ هدرٌ في الطعامِ سنُسألُ عنه؛ ولو علمتُم مقدارَ الهدِر في الطعامِ على المستوى العالميِ والمحليِ لهالَكُم الأمرُ، ففي تقريرٍ نشرتُه صحيفةُ الشرقِ الأوسطِ في 21 ربيع الثاني 1444هـ ذكرت أنَّ ما يَقْرُبُ من ثُلثِ الأغذيةِ المنتجةِ في العالمِ (نحو 1.3 مليار طن) تُهدَرُ، وتبلغُ قيمةُ الخسائرِ بسببهِ نحو 990 مليارَ دولارٍ، وأنَّ الهدرَ الغذائيَ في السعوديةِ يمثلُ 33.1% من كميةِ الغذاءِ فيها، بمبلغٍ يصلُ إلى 40 مليارَ ريالٍ سنوياً.. وهذه أرقامٌ «مخيفةٌ» عن هدرِ الطعامِ...
وصمامُ الأمانِ في هذا الواقعِ الأليمِ نحنُ.. فمتى ما التزمنا السنةَ وأخذنا بها حَسُنَ حالنُا وحققَنا شُكرَ المنعمِ..
وبفضلِ اللهِ انتشر في مملكتِنا الحبيبةِ جمعياتٌ تُعنىَ باستلامِ فائضِ الطعامِ كجمعية نعم وجمعية مشكور، وتتولى إعادةَ توزيعهِ على المحتاجين، والذي لا يصلحُ للآدميين يُجمعُ للبهائمِ، وهذا حفظٌ لفائضِ الطعامِ.. مع أنَّ الأولى بنا شُكرُ نعمةِ المنعمِ والاقتِصَارُ على قدرِ الحاجةِ ولا نبالغُ أو نسرفُ فاللهُ لا يحبُ المسرفين قالَ اللهُ: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف:31]. واعلموا أنَّ هدرَ الطعامِ هدرٌ للمواردِ الطبيعيةِ من مياهٍ وأراضٍ وطاقةٍ وأيدٍ عاملةٍ ورأسِ مالٍ، ويُسببُ رميُهُ بالمكباتِ انبعاثَ غازاتٍ سامةٍ ضارةٍ بالصحةِ والجوِ.
حقٌ علينا العنايةُ بما لا يُستفادُ منه من الطعامِ وعزلُه عن بقيةِ النفاياتِ، وحقٌ على أصحابِ المطاعمِ والفنادقِ العنايةُ بذلك.
وبعد أيها الإخوةُ: قالَ ابنُ الحاجِ: "ينبغي للإنسانِ إذا وجدَ خُبزًا أو غيرَهُ مما له حُرمةٌ، مما يؤُكلُ، أنْ يرفَعَهُ من مَوضعِ المهانةِ إلى محلٍ طاهرٍ يصونُه فيه، وهذا البابُ مُجرَّبٌ، فمَنْ عَظَّم اللهَ بتعظِيمِ نعمِه لَطفَ به وأَكرمَهُ، وإن وقعَ بالناسِ شِدةٌ جعلَ له فرجًا ومخرجًا" انتهى. أسأل اللهَ أن يجعلنا من الشاكرين لنعمِهِ وأنْ ينفعَنا بما علِمنا.. وصلوا وسلموا....