اجبروا الخواطر
يوسف العوض
الخطبة الأولى
عبادَ اللهِ : يقولُ اللهُ تعالى:﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ يقول المفسِّرون بأنَّ سورةَ الكوثرِ إنّما نزلت لتطيبِ خاطرِ النّبي صلى اللهُ عليه وسلّم فجبرُ الخواطرِ خلقٌ عظيمُ يدلُّ على شفافيّةِ روحِ المسلمِ، وتفانيهِ في زرعِ الابتسامةِ على شفاهٍ طال عُبوسها من الشّدّةِ والضّنكِ والأسى، والقرآنُ الكريمُ وإنْ لم يأتِ بنصِّ هذه الكلمةِ (جبرِ الخاطر)، غيرَ أنّه مليءٌ بمؤدّاها ومفادها، {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} .
عبادَ اللهِ : ألم يُعاتب الله تعالى حبيبهُ المصطفى وخليلهُ المجتبى من أجلِ عبدٍ ضعيفٍ أعمىً كما وصفه القرآنُ جاءَ يطلبُ الهدايةَ، وكان النّبيّ صلى اللهُ عليه وسلّم قد انشغلَ بدعوةِ غيره طمعاً في هدايةِ كبارِ قريشٍ، فجاءَ القرآنُ معاتباً المصطفى وجابراً لخاطر ذلك العبدِ الضّعيفِ الّذي جاء وصفه في القرآنِ بأنّه أعمى، ومع أنّه لا يرى تقطيبَ جبينِ الحبيبِ صلى الله عليه وسلم في وجههِ، مع ذلك أتى بها مزيداً في تطييبِ خاطره، {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى}.
عبادَ اللهِ : وحتّى أنّ يوسفَ عليه السلامُ بعدَ كلِّ الّذي صنعَ معهُ إخوته، وجمعهُ اللهُ بهم، ما أتى على ذِكرِ الجبِّ مطلقاً، حفاظاً على مشاعرهم من الجرحِ، وصيانةً لخواطرهم من الكسرِ، بل اكتفى بذِكر إنعامِ اللهِ عليه بالخروجِ من السّجنِ فقط، دونَ التّعريضِ بذِكرِ جبٍّ أو غيرهِ، وسمّى كلَّ المؤامرةِ الّتي تآمروا بها عليه (نزغاً من الشّيطان)، وبدأ بنفسهِ قبلَ إخوتهِ، فلنستعرضْ الآيةَ، ونستشعر جبرَ الخواطرِ فيها!! {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} وهذه الآياتُ الّتي استعرضناها لتدلّنا دلالةً واضحةً على عُمقِ تأثيرِ الكلمةِ في قلبِ من قيلت له.
عبادَ اللهِ : من يستعرضُ حياةَ النّبيّ صلى اللهُ عليه وسلّم يجدها مبنيّةً على جبرِ الخواطرِ، مع الصّغارِ والكبارِ والفقراءِ والضّعفاءِ، فهو مدرسةُ هذا الخُلقِ ومشكاةُ هذا الفنِّ.
مع الصّغارِ: هل تعرفونَ أبا عُميرٍ؟ إنّه طفلٌ صغيرٌ جداً، لا يتجاوزُ عمرهُ ثلاثَ سنواتٍ، وهو أخو الصّحابي الجليلِ أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه، وانظروا إلى ملاطفةِ النّبيّ صلى اللهُ عليه وسلّم له، وجبرَ خاطرهُ فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ -قَالَ: أَحْسِبُهُ- فَطِيمًا، وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ: (يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ) نُغَرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ، فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلاَةَ وَهُوَ فِي بَيْتِنَا، فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِي تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ، ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّي بِنَا.
مع البسطاءِ: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا، وَكَانَ يُهْدِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْهَدِيَّةَ مِنَ الْبَادِيَةِ، فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا، وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ)، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّهُ، وَكَانَ رَجُلًا دَمِيمًا، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ، فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَلَا يُبْصِرُهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ: أَرْسِلْنِي مَنْ هَذَا، فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ لَا يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، حِينَ عَرَفَهُ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ؟) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذًا وَاللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ) أَوْ قَالَ: (لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْتَ غَالٍ).
في النّصيحةِ: عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِيَدِهِ، وَقَالَ: (يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ)، فَقَالَ: (أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ).
في إصلاحِ الخطأ: عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللهُ فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ، مَا شَأْنُكُمْ؟ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيماً مِنْهُ، فَوَاللهِ، مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ: (إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ) وسيرةُ النّبيّ صلى اللهُ عليه وسلم حافلةٌ بمثلِ هذه المواقفِ العطرةِ.
الخطبة الثانية
عبادَ اللهِ : العبادةُ ترتفعُ قيمتُها بحسبِ الحاجةِ إليها، وحاجتُنا اليومَ إلى خُلق جبر الخواطر ماسّةٌ، وماسّةٌ جدّاً، فالهمومُ عِظامٌ، والجراحُ بليغةٌ، والآهاتُ داكنةٌ سوداءُ، منْ لها غيرِ مرهم كلماتكِم الطّيّبةِ ومواقفكِم النّبيلةِ، حتّى تغسلَ أوضارها، وتضمّدَ جراحاتِها، وتهمسَ في أذنِ القلوبِ كلماتٌ ملؤها جبرُ الخواطرِ، هذه الجِراحُ من لها غيرَ أياديكم الحانيةِ، أن تمتدَّ لها فتُخرجَ ما فيها من وعثاءٍ، وتضع ُعليها الدّواءَ الناجعَ، فلا تسمع إلّا نداءً خفيّاً (شفاءً لا يغادر سقماً)، وإن تقبّلَ الباري جبرَ خاطرٍ لمستضعفٍ فسيجبرُ خاطرك بجبرٍ يتعجّبُ منه أهلُ السّماءِ والأرضِ، فيمنحك الرّضا والسّكينةَ والحكمةَ والبركةَ، فلا تمتدّ إليك إلّا أيادي الخيرِ، ولا تنطلقُ .الألسنُ إلّا بما فيه الخيرُ، ولا تمشي الأقدامُ إليك إلّا لخيرٍ، {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}
المرفقات
1725943456_جبر الخواطر.docx