اُثبتوا على العهد القديم

ناصر محمد الأحمد
1439/10/06 - 2018/06/20 02:15AM

اُثبتوا على العهد القديم

 

د. ناصر بن محمد الأحمد

الخطبة الأولى :

إن الحمد لله ..

أما بعد: أيها المسلمون: اثبتوا على دينكم، اثبتوا يا عباد الله، الثبات الثبات عباد الله رجالاً ونساءً، شيباً وشباباً.

لقد كثرت الفتن، وزادت الشبهات، وفُتح على الناس أبواب من الشهوات والشرور، وما من يوم تشرق فيه الشمس إلا وعشرات من النوازل تحل في ديارنا، ومثلها ويقابلها عشرات من الفتاوى نسمعها يومياً تبيح للناس أموراً وُلدنا وعشنا وعهدنا حرمتها. ما كنا نتصور أن نعيش في زمن صار يضرب بأقوال وفتاوى علماء كبار عرض الحائط، وقضايا من أصول الدين ومسلماته، أصبحتَ تَسمع من يقول: فيها خلاف. فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

معاشر المسلمين: لا تتبعوا الرخص، ولا تتساهلوا في أمور دينكم، خذوا بالعزيمة، وعليكم بالعهد القديم فبه يكون نجاتكم يوم القيامة. ما كنا نعرف قديماً أنه حرام، فسيبقى حراماً إلى يوم القيامة. فكلُّنا يعلم أننا في عصْرٍ تفرَّق فيه الكثيرون، وغرِقوا في الشهوات في أمرهم، حتى فيما كان محسومًا في دينهم، إذ اختلط عليهم الحقُّ بالضلال، والصواب بالخطأ، ومنهم من استماله تيارُ الحَدَاثيين وأمثالهم، وصار يَسْبح في بحرهم، ويغوص في عُمْق أفكارهم، بل ويفتي في الدين بِناءً على توجُّههم، فيدعو إلى إعادة النظر في الميراث، ويحُثُّ على المساواة بين الذكور والإناث، ويُطالب بمنح الحرية لأي أحد كان، في فعل أي شيء أمامَ العيان، فالله المستعان على كلِّ جاهلٍ وناقص إيمان.

ولذلك ينبغي للمسلم أن يَثْبُت، ويتشبَّت بدينه أكثرَ فأكثر في ظلِّ هذه الفتن، فعواصفُ الشهوات والشُّبُهات في تنامٍ، وهي جاذبة لأصحاب القلوب الضعيفة والعقول الفارغة جذْبًا قويًّا، بل وتُيسِّر عمل الحاقدين على هذا الدين في تشويهه واستمالة الناس إليهم، وصرفهم عن تعلُّمه والإقبال عليه، لأن من تعلَّم دينَه حقَّ التعلُّم فلن يضيره ما يَحِيكه أصحابُ تلك الفتن في هذا الباب، حتى ولو بقي وحدَه، قال صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان: "فاعتزِلْ تلك الفِرَقَ كُلَّها، ولو أن تَعَضَّ على أصل شجرة"، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "الجماعةُ ما وافقَ الحقَّ، ولو كنتَ وحدَكَ". وعن الفُضيل بن عياض رحمه الله قال: "عليك بطريق الهدى وإنْ قلَّ السالكون، واجتنب طريق الرَّدى وإنْ كثُر الهالكون".

لقد أعلَمَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود كذلك كما كان، وبشَّر الغرباء فيه، وهم الذين نتحدَّث عنهم، أي: الذين لا يضرهم من خالفهم ولو كثروا، قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الإسلامَ بدأ غريبًا وسيعودُ غريبًا كما بدأ، فَطُوبى للغُرباءِ"، قيلَ: مَنْ هُم يا رسولَ الله؟ قال: "الذين يَصْلُحُونَ إذا فَسَدَ الناس".

لقد نبَّهنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم كذلك أنه سيكون اختلافٌ كبيرٌ بعد مضيِّ زمنٍ، ونصحنا بالتزام سُنَّته وسُنَّة خلفائه المهديِّين مِنْ بَعْدِه، فقال: "أوصيكم بتقوى الله، والسَّمْعِ والطَّاعةِ، وإنْ تأمَّرَ عليكُمْ عَبْدٌ فإنه مَنْ يَعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخُلفاء الراشدين المهديِّين، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذ، وإيَّاكُم ومُحْدثاتِ الأمور، فإنَّ كُلَّ بِدْعةٍ ضَلالةٌ"، فما أجملَ هذا المنهجَ الصافيَ النقيَّ الذي فرَّط فيه الكثيرون، الذي لو سار عليه جميع المسلمين لنجوا ولسَعِدوا!.

فالتزام الحقِّ واتِّباعه يُورث الحياةَ السعيدة في الدنيا والآخرة، ولا يضِلُّ صاحبُه ولا يشقى، خاصةً في خِضَمِّ هذه الزوابع والفتن اللامتناهية التي نراها ونسمع عنها في كل حين، قال جلَّ وعلا:  (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا)، وفي هذا قال العلامة عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله في منظومته السير إلى الله والدار الآخرة:

سَعِدَ الذين تَجنَّبوا سُبُلَ الرَّدَى                   وتَيمَّموا لِمَنازلِ الرِّضْوانِ

فهمُ الذين قَدَ اخْلَصوا في مَشْيِهِمْ                مُتَشرِّعينَ بِشِرْعَةِ الإيمانِ

وهمُ الذين بَنَوا مَنازِلَ سَيْرهمْ                    بين الرَّجا والخوفِ للدَّيَّانِ 

وهكذا، فالمسلم العاقل يلزمه الحِيطة في دينِه من أصحاب الغيِّ والضلال، لأن الطريق المستقيم واحدٌ، ودخول الجنة لا يتأتَّى إلا بالسير عليه، فعن عبداللهِ بن مسعود رضي الله عنه قال: خطَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خَطًّا بيده، ثمَّ قال: "هذا سَبِيلُ الله مُسْتقِيمًا"، وخَطَّ عن يمينه وشِماله ثمَّ قال: "هذه السُّبُل ليس منها سَبِيلٌ إلَّا عليه شيطان يدعُو إليه"، ثمَّ قرأ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه) [الأنعام: 153

نسأل الله تعالى أن يحفظنا في ديننا ودنيانا وأُخرانا، وأن يُبعِد عن طريقنا أهل الفتن والضلال، وأنْ يُعلِّمنا ما ينفعنا ..

 

بارك الله ..

الخطبة الثانية :

الحمد لله ..

أما بعد: أيها المسلمون: فالثبات الثبات جميعاً على دينكم، والوسائل التي تعين على الثبات على الدين خاصة زمن الفتن نوعان:

الأولى :وسائل تزيد من الإيمان واليقين، وهي التي تحض على الطاعة، وتدفع إلى العمل الصالح، وبها يتذوق العبد طعم الإيمان:

ومنها: طلب الهداية إلى صراط الله المستقيم، والمسلم في كل صلاة لا بد أن يدعو فيها: اهدنا الصراط المستقيم. روى الطبراني في الكبير عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه سلم: "يا شداد بن أوس إذا رأيت الناس قد اكتنزوا الذهب والفضة فاكنز هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد، وأسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك".

ومن الوسائل: الاستقامة على دين الله تعالى، وعدم التفريط في شيء منه، قال الله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). وقال تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ).

وكذلك: التمسك بالسنة، فعن العرباض بن سارية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" رواه أبو داود.

النوع الثاني من الوسائل :وسائل تعصم من الوقوع في الفتن:

ومنها: الصبر على أمر الله، روى أبو دود عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيه مثل قبض على الجمر، للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله" قيل: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: "أجر خمسين منكم".

ومنها: الاستعاذة بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وفي حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه: "تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن" فقالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن".

أيها المسلمون: ومن أعظم ما يُنتفع به من عوامل الثبات على الدين: عدم التعرض للفتن، والسعي في توقّيها بالبعد عنها وعن أسبابها، لذا فابتعدوا عباد الله وأبعدوا أسركم عن أماكن الفتن، وقد جاء في حديث الدجال قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنْ الشُّبُهَاتِ" رواه أبو داود.

نسأل الله لنا ولإخواننا المسلمين الثبات على دينه، والعصمة من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.

المشاهدات 1741 | التعليقات 0