( اتَّقُواْ النَّار )
مبارك العشوان
1437/11/08 - 2016/08/11 16:23PM
إنَّ الحَمْدَ لِلهِ... وَرَسُولُهُ، أمَّا بَعْدُ: فَاتقوا اللهَ... مُسْلِمُون.
عِبَادَ الله: اُبْذُلُوا قُصَارَى جُهْدِكُم في طَاعَةِ رَبِّكُم وَرِضَاه، وَابتعدوا غاَيَةَ البُعْدِ عِنْ مَعْصِيَتِهِ وَسَخَطِه.
اسْعَوا حَثِيْثَا فِي فَكَاكِ أنفُسِكُم مِنَ عَذَابِ الجَحِيْم؛ وَفَوْزِهَا بِالنَّعِيْمِ المُقِيم؛ فَكُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أوْ مُوبِقُهَا.
مَنْ يَدْخِلِ الجَنَّةَ يَفُزْ فَوزاً عَظِيمَا، وَمَنْ يَدْخِلِ النَّارَ فَقد خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِيناً: { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } آل عمران 185، ويقولُ سُبـحانهُ: { قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ } الزمر 15 ـ 16
أعَاذَنَا اللهُ مِنَ الخُسْرَانِ.
عبادَ الله: لقدْ جَاءَتِ الآيَاتُ والأحَادِيثُ مُبَيِّنَةً لِوَصْفِ النَّارِ وَأهْوَالِهَا وَشَدَائِدِهَا، مُحَذِّرَةً لِلمُؤمنينَ أنْ يَسْلُكُوا سَبِيلَ أهْلِهَا؛ قالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً } النساء 115
وَلَعَلَّنَا فِي هَذِهِ الخُطْبَةِ نَتَذَاكَرُ أَعْمَالاً يُبَاعِدُ اللهُ أهْلَهَا عَنِ النَّارِ، ويُحَرِّمُها عَلَيهِم؛ فَنَجْتَهِدَ فِي تِلْكَ الأعْمَالِ، وَنَسْأَلُ اللهَ القَبَولَ وَأنْ يُدْخِلَنَا الجنَّةَ وَيُنْجِيَنَا مِنَ النَّار.
عبادَ الله: إِنَّ أَعْظَمَ عَمَلٍ يُحَرِّمُ صَاحِبَهُ عَلى النَّارِ: تَوْحِيْدُ اللهِ تَعَالَى، وَإِخْلاَصُ الدِّينِ لَهُ، وَالبُعْدُ كُلَّ البُعْدِ عَنِ الإِشْرَاكِ بِهِ، أَيَّاً كَانَ هذا الشِّركُ؛ صَغِيراً أم كَبِيراً، ظَاهِراً أم خَفِيَّاً؛ يقولُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ: ( وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ) رواه البخاري. ويقولُ عَلَيهِ الصلاةُ والسَّلامُ: ( مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ دَخَلَ النَّارَ ) رواه مسلم. وَقالَ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ: ( فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ ) رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمُ وَغَيْرُهُمَا.
التَّوحِيدُ أَهَمُّ المُهِمَّاتُ، وَتَعَلُّمُهُ مِنْ أَوْجَبِ العُلُومِ وَأَجَلِّهَا، وَالحَاجَةُ لَهُ شَدِيدَةٌ؛ فَمَا خُلِقَ الجِنُّ والإِنْسُ إِلَّا لِأَجْلِهِ، كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَلا: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } الذاريات 56 عبادَ الله: وَصَاحِبُ التَّقوَى هُوَ مَنْ يُنَجَّى مِنَ النَّار؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا } مريم 71- 72.
وَحُرِّمَتِ النَّارُ عِبَادَ اللهِ عَلى صَاحِبِ السَّمَاحَةِ وَاللِّينَ؛ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنْ النَّاسِ ) أخرجه الإمام أحمد وصححه الألباني. وَالسَّمَاحَةُ خُلُقٌ كَرِيمٌ، مَا لَزِمَهُ أَحَدٌ إِلَّا أَحَبَّهُ اللهُ تَعَالى وَأَحَبَّهُ النَّاسُ؛ وَمَا اتَّصَفَ بِضِدِّهِ أَحَدٌ إِلَّا كَانَ بَغِيْضاً إِلَى اللهِ تَعَالَى، بَغِيْضَاً لِعِبَادِهِ، مَمْقُوتاً بَيْنَهُم؛ جَاءَ فِي الحَدِيثِ: ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ سَمْحَ الْبَيْعِ سَمْحَ الشِّرَاءِ سَمْحَ الْقَضَاءِ ) أخرجه الترمذي وصححه الألباني . وِفِي الحدِيثِ الآخَرِ: ( إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ ) رواه البخاري ومسلم. وَالَأَلَدَّ الخَصِمُ هُوَ كَثِيْرُ الخُصُوْمَةِ وَالشَّدِيْدُ فِيْهَا.
وَفِي النَّاسِ مَنْ هَذا وَصْفُهُ؛ لَا تَرَاهُ إِلَّا فَظَّاً غَلِيْظاً شَرِساً، لَا يُرَاعِي أَحْوَالَ النَّاسِ وَلَوْ أَوْقَعَهُمْ فِي أَعْظَمِ الضِّيْقِ وَالحَرَجِ؛ فَكُنْ أَخِي المُسلمُ سَمْحاً سَهْلاً لَيِّناً فِي بَيْعِكَ وَشِرَائِكَ وَتَعَامُلِكَ، كُنْ سَهلاً مَعَ أَهْلِكَ؛ وَالِدَيكَ وَزَوْجِكَ وَأَوْلَادِكَ وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاس بِذَلِكَ، كُنْ سَهْلاُ مَعَ عُمَّالِكَ وَخَدَمِكَ، كُنْ سَهْلاً مَعَ مَنْ تَحْتَ إِدِارَتِكَ وَمَسْؤُولِيَّتِكَ، كُنْ أَخِي المُسلمُ عَفُّواً فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى عَفُوٌ يُحِبُّ العَفْوَ، تَأَسَّ بِنَبِيِّكَ وَالأَنبِيَاءِ قَبْلَهُ عَلَيْهِمْ صَلواتُ رَبِّي وَسَلامُهُ؛ عَفَا يُوسُفُ عَلَيهِ السَّلامُ عَنْ إِخْوَتِهِ وَقَدْ حَصَلَ مِنهُم مَا حَصَل، وَعَفَا المُصطَفَى صَلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ كَثِيراً عَنْ قَومِهِ، وِهَكَذا الصِّدِيقُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ؛ كَانَ يُنفِقُ عَلى مِسْطَحِ وَهُوَ مِنْ فُقَرَاءِ الصَّحَابَةِ، فَلَمَّا كَانَتْ حَادِثَةُ الإِفْكِ لِلصِّدِّيقَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تَحَدَّثَ مِسْطَحٌ مَعَ مَنْ تَحَدَّثَ؛ فَحَلَفَ أَبُو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ أَنْ لاَّ يُنفِقَ عَلَيهِ، فَلَمَّا أَمَرَ اللهُ تَعَالى بِالعَفوِ وَالصَّفحِ بَادَرَ وَكَفَّرَ عَن يَمِينِهِ وَعَفَا وَصَفَحَ وَعَادَ يُنفِقُ على مِسطَحٍ.
فَرَضِيَ اللهُ عَن أبي بَكْرٍ وَسَائِرِ الصَّحْبِ وَأَرْضَاهُم.
بَارَكَ اللهُ لِي ولكم... وأقولُ مَا تَسْمَعُونَ...
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ... أمَّا بعدُ: فَإِنَّ اللهَ تَعَالى حَرَّمَ عَلى النَّارِ أَهْلَ الصَّلاةِ قَالَ صَلى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: ( لَا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ ) أخرجه أبو داود وصححه الألباني. والمُرَادُ: صَلاةُ العَصْرِ وَصَلاةُ الفَجْرِ، وَقَالَ تَعَالى: { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ } المعارج 34ـ 35
هَذا مَنْ يُحَافِظُ عَلى الصَّلاةِ؛ أَمَّا مَنْ ضَيَّعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ، وَالنَّارُ بِهِ أَولَى؛ قَالَ تَعَالى: { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً } مريم 59
وَمِمَّنْ حُرِّمَ على النَّارِ عبادَ الله: مَنْ يُحَافِظُ عَلى تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ فَفِي الحدِيثِ: ( مَنْ صَلَّى لِلَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ بَرَاءَةٌ مِنْ النَّارِ وَبَرَاءَةٌ مِنْ النِّفَاقِ ) أخرجه الترمذي وصححه الألباني . وَهَكَذا مَنْ يُحَافِظُ على سُنَّةِ الظُّهْرِ فَفِي الحديثِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ( مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا، حَرُمَ عَلَى النَّارِ ) أخرجه أَبُو دَاوُدَ وقال الألباني: صحيح. وَمِمَّنْ حُرِّمَ على النَّارِ صَاحِبُ الصِّيَام، فَفِي الحدِيثِ: (مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا ) رواه البخاري
وَمِمَّا يُبَاعِدُكَ أَخِي المُسلِمُ عَنِ النَّارِ: مُدَافَعَتُكَ عَنْ أَخِيكَ المُسلِم وَذَبُّكَ عَنْ عِرْضِهِ؛ فَفِي الحدِيثِ: ( مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) رواه الترمذي وصححه الألباني.
تَأَمَّلُوا هَذا مَعَ حَالِ كَثِيرٍنَا اليَومَ؛ بَيْنَ وَاقِعٍ فِي أَعْرَاضِ المُسلِمِينَ، وَبَيْنَ سَاكِتٍ عَنْهُ، وَبَيْنَ مُشَارِكٍ آخِذٍ بِنَصِيْبِهِ مِنْ عِرْضِ أَخِيه.
وَمِمَّنْ حُرِّمَ على النارِ عبادَ الله: صَاحِبُ العَيْنِ البَاكِيَةِ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَالخَوفِ مِنْهُ سُبحانهُ، وَصَاحِبُ العَيْنِ التي تَحْرُسُ في سَبِيلِ الله، كَمَا جَاءَ في الحدِيثِ : ( عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) أخرجه الترمذي وقال الألباني: صحيح لغيره. وقَالَ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ: ( لَا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَلَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ ) أخرجه الترمذي وصححه الألباني .
وَالصَّدَقَةُ ـ رَحِمَكُمُ الله ـ والكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ؛ وِقَايَةُ مِنَ النَّارِ؛ ففي البُخَارِيُّ مِنْ حديثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( اتَّقُوا النَّارَ ) ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاح، ثُمَّ قَـالَ: ( اتَّقُوا النَّارَ ) ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثَلاَثًا، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: ( اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ ) وَفِي حَدِيثِ السَبْعَة الذين يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: ( وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ) رواه البخاري ومسلم.
جَعَلَنِي اللهُ وَإِيَّاكُم مِنَ ألئِكَ السَّبْعَةِ، وَحَرَّمَ وُجُوهَنَا على النَّار، وَرَزَقَنَا الاجْتِهَادَ فِيَمَا يُبَاعِدُنَا عَنْهَا.
ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا...
عِبَادَ الله: اُبْذُلُوا قُصَارَى جُهْدِكُم في طَاعَةِ رَبِّكُم وَرِضَاه، وَابتعدوا غاَيَةَ البُعْدِ عِنْ مَعْصِيَتِهِ وَسَخَطِه.
اسْعَوا حَثِيْثَا فِي فَكَاكِ أنفُسِكُم مِنَ عَذَابِ الجَحِيْم؛ وَفَوْزِهَا بِالنَّعِيْمِ المُقِيم؛ فَكُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أوْ مُوبِقُهَا.
مَنْ يَدْخِلِ الجَنَّةَ يَفُزْ فَوزاً عَظِيمَا، وَمَنْ يَدْخِلِ النَّارَ فَقد خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِيناً: { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } آل عمران 185، ويقولُ سُبـحانهُ: { قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ } الزمر 15 ـ 16
أعَاذَنَا اللهُ مِنَ الخُسْرَانِ.
عبادَ الله: لقدْ جَاءَتِ الآيَاتُ والأحَادِيثُ مُبَيِّنَةً لِوَصْفِ النَّارِ وَأهْوَالِهَا وَشَدَائِدِهَا، مُحَذِّرَةً لِلمُؤمنينَ أنْ يَسْلُكُوا سَبِيلَ أهْلِهَا؛ قالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً } النساء 115
وَلَعَلَّنَا فِي هَذِهِ الخُطْبَةِ نَتَذَاكَرُ أَعْمَالاً يُبَاعِدُ اللهُ أهْلَهَا عَنِ النَّارِ، ويُحَرِّمُها عَلَيهِم؛ فَنَجْتَهِدَ فِي تِلْكَ الأعْمَالِ، وَنَسْأَلُ اللهَ القَبَولَ وَأنْ يُدْخِلَنَا الجنَّةَ وَيُنْجِيَنَا مِنَ النَّار.
عبادَ الله: إِنَّ أَعْظَمَ عَمَلٍ يُحَرِّمُ صَاحِبَهُ عَلى النَّارِ: تَوْحِيْدُ اللهِ تَعَالَى، وَإِخْلاَصُ الدِّينِ لَهُ، وَالبُعْدُ كُلَّ البُعْدِ عَنِ الإِشْرَاكِ بِهِ، أَيَّاً كَانَ هذا الشِّركُ؛ صَغِيراً أم كَبِيراً، ظَاهِراً أم خَفِيَّاً؛ يقولُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ: ( وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ) رواه البخاري. ويقولُ عَلَيهِ الصلاةُ والسَّلامُ: ( مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ دَخَلَ النَّارَ ) رواه مسلم. وَقالَ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ: ( فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ ) رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمُ وَغَيْرُهُمَا.
التَّوحِيدُ أَهَمُّ المُهِمَّاتُ، وَتَعَلُّمُهُ مِنْ أَوْجَبِ العُلُومِ وَأَجَلِّهَا، وَالحَاجَةُ لَهُ شَدِيدَةٌ؛ فَمَا خُلِقَ الجِنُّ والإِنْسُ إِلَّا لِأَجْلِهِ، كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَلا: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } الذاريات 56 عبادَ الله: وَصَاحِبُ التَّقوَى هُوَ مَنْ يُنَجَّى مِنَ النَّار؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا } مريم 71- 72.
وَحُرِّمَتِ النَّارُ عِبَادَ اللهِ عَلى صَاحِبِ السَّمَاحَةِ وَاللِّينَ؛ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنْ النَّاسِ ) أخرجه الإمام أحمد وصححه الألباني. وَالسَّمَاحَةُ خُلُقٌ كَرِيمٌ، مَا لَزِمَهُ أَحَدٌ إِلَّا أَحَبَّهُ اللهُ تَعَالى وَأَحَبَّهُ النَّاسُ؛ وَمَا اتَّصَفَ بِضِدِّهِ أَحَدٌ إِلَّا كَانَ بَغِيْضاً إِلَى اللهِ تَعَالَى، بَغِيْضَاً لِعِبَادِهِ، مَمْقُوتاً بَيْنَهُم؛ جَاءَ فِي الحَدِيثِ: ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ سَمْحَ الْبَيْعِ سَمْحَ الشِّرَاءِ سَمْحَ الْقَضَاءِ ) أخرجه الترمذي وصححه الألباني . وِفِي الحدِيثِ الآخَرِ: ( إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ ) رواه البخاري ومسلم. وَالَأَلَدَّ الخَصِمُ هُوَ كَثِيْرُ الخُصُوْمَةِ وَالشَّدِيْدُ فِيْهَا.
وَفِي النَّاسِ مَنْ هَذا وَصْفُهُ؛ لَا تَرَاهُ إِلَّا فَظَّاً غَلِيْظاً شَرِساً، لَا يُرَاعِي أَحْوَالَ النَّاسِ وَلَوْ أَوْقَعَهُمْ فِي أَعْظَمِ الضِّيْقِ وَالحَرَجِ؛ فَكُنْ أَخِي المُسلمُ سَمْحاً سَهْلاً لَيِّناً فِي بَيْعِكَ وَشِرَائِكَ وَتَعَامُلِكَ، كُنْ سَهلاً مَعَ أَهْلِكَ؛ وَالِدَيكَ وَزَوْجِكَ وَأَوْلَادِكَ وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاس بِذَلِكَ، كُنْ سَهْلاُ مَعَ عُمَّالِكَ وَخَدَمِكَ، كُنْ سَهْلاً مَعَ مَنْ تَحْتَ إِدِارَتِكَ وَمَسْؤُولِيَّتِكَ، كُنْ أَخِي المُسلمُ عَفُّواً فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى عَفُوٌ يُحِبُّ العَفْوَ، تَأَسَّ بِنَبِيِّكَ وَالأَنبِيَاءِ قَبْلَهُ عَلَيْهِمْ صَلواتُ رَبِّي وَسَلامُهُ؛ عَفَا يُوسُفُ عَلَيهِ السَّلامُ عَنْ إِخْوَتِهِ وَقَدْ حَصَلَ مِنهُم مَا حَصَل، وَعَفَا المُصطَفَى صَلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ كَثِيراً عَنْ قَومِهِ، وِهَكَذا الصِّدِيقُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ؛ كَانَ يُنفِقُ عَلى مِسْطَحِ وَهُوَ مِنْ فُقَرَاءِ الصَّحَابَةِ، فَلَمَّا كَانَتْ حَادِثَةُ الإِفْكِ لِلصِّدِّيقَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تَحَدَّثَ مِسْطَحٌ مَعَ مَنْ تَحَدَّثَ؛ فَحَلَفَ أَبُو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ أَنْ لاَّ يُنفِقَ عَلَيهِ، فَلَمَّا أَمَرَ اللهُ تَعَالى بِالعَفوِ وَالصَّفحِ بَادَرَ وَكَفَّرَ عَن يَمِينِهِ وَعَفَا وَصَفَحَ وَعَادَ يُنفِقُ على مِسطَحٍ.
فَرَضِيَ اللهُ عَن أبي بَكْرٍ وَسَائِرِ الصَّحْبِ وَأَرْضَاهُم.
بَارَكَ اللهُ لِي ولكم... وأقولُ مَا تَسْمَعُونَ...
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ... أمَّا بعدُ: فَإِنَّ اللهَ تَعَالى حَرَّمَ عَلى النَّارِ أَهْلَ الصَّلاةِ قَالَ صَلى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: ( لَا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ ) أخرجه أبو داود وصححه الألباني. والمُرَادُ: صَلاةُ العَصْرِ وَصَلاةُ الفَجْرِ، وَقَالَ تَعَالى: { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ } المعارج 34ـ 35
هَذا مَنْ يُحَافِظُ عَلى الصَّلاةِ؛ أَمَّا مَنْ ضَيَّعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ، وَالنَّارُ بِهِ أَولَى؛ قَالَ تَعَالى: { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً } مريم 59
وَمِمَّنْ حُرِّمَ على النَّارِ عبادَ الله: مَنْ يُحَافِظُ عَلى تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ فَفِي الحدِيثِ: ( مَنْ صَلَّى لِلَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ بَرَاءَةٌ مِنْ النَّارِ وَبَرَاءَةٌ مِنْ النِّفَاقِ ) أخرجه الترمذي وصححه الألباني . وَهَكَذا مَنْ يُحَافِظُ على سُنَّةِ الظُّهْرِ فَفِي الحديثِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ( مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا، حَرُمَ عَلَى النَّارِ ) أخرجه أَبُو دَاوُدَ وقال الألباني: صحيح. وَمِمَّنْ حُرِّمَ على النَّارِ صَاحِبُ الصِّيَام، فَفِي الحدِيثِ: (مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا ) رواه البخاري
وَمِمَّا يُبَاعِدُكَ أَخِي المُسلِمُ عَنِ النَّارِ: مُدَافَعَتُكَ عَنْ أَخِيكَ المُسلِم وَذَبُّكَ عَنْ عِرْضِهِ؛ فَفِي الحدِيثِ: ( مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) رواه الترمذي وصححه الألباني.
تَأَمَّلُوا هَذا مَعَ حَالِ كَثِيرٍنَا اليَومَ؛ بَيْنَ وَاقِعٍ فِي أَعْرَاضِ المُسلِمِينَ، وَبَيْنَ سَاكِتٍ عَنْهُ، وَبَيْنَ مُشَارِكٍ آخِذٍ بِنَصِيْبِهِ مِنْ عِرْضِ أَخِيه.
وَمِمَّنْ حُرِّمَ على النارِ عبادَ الله: صَاحِبُ العَيْنِ البَاكِيَةِ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَالخَوفِ مِنْهُ سُبحانهُ، وَصَاحِبُ العَيْنِ التي تَحْرُسُ في سَبِيلِ الله، كَمَا جَاءَ في الحدِيثِ : ( عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) أخرجه الترمذي وقال الألباني: صحيح لغيره. وقَالَ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ: ( لَا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَلَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ ) أخرجه الترمذي وصححه الألباني .
وَالصَّدَقَةُ ـ رَحِمَكُمُ الله ـ والكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ؛ وِقَايَةُ مِنَ النَّارِ؛ ففي البُخَارِيُّ مِنْ حديثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( اتَّقُوا النَّارَ ) ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاح، ثُمَّ قَـالَ: ( اتَّقُوا النَّارَ ) ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثَلاَثًا، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: ( اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ ) وَفِي حَدِيثِ السَبْعَة الذين يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: ( وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ) رواه البخاري ومسلم.
جَعَلَنِي اللهُ وَإِيَّاكُم مِنَ ألئِكَ السَّبْعَةِ، وَحَرَّمَ وُجُوهَنَا على النَّار، وَرَزَقَنَا الاجْتِهَادَ فِيَمَا يُبَاعِدُنَا عَنْهَا.
ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا...