اترك ما لا يعنيك
محمد بن إبراهيم النعيم
أعرض لكم حديثا نبويا عظيم الشأن يُعد أصلاً عظيمًا من أصول الأدب، يعلمنا كيف نَسلمُ في أنفسنا وفي أهلينا وفي معاملتنا مع الناس، كما يعلمنا كيف نحافظ على احترام الناسِ لنا، وكيف نحافظ على محبة إخواننا لنا ومحبتنا لهم.
هذا الحديث الذي سأقف على عباراته، اعتبره بعض العلماء أنه يمثل ثلث العلم، وعده آخرون بأنه ربع العلم أو ربع الإسلام، هذا الحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : (مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ).
قَالَ عَبْدُ اللَّه بْن أَبِي زَيْد إِمَام الْمَالِكِيَّة بِالْمَغْرِبِ فِي زَمَنه: جِمَاع آدَاب الْخَيْر يَتَفَرَّع مِنْ أَرْبَعَة أَحَادِيث: وذكر منها َقَوْله r: (مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ).
وقال أبو دَاوُدَ صاحب السنن: كَتَبْت عَنْ رَسُول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- خَمْسمِائَةِ أَلْف حَدِيث، الثَّابِت مِنْهَا أَرْبَعَة آلاف حَدِيث, وَهِيَ تَرْجِع إِلَى أَرْبَعَة أَحَادِيث قَوْله عَلَيْهِ الصَّلاة وَالسَّلام (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) وَقَوْله (مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ) وَقَوْله (الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ) وَقَوْله (لا يَكُون الْمَرْء مُؤْمِنًا حَتَّى يَرْضَى لأَخِيهِ مَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ) وَرُوِيَ مَكَان هَذَا (اِزْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّك اللَّهُ) وَقَدْ نَظَمَ أحدهم هَذَا فِي بَيْتَيْنِ فَقَالَ:
عُمْدَةُ الدِّينِ عِنْدَنَا كَلِمَاتٌ أَرْبَعٌ مِنْ كَلامِ خَيْرِ الْبَرِيَّهْ
اِتَّقِ الشُّبُهَاتِ وَازْهَدْ وَدَعْ مَا لَيْسَ يَعْنِيكَ وَاعْمَلْنَ بِنِيَّهْ
هذا الحديث ينهى المسلم عن التكلم فيما لا يعنيه، ويبين أن من كمال إسلام المرء تركه ما لا تتعلق عنايته به، ومَعْنَى أن تترك مَا لا يَعْنِيك: أَيْ مَا لا يُهِمُّك وَلا يَلِيقُ بِك قَوْلاً وَفِعْلاً وَنَظَرًا وَفِكْرًا.
وَحَقِيقَةُ مَا لا يَعْنِيك هو مَا لا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي ضَرُورَةِ دِينِك وَدُنْيَاك وَلا يَنْفَعُك فِي مَرْضَاةِ ربك. قال ابن رجب رحمه الله: "وأكثر ما يراد بترك ما لا يعني حِفظُ اللسان من لغو الكلام" اهـ.
إن من يقرأ هذا الحديث يرى الأمر سهلا لأول وهلة، فكل إنسان يرى أنه يستطيع ترك ما لا يعنيه، لكن عندما يدرك أن حب الفضول صفة غالبة في الإنسان يتبين أنه لا بد من مجاهدة النفس حتى تستقيم على هذا الأدب، ولذلك وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- من تغلب على فضوله ولم يتدخل في ما لا يعينه بأن إسلامه تام وحسن، وأنه وصل إلى درجة عالية من الإتباع.
إن ديننا يولي الجانب الأخلاقي عناية تامة، بل تقوم أحكامه على رعاية الأخلاق والمحافظة عليها، ولذلك نهينا عن الفضول وحب التدخل في كل شيء؛ لأنه يهدر ماء الوجه، ويقلل قيمة الإنسان الأخلاقية، ويقلل من كرامته في مجتمعه.
إن تدخل المسلم فيما لا يعنيه، ينقص من حسن إسلامه، ويؤدي إلى عواقب وخيمة منها:
أولا: أنه يؤدي إلى قساوة القلب ووهن البدن وتعسير الرزق: فقد سُئل لقمان الحكيم أي عملك أوثق في نفسك؟ قال: ترك مالا يعنيني. وقال مالك بن دينار: إذا رأيت قساوة في قلبك ووهنا في بدنك وحرمانا في رزقك فاعلم بأنك تكلمت بما لا يعنيك، فكلام الشخص فيما لا يعنيه يقسى القلب ويوهن البدن ويعسر أسباب الرزق.
ثانيا: أنه قد يُسمِع الإنسان ما لا يرضيه: فقد دَخَلَ رجلٌ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- وَهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوْ أَلْقَيْت هَذَا النَّعْلَ, وَأَخَذْت آخَرَ جَدِيدًا! فَقَالَ لَهُ: نَعْلِي جَاءَتْ بِك هَاهُنَا؟ أَقْبِلْ عَلَى حَاجَتِك. أي كأنه يؤدبه بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- (مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ)، لأنك لا تدري عن ظروفه المادية، هل يستطيع شراء نعل جديد أم لا، فَلِمَ تحرجه؟ ولذلك قيل: من تدخَّل فيما لا يعنيه سمع ما لا يرضيه.
ثالثا: فيه مضيعة للوقت فيما لا يفيد: فمن حسن إسلام المرء إعراضه عما لا منفعة له فيه دينا ولا دنيا، فكثير من الناس يكثرون الشكوى من تزايد الأعباء والأشغال، ويتذرعون بقلة الأوقات وضيقها، ولكن لو ترك هؤلاء ما لا يعنيهم لتوفر لديهم كثير من الجهد والوقت.
إن المسلم ذو الهمة العالية ليس لديه وقت ليضيعه في القيل والقال والتدخل فيما لا يعنيه من شؤون الناس الخاصة؛ فكثير من الناس اليوم رجالا ونساء، صغارا وكبارا، انشغلوا بمتابعة كل ما يرسل لهم من أخبار متناثرة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وكثير من هذه الأخبار لا تعنيهم ولا تدخل في دائرة اهتمامهم، ومع ذلك يضيعون الوقت في قراءتها، وإرسالها للغير أو التعليق عليها، فتضيع عليهم ساعات يومهم فيما لا ينفعهم، ولو أنهم عملوا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- (مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ) لاستغلوا يومهم، بل ساعات عمرهم فيما ينفعهم في دينهم أو دنياهم.
رابعا: ومن لم يعمل بهذا الحديث قد يخسر مضاعفة حسناته، لقوله -صلى الله عليه وسلم- (إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلامَهُ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا، تُكْتَبُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا، تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ) متفق عليه.
قال ابن رجب -رحمه الله تعالى- في كتابه جامع العلوم والحكم معلقا على هذا الحديث: وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ مَا لا يَعْنِي الْمَرْءَ مِنْ حُسْنِ إِسْلامِهِ، فَإِذَا تَرَكَ مَا لا يَعْنِيهِ، وَفَعَلَ مَا يَعْنِيهِ كُلَّهُ، فَقَدْ كَمُلَ حُسْنُ إِسْلامِهِ، وَقَدْ جَاءَتِ الأَحَادِيثُ بِفَضْلِ مَنْ حَسُنَ إِسْلامُهُ وَأَنَّهُ تُضَاعَفُ حَسَنَاتُهُ، وَتُكَفَّرُ سَيِّئَاتُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ كَثْرَةَ الْمُضَاعَفَةِ تَكُونُ بِحَسَبِ حُسْنِ الإِسْلامِ اهـ. بذلك فمن لم يعمل بهذا الحديث قد يخسر مضاعفة حسناته، فلننتبه لذلك جيدا.
خامسا: ولنعلم بأن المسلم مؤاخذ ومحاسب حين يكون فضوليا ويتكلم فيما لا يعنيه، فقد روى أبو يعلى والبيهقي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قُتل رجل على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهيدا، فبكت عليه باكية، فقالت: واشهيداه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : (ما يدريكِ أنه شهيد؟ لعله كان يتكلم فيما لا يَعنيه، أو يبخل بما لا يَنقصه). أرأيتم خطورة من يشغل نفسه فيما لا يعنيه؟
سادسا: إن من أسباب مفسدات الأخوة وقطع المودات بين الناس التدخل في الخصوصيات وإقحام النفس في ميادين لا علاقة له بها، مما يسميه الناس في هذا الزمن التطفل والفضولية، فعندما يسألك شخص عن أحوالك المادية، عن راتبك، ورصيدك، وممتلكاتك، وتصرفاتك الخصوصية، هل تحبه؟ ألا تشعر بأنه ضيف ثقيل، وأنه متطفل فيما لا يعنيه فيسقط من عينيك؟ ولو أنه كان يعمل بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ) ما وصل إلى هذا المستوى.
والعجيب أن هذا الصنف يظل أخرسا لا يسأل عن الأشياء التي تعنيه في دينه، وأما في القضايا التي لا تعنيه، فتراه متكلما منقبا، وباحثا مجدا.
إن كثيرا من الخلافات التي بين الناس قد تأتي من باب التطفل والتدخل فيما لا يعنيهم، ففي ميدان العمل على سبيل المثال قد يتدخل موظف فيما لا يعنيه أو ليس في اختصاصه، فيقع الخلاف بينه وبين صاحبِ الشأن، فتنغرس بذرة الشقاق، ولهذا قالوا: رحم الله امراً عرف حده فوقف عنده.
سابعا: ذكر العلماء أن من علامة سخط الله على العبد أن يشغله بما لا يعنيه خذلاناً له، لذلك فإن من علامات توفيق الله للعبد عدم تدخله فيما لا يعنيه، كالاشتغال بتتبّع أخبار الناس الخاصة وما فعلوا وما أكلوا وما شربوا، والتدخّل في الأمور التي لا يحسنها ونحو ذلك، ولقد جاء في سير أعلام النبلاء في ترجمة الصحابي الجليل أبو دجانة، أنه دخل عليه بعض أصحابه وهو مريض ووجهه يتهلل، فقيل له: ما لوجهك يتهلل؟ فقال: "ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، والأخرى فكان قلبي للمسلمين سليمًا".
وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "من علامة إعراض الله عز وجل عن العبد، أن يجعل شغله فيما لا يعنيه"، وقال الإمام مالك: "لا يفلح الرجل حتى يترك ما لا يعنيه ويشتغل بما يعنيه".
نسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا ويحسن أخلاقنا، وأن يجعلنا نشتغل بما يعنينا، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم من كل ذنب، فاستغفروه وتبوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أما بعد:
اعلموا أن للسان أكثر من عشرين آفة، منها: التكلم فيما لا يعني، وأن من اشتغل فيما لا يعنيه فإن إسلامه ليس بحسن، وهذا يقع كثيرا لبعض الناس، فتجده يتكلم في أشياء لا تعنيه، أو يأتي لإنسان يسأله عن أشياء لا تعنيه من قريب ولا من بعيد، ويتدخل فيما لا يخصه، وكل هذا يدل على ضعف الإسلام في الشخص.
فينبغي للمسلم أن يحرص على حسن إسلامه، فيترك ما لا يعنيه من خصوصيات الناس ويستريح؛ لأنه إذا اشتغل بأمور لا تهمه ولا تعنيه فسيتعب كثيرا، وستكون على حساب تفريطه في واجبات تعنيه.
والنفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، فمن اشتغل بالناس نسي أمر نفسه، وأوشك اشتغاله بالناس أن يوقعه في أعراضهم بالقيل والقال.
ولنعلم أن الضابط في معرفة المرء ما يعنيه وما لا يعنيه هو الشرع المطهر، لا هوى النفس ورغباتها، فإن هناك شؤونًا للآخرين وهي تعني الإنسان مباشرة، وسيُسأل عنها: لِمَ تركها وأغفلها؟ ومن ذلك ما كان من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ)؛ لذلك من أنكر عليك منكرا أو قدم لك نصيحة، فلا يشرع لك أن تقول له: هذا لا يعنيك، أو أنا حر ولا تتدخل في خصوصياتي؛ لأن هذا الأمر يعنيه وسيُسأل عنه يوم القيامة.
ومما يعني المسلم بدرجة كبيرة من شؤون الآخرين: شؤون المسلمين وقضاياهم في أي بلد كان، ومن أية جنسية كانوا، فإن: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر بأن (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى).
بينما نرى كثيرا من المسلمين على عكس ذلك، فتراهم يهتمون بمتابعة ما لا يعنيهم كمثل مباريات كأس العالم، فيشجعون أندية نصرانية وأندية ملحدة ولاعبين كفرة، وفي المقابل ينشغلون عن أخبار إخوانهم الذين يقتلون ويسحقون منذ سنوات في العراق وسوريا وفلسطين وفي كثير من دول العالم، وكأن الأمر لا يعنيهم، فماذا يعنينا إذا انتصر نادي دولة نصرانية على ناد آخر؟ وما الثمرة التي ستكسبها أنت كي تضيع ساعات عمرك في متابعة هذه الأمور؟ فهل هي تعنيك وتهمك في أمر دينك أو دنياك؟ هل ستكسب منها حسنات؟ ألا يدل ذلك على عدم حسن إسلامك؟ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ).
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر من ينصر الإسلام والمسلمين
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا==اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت...