ابن تيمية.. براءة من التطرف - د. : لطف الله خوجة

الفريق العلمي
1439/03/30 - 2017/12/18 11:39AM

الذين اتهموا ابن تيمية بالتكفير، هم بالقطع لا يعرفون من تراثه شيئا يذكر، فأحرى بهم أن يتعرفوا أولاً؛ فإن كانوا يعرفون فإنهم يفتقرون إلى تمييز وفهم صحيح، يدركون به عظمة في هذا الإمام، العالم، المحرر، المحقق، الذي لم يمر في تاريخ الإسلام أحد مثله؛ عالج قضية الغلو في التكفير، حتى قلاه أصناف الغالين من كل اتجاه، حين عرفوا حقيقة مذهبه؛ أنه لا يعضد أي نوع من الغلو، بل يضع الأصول المتينة في هدمه؛ ليقوم التوسط والاعتدال مكانه.

 

فإنه لم يمر في تاريخ: الفكر، والفقه، والعقيدة الإسلامية. عالم جمع أشتات الأصول الشرعية؛ ليهدم بها مقالات الغالين الوالغين في: التكفير، والخروج على الأمة، والقتال. مثل الإمام ابن تيمية. وقد أبلغ في ذلك وأطال النفس، فوضع كليات تنقض أسس الغلو: في الدين، وفي الأحكام المتعلقة بالناس أجمعين. ولكثرة ما كتب وعبَّر بات من المستعصي تحريف الكلم، ونسبة ما لا يصح، فإذا ما أجمل في موضع، فصّل وشرح ببلاغة وبيان في مواضع أخر، حتى لا يدع لسائل مسألة إلا بإجابة شافية كافية.

 

فقد تتبع أصول مقالات الخوارج والمعتزلة، التي بها كفروا واستباحوا دماء المسلمين، مثل قولهم: “إن الإيمان جزء واحد لا يتجزأ”. وهو مسألة “تبعض الإيمان”. فبه منعوا: اجتماع الحسنة والسيئة في الشخص الواحد. مع ثبوت إمكانه في نصوص صريحة؛ كحديث عبد الله حمار، كان يشرب الخمر، فأتي به ليجلد، فلعنوه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: “لا تلعنوه، فو الله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله”. فشهد له بالحسنة مع وجود السيئة فيه، لكن الغلاة لم يؤمنوا، وحكموا على من وقع في المعصية -كشرب الخمر- بالكفر؛ إذ بها انتفى إيمانه عندهم.

 

فإنهم لما جعلوا الإيمان شيئا واحدا حكموا بذهاب كله بذهاب بعضه، وضربوا العشرة مثلا: أن ذهاب واحد منها، موجب لزوال اسم العشرة.

 

فهذا أصل شبهة الوعيدية والوعدية على حد سواء، من: خوارج، ومعتزلة، ومرجئة.

 

وجوابه يقوم على قلب الدليل المستدل به؛ بإثبات أن الإيمان أجزاء وشعب بنص الكتاب، والسنة، وقول السلف. فهذه الأجزاء منها: الأصل، والواجب، والمستحب.

 

فمجرد الذنب لا يبطل الإيمان، إلا أن ينال من أصله، أما إذا نال من فرعه: الواجب أو المستحب. فإنه يتضرر وينقص من غير أن يزول كليا، بل يبقى منه ما يبقي صاحبه في دائرة الإسلام. واسم العشرة يزول بذهاب الواحد، نعم، لكن مع بقاء أكثره، وهو التسعة؛ فيزول الاسم مع بقاء الحقيقة، كذلك الإيمان، يزول الاسم بفعل كبيرة، ويبقى الأصل، فلا يستحق صاحبه كفرا، ولا قتلا.

 

فهاهنا نصوص نافية للإيمان، كقوله: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه..”، وأخرى تصف ذنوبا بالكفر؛ كقوله: “وقتاله كفر”. وهي مما استدل بها الغلاة، لكن شيخ الإسلام يبين بشرح مفصل: أنه لا يلزم من نفي الإيمان، أن يكون دالا -لزوما- على كفر أصحابها. فقد يراد بها نفي الإيمان الواجب، لا الأصل، فيأثم دون أن يخرج من الملة، وهذا يعرف بالقرائن والأدلة الأخرى. كذلك الوصف بالكفر يحتمل: أن يراد به الأصغر لا الأكبر. والحاكم فيه النصوص الأخرى؛ فالمتقاتلون لا يكفرون باقتتالهم؛ لأن الله تعالى سماهم مؤمنين، فقال سبحانه: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا)؛ ولو كفروا كفرا أكبر بقتالهم، ما سماهم مؤمنين، بل كافرين؛ فانظر إلى هذا الفقه المتين هل تجد مثله عند أحد من هؤلاء الغلاة، فتصح تهمته بالغلو؟!

فما سبق فقه وثيق، منع من حمل نصوص نفي الإيمان، والوصف بالكفر، على ما يخرج من الملة بإطلاق؛ فهذا كفّ للغلاة في مرحلة متقدمة من مراحل غلوائهم، وهي مرحلة الاستدلال.

 

لكن الذي لا ريب فيه: أن ثمة أعمالا وأقوالا، هي كفرية بنص الكتاب، والسنة، وقول السلف. ولا مهرب من إثبات: أنها تنقض أصل الإسلام؛ فأي شيء صنع هنا؟

إنه مع تسليمه بوجود أعمال كفرية تنفي أصل الإيمان، إلا أنه يفرق بين: تكفير يقع على الفعل، وآخر يقع على الفاعل. فيثبت الأول بالنص، ويمنع من الثاني إلا بإقامة الحجة في تكفير الأعيان، فهو الشرط الذي نبه له وشدد عليه في كثير من كتبه، والحجة عنده، هي: العلم، والفهم، وانتفاء العجز؛ فلا كفر إلا بعد العلم، وله أرسل الرسل. ولا كفر إلا بعد فهم الحجة؛ بإزالة الشبهة، وله بلّغ الرسل رسالتهم بالبلاغ المبين، حتى يفهمه كل إنسان. ومن عجز عن معرفة الحق، أو اتباعه، فهو معذور عند رب العالمين: (لا يكلف الله نفسها إلا وسعها).

 

فإذا رأيت هذا التقرير في مقالاته، وجدته حذرا مجتنبا تكفير الأعيان غاية الإمكان؛ فعامة كلامه إنما يقع في تكفير: الأعمال المنصوص على كفرها، أو تكفير المقالات الغالية، المتفق على كفرها، أما الأعيان فلا يمسهم بسوء من القول، وهو الذي يقول عن نفسه: “هذا مع أني دائما، ومن جالسني يعلم ذلك مني؛ أني من أعظم الناس نهيا عن أن ينسب معين إلى: تكفير، وتفسيق، ومعصية. إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية؛ التي من خالفها كان كافرا تارة، وفاسقا أخرى، وعاصيا أخرى، وإني أقرر: أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها. وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية”.

 

فأكثر الذين يتهمونه بالتكفير، مع علمهم بكلامه، هم لا يعرفون الفرق بين تكفير المعين، والتفكير المطلق العام؛ فإذا رأوه يكفر الفعل والمقالة حملوه وأنزلوه على العين، فهذا خطؤهم، وليس خطأ له يحتمله؛ فعليهم: أن يدرسوا لغة العلماء في هذا واصطلاحاتهم، ليفهموا!

 

ومن عجب أن ترى الذي نال منه بتهمة، متلبسا بها دونه ففي هؤلاء من هم أسرع تكفيرا، بل تقعيدا لأصول تنتج نفي العذر جملة وتفصيلا، وتحميل كل مخطئ وزر خطئه قصد أو لم يقصد، والعذر باب من أبواب التخلص من حمل التكفير؛ فمن نفاه جملة فقد أغلق الباب، فتلك مسألة “الخطأ والإثم” هل يتلازمان؟

 

فقد ذهبت المعتزلة إلى أن المخطئ غير معذور، لا في أصول أو فروع، سواء العلمية أو العملية، ذلك أن الحق لا يخفى، والله أعطى الإنسان القدرة على معرفته، فإن أخطأه فبتقصير منه، يستحق به الحساب والعقاب! ولهم -وغيرهم من الأشعرية- تفصيل واختلاف في التفريق بين العلمية والعملية، وما كان قطعيا وغير قطعي، لكنهم جميعا يتفقون على عدم عذر المخطئ، فيما كان محله الدليل القطعي.

 

ومن أثر هذا القول: أن الخطأ ليس من الأعذار في درء الكفر عن فاعله. وهذا مع مصادمته للنص: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)، “قال الله: قد فعلت”. هو أيضا: إعانة على التكفير بغير حق، وتوسيع دائرته ليشمل القاصدين وغير القاصدين.

 

لكن شيخ الإسلام يقرر: أن الإثم لا يلزم الخطأ؛ فمن الإثم ما حقه العفو والتجاوز لعلة، والخطأ أحد هذه العلل المنصوص عليه، ويسوق أمثلة كثيرة من أخطاء وقعت من الصحابة؛ بعضها فقهية، وأخرى عقدية في أصل الإيمان، عفا الله عنها وتجاوز، فلم يرتب عليها عقوبات لا دنيوية، ولا أخروية، ولم يحكم أئمة السنة فيها بكفر على أصحابها؛ كونهم مخطئين معذورين.

 

وكم من حالات يرتكب فيها المسلم أعمالا كفرية خطأ؛ سواء قُصِد بالخطأ المقابل للعمد، أو الخطأ المترتب على: الجهل، أو الشبهة، أو النسيان؛ فكلها محل مسامحة من الله تعالى لهذا المخطئ؛ فلا يؤاخذ إلا بما قصد وعمد، وتعمد وعاند.

 

هكذا يضع حاجزا أمام الغلاة يمنعهم به من تكفير المخطئين، كما وضع من قبل؛ فأي الفريقين أحق بتهمة الغلو: المعتزلة والأشعرية الذين تبنوا تجريم المخطئ، بل وتجويز عقوبة الطائع المؤمن، والإنعام على المذنب الكافر، كما هو مذهب الجهمية والأشعرية، أم الذي يعذر في الخطأ، ويستدل على العذر بنصوص لا تعد ولا تحصى، ويضع لذلك قاعدة كلية؟!

 

ومن أشهر ما يستدل به على توسطه واعتداله، وانتفاء تهمة التطرف عنه، ما رجحه بألفاظ صريحة لا تحتمل التأويل، ووضع فيه كتابا، هو: “قاعدة في قتال الكفار ومهادنتهم، وتحريم قتالهم لمجرد كفرهم”، فُقِد أصله وبقي مختصره، وشهدت نصوص أخرى -في كتبه- بما فيه، هو قوله: أن قتال الكافر لحربه لا لكفره. فهذا فيه بيان: أن الأصل في الإسلام هو السلم لا الحرب.

 

وهذا يتناقض جذريا مع أقوال الغلاة وتطبيقاتهم، التي تصرح بأن: الأصل الحرب والقتل لا السلم. ومقتضاه: قتل الكافر لمجرد كفره. وقد ساقوا هذا المعنى؛ ليعملوا به في تقتيل أهل الذمة، والمعاهدين، والمسالمين بداعي كفرهم!

 

فأما شيخ الإسلام، فإنه يستدل على بطلان هذا القول، بعد بيان مخالفته لقول الجمهور: أبي حنيفة، ومالك، وأحمد. بأنواع من الأدلة، من قرآن، كقوله: (لا إكراه في الدين)، والقتل للكفر يتضمن الإكراه على الدين؛ لأن معناه: إن لم تسلم قتلناك. وهذا رد ونقض لمعنى الآية. كذلك قوله: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين). وهو صريح في منع قتال الكفار لكفرهم، وتسميته عدوانا، وإذن بقتالهم لعدوانهم بقتال.

 

وفي السنة أخبار عديدة؛ أن الكافر لا يكره على الإسلام، ولا يقتل على كفره، وإلا لقتل النبي -صلى الله عليه وسلم- أهل مكة لما فتحها، أو يسلمون، وهم لم يُقْتَلوا، ولم يُسْلِموا إلا بعد حين بإرادتهم. كذلك سنته مع الأسرى؛ فلا يعرف إجباره أحدا على الإسلام، ولا تهديده بالقتل إن لم يسلم، ولا بقتله لأنه كافر، بل سائر القتال كان لأجل الحرب والعدوان من قبل الكفار. والغرض من الجهاد: أن تكون كلمة الله هي العليا، ولا يشترط له إسلام كل كافر، بل بانتشار الإسلام بين الأقطار بلا مانع.

 

فأين التطرف في مثل هذا التحريرات المصنوعة من حاذق ماهر، أفبعد كل هذا التأصيل، والتمثيل، والاستدلال للزوم الوسط في الدين، يقال عنه: إن من صناع التطرف؟!

 

إلا أن يقصد به: كلامه في تضليل وتبديع الفرق المخالفة للسنة، وتكفير ما يستحق منها التكفير بالأدلة. فهذا حق قام به، فلا ينفيه، ولا هو متخفف من تبعاته؛ إذ يرى فيه قيام الدين، وحفظ الشعائر والملة من المحرفين والمبدلين، الذين يضمرون بلاء على الإسلام والمسلمين.

 

نعم، ما من فرقة عرفها وعلم بها، إلا وعرضها على المصادر المعتمدة عند السنة، بعد حسن التصور لكلامهم، وفهم مقاصدهم، ومعرفة دقائقهم، ثم الحكم بما قاده النص إليه، من دون مبالاة بمن رضي أو سخط، إلا رضى الله تعالى وحده، فإن له منهجا في مثل هذا يعرف.

 

فإذا ما تكلم على فرقة ما، بيّن حقيقتها دون تراخ، أو إحجام، أو مجاملة، فلا يغادرها إلا وقد ميّز صحيحها فيثني، وسقيمها فينعي، ثم يرد وينقد، فلا يغمط فرقة حقها من الإصابة، لكنه لا يسامحها في خطأ وقعت فيه، إلا ويكشف الستر، ويرفع عن المحجوب؛ ليظهر كنهه للناس.

 

مع إنصافه أربابها وأتباعها فلا يتسرع في وصف ببدعة، أو كفر، أو فسق إلا إذا امتلك برهانا، وقليلا ما يطلق الأحكام الغليظة القاطعة على الأعيان، بل يكتفي ببيان ما أصاب فيه، وما أخطأ فيه، فلان وفلان، ولا يغض الطرف عن صوابه لأجل خطئه، ولا يخفي جميله لأجل قبيحه، بل يعدل ويقسط، بقول ما له وما عليه، ولأجله رأيت ألد أعدائه من الصوفية، لا يترددون في الاستناد إليه للدفاع عن الصوفية من نقد السلفية، فيتدرعون به، ويتخذونه ردءا، وقد علموا -يقينا- أنه لم يبق حجرا في التصوف إلا نزعه من مكانه، فأسقط بنيانهم من القواعد، فخر عليهم السقف من فوقهم، كل ذلك بعدل وإنصاف، وهو الأمر لم يرق لطائفة منهم، فلم تتورع في تكفيره عينا، واتهامه بالزندقة، فاعجب لقوم يتخذونه ردءا، ثم هم يسعون في تكفيره، أو تبديعه، كيف استقام لهم هذا التناقض؟ إلا أن يكون ما فيه من عدل وإنصاف، مفيدا في حماية جنابهم، وما فيه من صراحة وحق غائظا لقلوبهم!

 

إذا كانت تهمته بسبب نقده للفرق فهذا شرف حمله، وأمانة قام بها خير قام، تجاه الإسلام والمسلمين؛ فله من الله المثوبة، ومن المؤمنين الدعوات؛ فإن بيان أحوال الفرق واجب على كل من علم؛ لحفظ الدين؛ فإنه ما من فرقة إلا ولها حظ من التحريف والتبديل، فإذا لم يقم العلماء بما عليهم من بيان حقيقة هذه الفرق؛ قربها وبعدها من الإسلام فإنهم مسؤولون.

 

لكن أبناء تلك الفرق البدعية، سيغيظهم قطعا جهد الشيخ في بيان حقيقة مذهبهم، وكشف أسرارها المضرة؛ فلا غرو أن تجد منهم ذما، وتهما، وبهتانا، وكذبا صريحا، فإنه يفسد عليهم بابا من أبواب الخدع، فيغلقه عليهم حتى لا يُضلوا العباد، وفي هذا خسران مكاسبهم الملتوية، وهذا ما لا يحتملونه. وفي المبغضين من غلب الجهل عليه -فما عرف الحق على وجه كما هو- فعاداه من غير أن يعلم حقيقته فهذا يدعى لقراءة تراثه بحياد، حتى يحكم بعدل.

 

لا يملك المتتبع لسيرة ابن تيمية إلا أن الظن بأنه مؤيد من الله تعالى؛ قد نشر له علما واسعا باقيا لليوم، مما ينفع الناس، يحمله الصدق، ويرعاه الإخلاص، ويقيمه اليقين، فمهما نصبوا له مشنقة وعودا فليس بضاره أن ينالوا من ذاته أو كلماته، بل هو إيذان ببلوغ ما وضع وما كتب، ما بلغ الليل والنهار؛ فلم يحارب فكر بباطل إلا وكان سببا في نمائه وغلبته بإذن الله.

 

المصدر: صيد الفوائد

المشاهدات 660 | التعليقات 0