إياكمْ والفتورَ وقتَ الغنائمِ

عبدالمحسن بن محمد العامر
1444/09/08 - 2023/03/30 12:55PM

 

الحمدُ للهِ الذي شرَعَ الدِّيْنَ ويَسَّرَه، وجَعَلَ في وُسْعِ العبادِ وطاقَتِهم على التكاليفِ مَقْدِرةً، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له؛ واسِعُ المغفرَةِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسُوْلُه؛ صاحِبُ السِّيرَةِ العَطِرَةِ، صلى الله وسلمَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه البرَرَةِ، وعلى التّابعينَ ومَنْ تبعَهَمْ بإحسانٍ إلى يومِ الآخِرَةِ.

أمَّا بعدُ: فيا عبادَ اللهِ أوصيكمْ ونفسي بتقوى اللهِ تعالى، فمَعَ التقوى تنشطُ النُّفوسُ للطاعَةِ، وتقوى على العبادَةِ، وتُسَابِقُ إلى اللهِ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"

معاشرَ المؤمنينَ: بينَ الفتورِ والتسويفِ تضيعُ الأعمارُ، وتنقضي الآجالُ، وتذهبُ القوَّةُ والشبابُ، وتضْعُفُ الهِمَّة والنَّشاط، ويحلُّ المَشِيبُ بما يَصْحبُه مِنْ أسقامٍ وأوجاعٍ،

 والخَسارةُ، وقِلَّةُ الأرباحِ، وخِفّةُ الموازينِ، والغَبْنُ يومَ التغابنِ؛ حصيلةٌ حتميّةٌ للمتكاسلينَ، وعاقبةٌ وخيمةٌ للمتخاذلينَ، ومصيرٌ مؤلمٌ للمُسوِّفينَ، قالَ تعالى: "وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ*وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ*أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ*أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ*أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ"

ولئنْ كانَ النَّدمُ حاصلاً مِنْ الخَلْقِ أجمعينَ لا مَحالَةَ يومَ القيامةِ والدِّيْنِ، فإنَّ ندمَ أهلِ الفتورِ والكسلِ، وأهلِ التسويفِ وطولِ الأملِ؛ أعظمُ وأشدُّ ألماً وعذاباً.

ولئن كانَ الفتورُ والكسلُ والتسويفُ مذموماً في كل الأوقاتِ والأزمانِ، فإنَّه في الأوقاتِ الفاضَلةِ أشدُّ ذمَّاً، وأكْبرُ غَبْنَاً ونَدَمَاً؛ يَدُلُّ على ذلك قولُ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلمَ عن رمضانَ وليلةِ القدرِ: "وفيه ليلةٌ هي خيرٌ من ألفِ شهرٍ، مَنْ حُرِمَ خيرَها فقد حُرِمَ" رواه النسائيُّ وصححه الألبانيُّ.

والتماسُ الأعذارِ غيرُ مُجدٍ، والتعلُّقُ بالقضاءِ والقَدَرِ في الفتورِ والكسَلِ وتركِ العبادةِ غيرُ مقبولٍ إطلاقاً، عنْ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي اللهُ عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلمَ طَرَقَهُ وفَاطِمَةَ بنْتَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَيْلَةً، فَقالَ لهمْ: ألَا تُصَلُّونَ، قالَ عَلِيٌّ: فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّما أنْفُسُنَا بيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِينَ قُلتُ ذلكَ، ولَمْ يَرْجِعْ إلَيَّ شيئًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ وهو مُدْبِرٌ يَضْرِبُ فَخِذَهُ ويقولُ: "وَكانَ الإنْسَانُ أكْثَرَ شيءٍ جَدَلًا" رواه البخاريُّ.

 والتغلُّبُ على الظروفِ والمشاغلِ، والتفطُّنُ للصَّوارِفِ، ونبذُها؛ مطلوبٌ مِنَ المسلمِ، وهذا مِنَ المُجاهدَةِ المأمورِ بها المسلمُ قالَ تعالى: "وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" فشرائعُ الدينِ مِنْ واجباتٍ وسننٍ ومستحبَّاتٍ كلِّها ممَّا يسَّرَهُ اللهُ على العبادِ، فالمطلوبُ منَ العبادِ مجاهدةُ أنفسِهم على الأعمالِ الصالحةِ، قالَ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "والمجاهدُ من جاهدَ نفسَهُ في طاعةِ اللَّهِ" رواهُ الإمامُ أحمدُ وغيرُه وحسَّنه الألبَانيُّ.

وجاءَ في فضلِ مجاهدةِ النفسِ على قيامِ الليلِ خاصةً قولُه صلى الله عليه وسلم: "رجُلانِ مِن أُمَّتي يَقومُ أحَدُهما مِنَ اللَّيلِ فيُعالِجُ نفْسَه إلى الطَّهورِ وعليه عُقَدٌ، فيَتَوضَّأُ، فإذا وَضَّأَ يدَيهِ انحلَّتْ عُقْدةٌ، وإذا وَضَّأَ وَجْهَهُ انحلَّتْ عُقْدةٌ، وإذا مسَحَ رأسَهُ انحلَّتْ عُقْدةٌ، وإذا وَضَّأَ رِجْلَيهِ انحلَّتْ عُقْدةٌ، فيقولُ الرَّبُّ للذينَ وراءَ الحِجابِ: انظُروا إلى عَبْدي هذا يُعالِجُ نفْسَه، ما سألَني عَبْدي هذا فهوَ لَه" رواهُ الإمامُ أحمدُ وصححهُ الألبانيُّ.

قالَ محمدُ بنُ المنكدرِ: كابَدْتُ نفسي أربعينَ عاماً حتى استقامتْ لي، وقالَ ثابتُ البُنَانيُّ: كابَدْتُ نفسي على قيامِ الليلِ عشرينَ سنةً وتلذَّذْتُ بهِ عشرينَ سنةً، وقالَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ: أفضلُ الأعمالِ ما أُكرِهَتْ عليه النُّفُوسُ، وقالَ عبدُ اللهِ بنُ المباركِ: إنَّ الصالحينَ فيما مضى كانتْ تُواتِيْهِمْ أنفُسُهُم على الخيرِ، وإنَّ أنفسَنَا لا تكادُ تُواتِينَا إلَّا على كُرْهٍ؛ فينبغي لنا أنْ نُكْرِهَهَا، وقالَ قتادةُ: يا ابنَ آدمَ: إنْ كُنتَ لا تريدُ أنْ تأتيَ الخيرَ إلَّا بِنشاطٍ؛ فإنَّ نفسَكَ إلى السآمةِ وإلى الفترةِ وإلى المللِ أمْيَلُ، ولكنَّ المؤمنَ هو المتحامل.

عبادَ اللهِ: والصّبرُ مِنْ أعظمِ ما يستعانُ به على مدافعةِ الفتورِ، وهو القوّةُ الخفيَّةُ التي يَغلِبُ فيها العبدُ الشيطانَ والنفسَ الأمّارَةَ بالكسلِ، يقولُ اللهُ تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" قالَ عليُّ ابن أبي طالبٍ رضي الله عنه:( ألا إنَّه لا إيمانَ لِمَنْ لا صبرَ له) والصَّبرُ على الطاعاتِ أحدُ ضروبِ الصبرِ الثلاثةِ التي عدّها العلماءُ، وقَدْ يَجدُ المرءُ صعوبةً ومشقّةً في تصبيرِ النفسِ على الطاعةِ، ولكنَّ هذا مِنَ الخيرِ له، وعاقبتُه حميدةٌ بإذنِ اللهِ، قالَ صلى الله عليه وسلّمَ: "حُفَّتِ الجَنَّةُ بالمَكارِهِ، وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ" رواه مسلمٌ،

باركَ اللهُ لي ولكم بالكتابِ والسنةِ، ونفعنا بما صرّفَ فيهما مِنَ العبرِ والحكمةِ.

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم مِنْ كلِّ ذنبٍ وخطيئةٍ فاستغفروه إنّه هو الغفورُ الرحيمُ.

 

الخطبةُ الثانيةُ:

 الحمدُ للهِ على نعمَةِ الإسلامِ، والشكرُ له على ما أولاهُ مِنْ إنعامٍ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له المُؤمِنُ السَّلامُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الرسولُ الإمامُ، صلى اللهُ وسلّمَ عليهِ وعلى آله وصحبِه الكرامِ، وعلى التابعينَ ومَنْ تبعَهم واستقامَ، إلى يومِ البعثِ والقيامِ.

أمّا بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: أتقوا اللهَ: "وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"

معاشرَ المؤمنينَ: مِنَ الخُذْلانِ للمسلمِ أنْ تَعْسُرَ عليه الطَّاعةُ، وتَشقَّ عليه العبادَةُ، وإذا همَّ بعبادةٍ توالتْ عليه العوائقُ من كلِّ جانبٍ، وأجلبَ الشيطانُ عليه كلَّ طَالِبٍ، وإنْ فَعَلَ مرةً تركَ مراتٍ، وإنْ واظبَ يوماً فرّطَ أيّاماً، وإنْ غلبَ نفسَهُ وقتاً غلبتُه أوقاتاً، وهكذا حتى يذهبَ العمُرُ ويضْمَحِلُ، وتفجأُ المنيَّةُ على حينِ فتورٍ وغفْلَةٍ، فلا أضْيَعَ للعُمُرِ مِنَ الفتورِ والتّكاسُلِ والتَّواني والتَّسويفِ، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لرجلٍ وهو يَعِظُه: "اغتنِمْ خمسًا قبل خمسٍ: شبابَك قبل هَرَمِك، وصِحَّتَك قبل سَقَمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك" رواه الحاكِمُ والبيهقيُّ وابنُ أبي الدُّنيا وصحّحَه الألبانيُّ.

وكانَ رسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يُعالِج الفتورَ الذي يصيبُ الصحابةَ بالوَعْظِ والتّذكيرِ؛ فمِنْ ذلك قولُ عبدِاللهِ بنِ عمروٍ رضي اللهُ عنهما: "قالَ لي رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا عَبْدَ اللَّهِ، لا تَكُنْ مِثْلَ فُلانٍ؛ كانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ" رواهُ البخاريُّ ومسلِمٌ.

عبادَ اللهِ: الفتورُ خطرٌ على المرءِ المسلمِ في دينِه وعلاقتِه بربِه، فلا تدافَعُ الفِتَنُ بمثلِ المبادَرةِ بالعبادَةِ والعمَلِ الصالحِ؛ قالَ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: " بَادِرُوا بالأعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا" رواه مسلمٌ، وقالَ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: "بادِرُوا بالأعْمالِ سِتًّا: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِن مَغْرِبِها، أوِ الدُّخانَ، أوِ الدَّجَّالَ، أوِ الدَّابَّةَ، أوْ خاصَّةَ أحَدِكُمْ، أوْ أمْرَ العامَّةِ" رواه مسلمٌ، ومعنى "خاصَّةُ أَحدِكم" أي: مَجيءُ ما يَخُصُّ كلَّ إنسانٍ مِنَ المَوتِ الَّذي يَمنَعُه منَ العَملِ، أو هيَ ما يَختصُّ به الإنسانُ مِن الشَّواغلِ المُتعلِّقَةِ في نَفسِه ومالِه، وما يهتَمُّ به.

ومعنى "أمرُ العامَّةِ" يَعني: قبْلَ أنْ يَتوجَّهَ إليكم أمرُ العامةِ والرِّياسةِ، فيَشغَلَكم عن صالحِ الأعمالِ، وقيل: هي القِيامةُ؛ لأنَّها تَعُمُّ النَّاسَ جميعًا بالموتِ، يَقولُ: فبادِروا الموتَ والقِيامَةَ بالأَعمالِ الصَّالحةِ.

وبعدُ عبادَ اللهِ: قالَ اللهُ عن رمضانَ " أياماً معدوداتٍ" فَقَلَّلَهُ تسهيلاً على المكلفينَ، فأنتمْ في موسمٍ فاضلٍ عظيمٍ؛ أيّامُه قليلاتٌ، وساعاته محصوراتٌ، ولحَظَاتُه غَالياتٌ ثَمِينَاتٌ؛ لا يسوغُ الفتورُ فيه ولا التَّكاسُلُ، فما أعظَمَ النَّدمَ والحسرةَ بعدَ فواتِ الأوانِ والفُرصَةِ.

ستندمُ إن رحلتَ بغير زادِ ** وتشقى إذ يُناديكَ المُنادي

فتُبْ عمَّا جَنيتَ وأنت حيٌّ ** وكُن متيقظاً قبلَ الرُّقادِ

أترضى أن تكونَ رفيقَ قومٍ ** لهُم زادٌ وأنتَ بغيرِ زادِ ؟

وقالَ الآخرُ:

إذا أنت لم ترحَل بِزَادٍ من التُّقَى**ووافَيتَ بَعدَ المَوتِ مَن قد تزَوّدا

نَدِمتَ على أن لا تكونَ شركَتهُ ** وَأرصَدتَ قبلَ الموتِ ما كان أرصدَا

هذا وصلّوا وسلموا على رسولِ اللهِ ...

المشاهدات 1357 | التعليقات 0