إن وعد الله حق
هلال الهاجري
إن الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنِا ومن سيئاتِ أعمالِنا .. من يهدِه اللهُ فلا مضلَ له ومن يضلل فلا هاديَ له .. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له وأن محمداً عبدُه ورسولُه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) .. أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.
في يَومٍ مِن أَيَّامِ اللهِ تَعالى الحَكيمِ القَديرِ، وَقَفَتْ الأمُّ خَائفَةً وهِيَ تَحمِلُ رَضِيعَها الصَّغيرَ .. تَنتَظِرُ في كُلِّ لَحظةٍ أَن يَدخُلَ عَليهَا مَنْ يَقتُلُهُ فَتَتلاشى أَحلامُهَا الكَبيرةُ، ولَكُمْ أَن تَتَخَيَلوا قَلبَ أُمٍّ وهِيَ تَنظُرُ إلى صَغِيرِها البَريءِ النَّظَراتِ الأخيرةَ .. وفَجأةٌ تَأتيها رِسَالةٌ مِن السَّماءِ، فِيهَا كَيفيَةُ الخُروجِ مِن البَلاءِ، (وأوْحَيْنا إلى أُمِّ مُوسى أنْ أرْضِعِيهِ فَإذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَألْقِيهِ في اليَمِّ ولا تَخافِي ولا تَحْزَنِي)، ولَكِنْ، كَيفَ لَها ألا تَخافَ ولا تَحزَنَ، وهِيَ تَرى وَلدَها في صُندُوقٍ يَتَلاعَبُ بِهِ المَاءُ، ثُمَّ يَصِلُ إلى قَصرِ قَاتلِ الأبناءِ، ولَكِنَّهُ الإيمانُ بِوَعدِ اللهِ سُبحَانَهُ لَها: (إنَّا رادُّوهُ إلَيْكِ وجاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ)، فَهيَ تَنتَظرُ رُجوعَهُ إليهَا، إيمَاناً بِوَعدِ اللهِ، ولَكنْ لا تَعلمُ كَيفَ؟ وَلا متَى؟.
فَكَانَ أَولُ الآيَاتِ في تَحقيقِ وَعدِ اللهِ تَعالى لِتِلكَ الأمِّ الحَنونِ، ما أَلقاهُ اللهُ من مَحبَةِ الرَّضيعِ في قَلبِ زَوجَةِ فِرعونَ، فَقَالتْ: (قُرَّةُ عَيْنٍ لِي ولَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أنْ يَنْفَعَنا أوْ نَتَّخِذَهُ ولَدًا)، ثُمَّ تَأتي الآيَةُ الثَّانيةُ: أنَّ اللهَ تَعالى مَنَعَهُ مِن قَبولِ حَليبِ المُرضِعَاتِ، حَتى جِيءَ بِأُمِّهِ بَعَدَ غِيَابِهِ بِسَاَعاتٍ، لِتُرضِعَهُ في القَصرِ تَحتَ نَظرِ فِرعونَ بِطُمَأنينةٍ وأَمانٍ، ثُمَّ تَرجِعُ بِهِ إلى البَيتِ لِتُكمِلَ رَضَاعَهُ كَمَا وَعدَ الرَّحمَّانُ: (فَرَدَدْناهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها ولا تَحْزَنَ ولِتَعْلَمَ أنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ)، هَذَا وَعدُ اللهِ لَهَا، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ).
إلهي غَيرَ بَابِكَ لا أَدُقُّ *** وَدَربَاً غَيرَ دَربِكَ لا أَشُقُّ
وَلَستُ بِجَازِعٍ مَا دَامَ قَلبي *** يُرَدِّدُ: إنَّ وَعدَ اللهِ حَقُّ
وهَا هُو النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسلَّمَ يَخرجُ مِن مَكةَ وهِيَ أَحبُّ البِلادِ إليهِ، فَينظُرُ إليهَا مُشتَاقاً كَالمُودِّعِ لَها، فَيَنزِلُ عَليهِ وَعدُ اللهِ تَعالى: (إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرْآنَ لَرادُّكَ إلى مَعادٍ)، فيَختَبئُ في غَارٍ صَغيرٍ لا يَكادُ يَتَّسِعُ إليهِ وَصَاحبُه، فَلمَّا أَقبلَ المُشرِكونَ وَوَقَفوا على فَتحَةِ الغَارِ، قَالَ لَهُ صَاحِبُه: يا رسولَ الله، لو أنَّ أَحدَهُم نَظرَ تَحتَ قدَميْهِ لأبْصَرَنا، فَمَاذا قَالَ الوَّاثِقُ بِوَعدِ رَبِّهِ، فَقَالَ: (ما ظَنُّكَ يَا أَبا بَكرٍ باثنَينِ اللهُ ثَالثُهُما)، وَصَدَقَ بأبي وأُمي عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بَل سَيَنجو وسَيَعودُ يَومَاً إلى هَذهِ البَلدِ فَاتحَاً مَنصُوراً، وَقد تَحقَّقَ وَعدُ اللهِ تَعالى، (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
أيَّها الأحبَّةُ .. القُرآنُ الكَريمُ مَليءٌ بِالوعُودٍ مِن اللهِ تَعَالى، فَما هُو نَصيبُ تَصديقِ القُلوبِ بِتِلكَ الوُعودِ؟، ومِثَالُ ذَلِكَ قَولَهُ تَعَالى: (وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، فَقَد وَعَدَ اللهُ سُبحَانَهُ جَميعَ خَلقِهِ بالرِّزقِ، في الأرضِ وفي البَحرِ وفي السَّماءِ، فَكيفَ هُو شُعُورُكَ في أيَّامِ الحَاجةِ والغَلاءِ؟، هَذا عُروةُ ابنُ أُذينةَ رَحِمَهُ اللهُ كَانَ عَالِماً شَاعراً مِن أَهلِ المَدينةِ، ضَاقَتْ بِهِ ضَائقَةٌ وألجأَتْه إلى الخُروجِ مِنْ بَلدِهِ، قَاصِدًا الخَليفةَ هِشَامَ بنَ عَبدِ الملكَ في الشَّامِ، وكَانَ قَد نَظَمَ قَصيدةَ مَدحٍ فِيهِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَليهِ عَرَفَ عُروةَ، فَقَالَ لَهُ: أَلستَ القَائلَ:
لَقَدْ عَلِمتُ وَما الإِسرافُ مِن خُلُقي *** أَنَّ الَّذي هُوَ رِزقي سَوفَ يَأتيني
أَسعَى لَهُ فَيُعَنِّيني تَطَلُّبُهُ *** وَلَو جَلَستُ أَتَاني لا يُعَنِّيني
وَأَراكَ قَد جِئتَ من الحِجازِ إلى الشَّامِ في طَلبِ الرِّزقِ، أَلا جَلستَ في بَيتِكَ حَتى يَأتيَكَ رِزقُكَ؟، فَقَالَ لَهُ: يَا أَميرَ المؤمنينَ، زَادَكَ اللهُ بَسطةً في العِلمِ والجِسمِ، وَلا رَدَّ وَافدَكَ خَائبَاً، واللهِ لَقد بَالغتَ في الوَعظِ، وأَذكرتَني مَا أَنسانِيهُ الدَّهرُ، وَغَفَلَ عَنهُ هِشامٌ، فَخَرجَ مِنْ وَقتِهِ، وَرَكبَ رَاحِلَتَهُ، وَمَضَى مُنصَرِفًا، فَلَمَّا سَألَ عَنهُ فَأُخبِرَ بِانصِرَافِهِ، دَعَا مَولىً لَهُ، وَأَعطاهُ أَلفي دِينَارٍ وَقَالَ: الحقْ بِابنِ أُذَينةَ وَأَعطِهِ إياها، فَلمْ يُدرِكْهُ إلا وَقد دَخلَ بَيتَهُ، فَقَرَعَ البَابَ عَليهِ فَخَرجَ، فَأَعطَاهُ المَالَ، فَقَالَ لَهُ: قُلْ لأَميرِ المُؤمنين، قَد صَدَقَني اللهُ، وَأَتَاني بِرزقي، فَلَه الحَمدُ، وصَدَقَ اللهُ تَعالى: (وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ).
أَقولُ مَا تَسمعونَ، وأَستغفرُ اللهَ العَظيمَ لي ولكم مِن كُلِ ذَنبٍ فاستغفروه، إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ حَمداً َطَيباً كَثيراً مُباركاً فِيهِ كَما يُحبُّ رَبُّنَا وَيَرضى، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وأَشهدُ أن مُحمداً عَبدُهُ ورَسولُهُ، صَلى اللهُ وَسَلمَ وَبَاركَ عَليهِ وعَلى آلِهِ وأَصحابِهِ ومن اهتدى بِهُداهم إلى يَومِ الدينِ، أَما بَعدُ:
يا أهلَ الإيمانِ .. اسمَعوا إلى هذا الوعدِ مِن اللهِ تَعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ)، وتَأمَّلوا كَثيراً في مَوقِفِ الخَليلِ عَليهِ السَّلامُ وقَد جَمَعوا لَها الحَطبَ مُدَّةً طَويلةً حتى أنَّ المَرأةَ كَانَتْ إذا مَرِضتْ تَنذرُ لئن عُوفيَتْ لَتَحمِلنَّ حَطَباً لحرِيقِ إبراهيمَ، وها هُو مُقَيَّدٌ مَكتوفٌ في المَنجَنيقِ ليُرمَى في نَارٍ عَظيمَةٍ، وفِي صَدرِهِ قَلبٌ يُؤمنُ بِوَعدِ اللهِ لَهُ بالنَّصرِ ولَكِن لا يَعلمُ كَيفَ؟، فَيُرمى في الهَواءِ فيَعرِضُ لَهُ جِبريلُ عَليهِ السَّلامُ، فَيَقولُ: أَلَكَ حَاجةٌ؟، فَقَالَ: أَما إليكَ فَلا، وأمَّا إلى اللهِ، فَحَسبي اللهُ ونِعمَ والوَكيلُ، فَتَأتي الرِّسَالةُ مِن السَّماءِ مُباشرةً: (يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)، ولَو كَانتْ بَرداً فَقَط لآذاهُ بَردُها، وبَقيَ فِيها أربَعينَ يَوماً في رَوضةٍ خَضراءَ والنَّارُ حَولَهُ، والنَّاسُ يَنظرونَ إليهِ لا يَقدرونَ عَلى الوُصولِ إليهِ، ولا هو يَخرجُ إليهم، حتَى لَمَّا طَفَأتْ النَّارُ وَخَرجَ مِنها، قَالَ لَهُ أبوهُ: نِعْمَ الرَّبُّ رَبُّكَ يَا إِبْرَاهِيمُ.
وصَدَقَ اللهُ: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ)، وَكَذَلكِ كُلُّ مَنْ حَقَّقَ شَرطَ الإيمانِ، حَقَّقَ اللهُ لَهُ الوَعدَ بِالنَّصرِ والأمَانِ، فَهُو القَائلُ: (وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)، (وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، وقد وَعدَ أَنَّ الأَرضَ للصَّالحينَ، ولَيستْ للظَّالمِينَ الغَاصبينَ، فَقَالَ: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)، فَالنَّصر قَادمٌ، ولَكِن لا نَعلَمُ مَتى؟، وكَيفَ؟، وإنَّما علَى القلوبِ الإيمانُ والتَّسليمُ، وأَما النَّتيجةُ فَهي للهِ العَليمِ الحَكيمِ.
اللهمَّ إنا نَسألُكَ إيماناً صَادقاً ولِساناً ذَاكراً وعَملاً صَالحاً مُتقبلاً، اللهمَّ ثبتنا بالقَولِ الثَّابتِ في الحياةِ الدنيا وفي الآخرةِ، اللهمَّ احفظ علينا دِينَنا الذي هو عِصمةُ أَمرِنا، وأَصلحْ لنا دُنيانا التي فيها مَعاشُنا، وأَصلح لنا آخرتَنا التي إليها مَعادُنا، واجعل الحياةَ زِيادةً لنا مِن كُلِّ خَيرٍ، والموتَ رَاحةً لنا من كُلِّ شَرٍّ يَا رَبَّ العَالمينَ، اللهمَّ مُنزِلَ الكِتابِ ومجرِيَ السَّحَابِ وهَازِمَ الأحزابِ اهزِمِ اليَهُودَ الَغاصبينَ، وزَلزِل الأرضَ مِن تَحتِهم، ودمِّرهُم تَدمِيرًا، اللهمَّ انصر إخوانَنا المستضعفينَ في فِلسطينَ، وثبِّت أَقدامَهم، وانصرهم على القَومِ الكَافرينَ، اللهم اشفِ مَرضَاهم، وعافِ مُبتلاهم، وأَطعم جَائعَهم، وداوِ جَرحَاهم، وتقبَّل مَوتاهم في الشُّهداءِ، ربَّنا اغفر لنا ولإخوانِنِا الذينَ سَبقونا بالإيمانِ، ولا تَجعلْ في قُلُوبِنا غِلاًّ للذينَ آمنوا ربَّنا إنِّكَ رؤوفٌ رحيمٌ.
المرفقات
1706066943_إن وعد الله حق.docx
1706066951_إن وعد الله حق.pdf