إن كان قَاله فقد صَدَق !! (الإسراء والمٍعراج)
عبدالرحمن المهيدب
الحمدُ لله فاطر السماوات والأرض, جاعِلِ الملائكةِ رُسُلًا أولي أجنحةٍ مثنى وثلاث ورُباع, يزيد في الخلق ما يشاء, إن الله على كل شيءٍ قدير. والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين, من أتمّ الله بهِ الدين, وجعله رحمةً للعالمين, عليه وعلى آله وأصحابه الصادقين المصدِّقين, ومن اهتدى هديَهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد ..
عباد الله؛ حديثنا اليوم عن حدثٍ عظيم, وقصةٍ عجيبة حصلت للنبي الأمين, بها امتاز خير الصحابة وأفضلهم, إنها معجزة الإسراء والمعراج, قصةٌ تُدهش العقولَ وتُحيِّرُ الأذهان, جاء القرآن بذكرها, ورُوِيَ في الصحاح خبرُها, ولولا هذا .. لما كانت العقول أن تصدقها, ولا النفوس أن تقبلها, فبعدَ أن فقد النبي –صلى الله عليه وسلم- عمه وسنده أبو طالب, وبعد أن فقد زوجه التي كان يسكن إليها خيم الحزن عليه -حتى سُمي ذاك العام بعام الحزن- أظلمت الدنيا في وجه النبي, فقد فَقَدَ سنده عند قومه, ومؤنسه في بيته فازداد أذى قريش لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، فخرج إلى الطائف لعله يجد ناصرًا ومؤيدًا، فلم يجد منهم إلا الصدود والإعراض، فعاد كسيفًا حزينًا يقصد بلده، فإذا بأهل مكة يمنعونه من دخولها ويحولون بينه وبينها، وما دخلها إلا في جوار المطعم بن عدي,
فجاءت هذه الرحلة بعد تلك الأحداث وكأنها رسالة لمحمد عليه السلام, مفادها: إن كان أهل الأرض قد قَلَوْكَ ونبذوك, فإن أهل السماء في شوق لأن يستقبلوك ويكرموك .. فكانت تلك الرحلة الأرضية السماوية ..
بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نائم في مكة , إذ جاءه جبريل -عليه السلام- ومعه البراق فركب البراق وأسرى به من مكة إلى بيت المقدسِ في حدثٍ عجيب ومعجزة ربانية , إذ كيف لدابةٍ أن تقطع كل هذه المسافات في لحظات؟ لكن قدرة الله فوق كل شيء, يُسَخِّر ما يشاء لمن يشاء : ( سُبحان الذي أسرى بعبدهِ ليلًا من المسجد الحرامِ إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنُرِيَهُ من آياتنا ) , فما إن وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس –عجّل الله بفرجه ورزقنا صلاةً فيه والمسلمون في عزٍّ وتمكين- حتى صلى فيه رسول الله ركعتين, ثم عُرِجَ به إلى السماء, فرأى في هذه الرحلة آياتٍ عظام, وحقائقَ جِسامً, رأى الأنبياء –عليهم السلام-, رأى الجنة والنار, رأى جبريل –عليه السلام- في صورته التي خلقه الله عليها: ( لقد رأى من آيات ربِّه الكبرى ). ثم أُعِيد إلى فراشه - صلوات ربي وسلامه عليه - قبل الصباح.
لا أحد يستطيع وصف مشاعر النبي –عليه السلام- بعد كل ما رأى وما سمع في هذه الرحلة ,
إلا أن هناك أمر أقلقه فكيف له أن يحدث قومه بهذه المعجزة الإلاهية وعلى أي حال سيتلقى كفار قريش الخبر ؟
روَى الإمام أحمد –بإسنادٍ صحيح- عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- :" لمــّا كان ليلة أُسرِيَ به وأصبحت بمكة, فظعت بأمري, وعرفت أن الناسَ مُكَذِّبِيّ" وجاء عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: لمــّا أُسرِيَ بالنبي –صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد الأقصى, أصبح يتحدث الناس بذلك, فارتدّ ناسٌ ممن كانوا آمنوا به وصدَّقوه, وسَعَوْا بذلك إلى أبي بكر –رضي الله عنه- فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أُسرِيَ به الليلة إلى بيت المقدس. قال: أوَقال ذلك؟ قالوا: نعم, قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: أوَ تُصدِّقُهُ أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يُصبِح؟ قال: نعم, إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك؛ أُصَدِّقُهُ بخبر السماء في غدوةٍ أو روحة " فالله أكبر .. تصديقٌ مُطلَق, لا تقيده عقولٌ ولا تَحدُّه حدود .. لذلك سُمّي أبو بكر –رضي الله عنه- بالصدِّيق, يقول بكر المــُزَني رحمه الله " ما سبق أبو بكرٍ بكثير صوم ولا صلاة, ولكن بشيءٍ وقر في قلبه"
قالوا: هو الصدِّيق, قلتُ: كفاه ** ما يحفظُ التاريخُ مِن ذكراهْ
يكفيه تصديقُ النبيّ, وأنه ** في كلّ موقف هِمّةٍ زكّـــاهْ
في قصة الإسراءِ والمِعراج مِن ** تصديقِهِ ما لا يُنالُ مَدَاهْ
شَرَفٌ تتوق له الكواكبُ رِفعةً ** لمــّا ترى في الداجياتِ سَنَاهْ
إنه اليقين التام بصدق رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في كل ما جاء به وأخبر, لم يقل دعوني أسأل رسول الله لأتحقق منه ؟؟
بل سطر أروع تصديق وأصدق إيمان وتسليم ..
عباد الله؛ من منا إذا قيل له: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) صدق وسلم وانتهى وتوقف؟ من منا إذا قيل له: "ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار" قال: انتهيت انتهيت ؟ من منا إذا قيل له: (وأحل الله البيع وحرم الربا ) استجاب لأمر الله وصدق بما جاء عن رسول الله ؟ (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) بمثل هذه الاستجابة امتاز أصحاب رسول الله وكانوا خيرَ القرون وأفضلها ,
فحينما حرمت الخمر سالت سكك المدينة منها وحينما تبدلت القبلة انصرفوا في صلاتهم دون تريث أو تردد ..
كم نحن –عبادَ الله- بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى تعظيم النص الشرعي في دواخلنا, فلا حلال إلا ما أحله الله ورسوله, ولا حرام إلا ما حرَّمه الله ورسوله, ولا محبوب إلا ما أحبه الله ورسوله, ولا مكروه إلا ما كرهه الله ورسوله. اللهم إنا نسألك إيمانا كامل ويقيناً صادق وعمل خالص ولساناً ذاكر ودعاء مستجاب يا رب العالمين .
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين .. وبعد
هل تأملنا يوماً في هذه المعجزة العظيمة يُسرَى بالنبي محمد -عليه السلام- على دابة ليست كالدواب إلى تلك البقعة المباركة وإلى ذاك المسجد المقدس, أولى القبلتين, ليكون هو منطلقه لتلك الرحلة السماوية, هل تأملنا لماذا خص الله هذه البقعة من بين سائر بقاع الأرض لتكون هي نقطة معراجه عليه السلام
ما هو قدر هذا المسجد من قلبك؟ وكم خصصت له من دعائك ؟ ما هو مقدار ألمك حينما ترى هؤلاء المعتدين يسرحون ويمرحون في هذا المسجد المقدس وعباد الله محرمون محجوبون عنه؟ كم قدمنا لهذا المسجد الأسير؟ وكم بذلنا لتطهيره؟
إن أقل ما نقدم لهذه البقعة المباركة هو إحياء سيرتها في قلوبنا وقلوب أبنائنا والإلحاح بالدعاء لإخواننا هناك بأن يسدد الله رأيهم وأن يصوب رميهم وأن يوحد كلمتهم على الحق والدين وأن يكفيهم كيد الأشرار ومكر الفجار, وشرّ طوارق الليل والنهار, اللهم إنا نسألك عزًا وتمكينًا للإسلام والمسلمين, اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشدا يعز فيه أهل الطاعة ويعفى فيه أهل المعصية ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر, اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى, وخذ بناصيته للبر والتقوى اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين أجمعين وهب المسيئين من للمحسنين يا رب العالمين .. عباد الله؛ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكّرون ...