﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى﴾.
عاصم بن محمد الغامدي
الحمد لله، شَرَحَ صدورَ المؤمنينَ فانقادوا لطاعَتِهِ، وحَبَّبَ إليهمُ الإيمانَ وزيَّنَهُ في قلوبِهم، فلم يَجِدُوا حَرَجًا في الاحتكامِ إلى شريعتِهِ، وأشهدُ أنْ لَا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ وسلَّم وباركَ عليهِ، وعلى آلهِ وصحْبِهِ، والتابعينَ ومنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ، أما بعد:
فاتقوا الله تعالى -أيها الناس-؛ فالتقوى خيرُ زادٍ وخيرُ لِباسٍ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.
إنَّ الدنيا تفنَى، وإنَّ الآخرةَ تبقَى، فلا تُلهِيَّنَّكم الفانية، ولا تُشغِلنَّكم عن الباقِية، الدنيا مُنقطِعة، والمصيرُ إلى الله.
عباد الله:
من أقبحِ صفاتِ اليهودِ، سوءُ أدبهم مع الله جلَّ جلالُه، وجرأتُهم في نعته عزَّ وجلَّ بما لا يليق إلا بهم من صفاتِ النقص، وما هذا الخُلُقُ بمستغربٍ على اليهودِ، خونةِ المواثيقِ والعهودِ، ومِن أسوأِ مقالاتِهِمْ، قولُهم: إنَّ الله خَلَقَ السماواتِ والأرضَ في ستةِ أيامٍ ثم استراحَ في اليومِ السابعِ، وهوَ يومُ السبتِ، فالاستراحةُ تؤذنُ بالنَّصَبِ والإعياءِ تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا، ولما كان هذا الكلام يؤذي أهل الإيمانِ، فقد خاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في سورةِ (ق) قائلاً: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ﴾.
وقد اشتملتْ هذه السورةُ على أصولِ عقيدةِ المؤمنِ، في أمورِ الغيبِ، من بدءِ الخلقِ إلى أن يرثَ الله الأرضَ ومن عَليها، مشيرةً إلى بعضِ ما يحصلُ عند خروجِ الروحِ إيذانًا بالرحيل من هذه الدنيا، وبدء الآخرة، ولذلك كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ قراءتها على أصحابه، في خطبةِ الجمعةِ والعيدينِ، وفي صلاة الفجر وغيرها، حتى قالت إحدى الصحابيات رضي الله عنهن: «مَا حَفِظْتُ ق، إِلَّا مِنْ فِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَخْطُبُ بِهَا كُلَّ جُمُعَةٍ».
أولُها قسمٌ بالقرآنِ ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾، والقَسَمُ بالقرآنِ تنويهٌ بشأنِهِ، لأنَّ القسمَ لا يكونُ إلا بعظيمٍ عند المقسِم، ويؤكدُ التنويهَ وصفُ القرآنِ بالمجيدِ، فإنَّ المجدَ هو الشرفُ الكاملُ، وكمالُ القرآن وشرفُه يفوق كلَّ كلامٍ تكلمَ به نبيٌ للتبليغِ عن مراد الله، لأن القرآنَ من عند الله لفظًا ومعنىً وتركيبًا، أما غيره فهو تعبير الأنبياءِ بكلامهم عن مراد الله سبحانه.
وإن من عجائب المشركين التي لا تنقضي، تعجُّبَهم من نبوةِ بَشَرٍ مثلِهمْ، ينذرهمْ بحصولِ البعثِ، فاستعظموا النبوة على البشر، وهم يمنحون صفة الألوهية للحجر، ﴿بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾، أي مستبعدٌ، وسبب استبعادِهمْ للرجعةِ بعدَ الموتِ، ناشئٌ عما يرونَه من حالِ الناسِ، إذ يموتون في أماكنَ متعددةٍ، وتبلىَ أجسادُهمْ، فنشأ في عقولهم أنَّ ذلكَ لا يُبقي أملاً في إمكانِ جمعها، فاقتلعَ الله تعالى شبْهَتَهُمْ بقولِهِ: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ﴾.
وتأمل قوله تعالى: ﴿تَنْقُصُ الْأَرْضُ﴾، فإن الأرضَ تَنْقُصُ الأجسادَ، ولا تأكلُها كلَّها، كما أخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «إِنَّ فِي الْإِنْسَانِ عَظْمًا لَا تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ أَبَدًا، فِيهِ يُرَكَّبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالُوا أَيُّ عَظْمٍ هُوَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: «عَجْبُ الذَّنَبِ».
وقد أثبت الله تعالى في هذه السورةَ البعثَ بأمرينِ:
أمرٍ أعظمَ من البعثِ لمن تدبَّر، وأمرٍ يشبهه، ويتكررُ على الناسِ مرآه.
أما الأعظمُ من البعثِ، فهو ابتداءُ خلقِ السماواتِ وما فيها، والأرضِ وما عليها، ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾.
وكذلك ابتداء الخلق، دون مشقة ولا عناء، فإن البدء أهون من الإعادة، وهذا دليل عقلي لا يمكن لأي إنسانٍ أن يفرَّ منه ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾.
أما ما يشبه البعثَ فنشأة الثمارِ والنباتِ من ماءِ السماءِ في قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾، أي: خروج الناس من الأجداث.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ ثُمَّ يُنْزِلُ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ، كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ».
جعلنا الله من العالِمين العامِلين، ووقانا الخزي والخسار في يوم الدين.
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله:
فإن حاجةَ المؤمن لتذكر الآخرة لا تنقضي، لا سيما في زمنٍ كثُرَتْ فيهِ المنكراتُ، وتمسَّك كثيرون فيه بالمادياتِ، وكأن السورةَ تنبهك بأنك في وقت الاختيار، حينَ تقرؤها وتطَّلعُ على حالينِ لا ثالثَ لهما، الأولى: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾، والثانيةُ: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾.
وفي السورةِ نفسِها بيان أسباب استحقاقِ النارِ، ذكرها الله تعالى بقوله: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ فهذه خمسةُ أوصافٍ يستحقُّ حاملُها العقابَ، فالكَفَّار هو القويُّ في الكُفْرِ، والعنيدُ: المعاندُ للحقِّ، فلا يقبلُه مهما عُرض لَه، مع علْمِهِ أنهُ مبطلٌ، والمنَّاعُ للخيرِ هو من يصدُّ عنِ الخيرِ أيِّ خيرٍ، مِنْ مَنعِ الدعوةِ إلى الله، أو بذلِ المال فيما يرضي الله، والمعتدي: من لم يكتفِ بالمنعِ من الخيرِ، بل جاوزه إلى الاعتداء على غيره، والمريبُ: الواقع في الريبة من الحقائق الدينية، والساعي لبثها في قلب غيره. والوصف الأخير ﴿الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ فهو وصفٌ عامٌ واسعُ الشمولِ: يشمل كلَّ من ينشغلُ عن عبادةِ الله بغيره، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ».
ولا تنفع الواحد من هؤلاء دعوا أنَّ قرينه هو الذي أطغاه، وصده عن سبيل الله، فإنَّ الجوابَ ﴿لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ﴾، والمعنى لا تطمعوا أنَّ تدافعكم التبعةَ ينجيكم من العقاب.
أما الجنة فهي ﴿لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ﴾، والأوابُ كثيرُ الأوبةِ أيْ الرجوعِ إلى الله تعالى، والحفيظُ من حفظَ وصايا الله وحدودِه، وهذان وصفان ينطبقان على ﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾، وخشيةُ الرحمن بالغيبِ لها معنيان:
الأول: أنه خشي الرحمن مع أنه لم يره، والثاني: أن خشيته كانت حال غيبته عن الناس.
أما بعد أيها المؤمنون:
فإن العاقل يسأل نفسه عن الحال التي يريدها إذا ﴿جَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ﴾.
والناس على ثلاثةِ أقسامٍ، قسمٍ له قلبٌ وعقلٌ يهتدي به، وقسمٍ يستمع إلى الموعظةِ، وهو شهيدٌ أي حاضرُ القلب، وقسمٍ ثالثٍ هو من عدا هؤلاء، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾، فما ذكر في السورة ينفعُ القسمينِ الأولينِ، فهم الذين يخافونَ الوعيدَ، ومن عَدَاهم لا تنفعه التذكرةُ، ولا تفيده الموعظةُ فلينتظروا ﴿يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾. جعلنا من المنتفعين بكتابه، المتعظين بآياته.
ثمَّ صلُّوا وسلِّموا على خيرِ البرَايَا، فقدْ أمرَكُمُ اللهُ تعالى بذلكَ فقالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
المرفقات
1706799461_﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى﴾ للجوال.pdf
1706799461_﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى﴾.pdf
1706799473_﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى﴾.docx