( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ سَمْحَ البَيْعِ سَمْحَ الشِّرَاءِ ... )

مبارك العشوان
1436/08/03 - 2015/05/21 22:13PM
ن الحمد لله ...أما بعد: فاتقوا الله... حق تقاته ... مسلمون.
عباد الله: إن مِنَ الأعمالِ عملٌ جليل، وخلقٌ كريم، اتصف به نبيكم صلى الله عليه وسلم، وحثَ عليه، ودعا بالرحمةِ لأهلـــــه، وبين حبَّ الله تعالى لفاعله. روى البخاري في صحيحه من حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى ). وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ سَمْحَ البَيْعِ سَمْحَ الشِّرَاءِ، سَمْحَ القَضَاءِ ) أخرجه الترمذي وصححه الألباني.
عباد الله: لو لم يكن في السماحةِ والسهولة إلا هذا الحديث لكان كافيا، ولكان جديرا بكل مسلم أن يجاهد نفسه ويحملها لتتخلق بهذا الخلق الكريم؛ فنيلُ محبةِ الله تعالى مطلبٌ عظيم نفيس، وإذا أحبَّ اللهُ عبدا فلا تَسَلْ عن ما يهب له من الخير، ويصرف عنه من الشر.
عباد الله: وصاحبُ السماحة كذلك محبوبٌ لعباد الله، محترم بينهم؛ الذي طبعه التيسير على الناس، واللين معهم، والعفو والصفح والتنازل عن حظوظ نفسه أو بعضها، لا يتعدى على حق لغيره، ولا يماطل أو يتوانى في حق عليه.
والضد من ذلك: الألدُّ الخَصِم يبغضه الله، ويبغضه عباد الله ويجانبون معاملته، يعتدي على حقوق غيره، ويجحد أو يماطل في حقوق الناس عليه، وإن كان الحق له لم يحسن في أخذه، بل كان صَعبًا مُعَسِّرًا، لا يَجِدُ من يعامله فرجة ولا تنفيسا . روى البخاري ومسلم من حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وعن أبيها قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ ). وفسره البخاري بقوله: وهو الدائم الخصومة، أراد أن خصومته لا تنقطع . وقد جاءت النصوص الكثيرة بالحث على السماحة واليسر في التعاملات الكثيرة واليومية بين الناس . وحديث اليوم عن السماحة في التعاملات المالية من بيع وشراء وقضاء واقتضاء وإيجار ونحوها.
فمن صور اليسر في المعاملات المالية: إسقاط المال عن المعسر وإبراء ذمته. اجْتَمَعَ حُذَيْفَةُ وَأَبُو مَسْعُودٍ رضي الله عنهما، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: ( رَجُلٌ لَقِيَ رَبَّهُ فَقَالَ مَا عَمِلْتَ؟ قَالَ مَا عَمِلْتُ مِنْ الْخَيْرِ إِلَّا أَنِّي كُنْتُ رَجُلًا ذَا مَالٍ، فَكُنْتُ أُطَالِبُ بِهِ النَّاسَ، فَكُنْتُ أَقْبَلُ الْمَيْسُورَ وَأَتَجَاوَزُ عَنْ الْمَعْسُورِ، فَقَالَ تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي ) قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ هَكَذَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ) رواه مسلم .
ومن صور السماحة في المعاملات المالية: إنظار المعسر وإمهاله إلى أن يجد سدادا، ففي صحيح مسلم أن صحابيا يقال له أَبَا الْيَسَرِ، قال : كَانَ لِي عَلَى فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ الْحَرَامِيِّ مَالٌ فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ فَسَلَّمْتُ فَقُلْتُ ثَمَّ هُوَ؟ قَالُوا لا، فَخَرَجَ عَلَيَّ ابْنٌ لَهُ جَفْرٌ فَقُلْتُ لَهُ أَيْنَ أَبُوكَ؟ قَالَ سَمِعَ صَوْتَكَ فَدَخَلَ أَرِيكَةَ أُمِّي، فَقُلْتُ اخْرُجْ إِلَيَّ فَقَدْ عَلِمْتُ أَيْنَ أَنْتَ فَخَرَجَ فَقُلْتُ مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ اخْتَبَأْتَ مِنِّي قَالَ أَنَا وَاللَّهِ أُحَدِّثُكَ ثُمَّ لَا أَكْذِبُكَ خَشِيتُ وَاللَّهِ أَنْ أُحَدِّثَكَ فَأَكْذِبَكَ وَأَنْ أَعِدَكَ فَأُخْلِفَكَ وَكُنْتَ صَاحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُنْتُ وَاللَّهِ مُعْسِرًا قَالَ قُلْتُ آللَّهِ قَالَ اللَّهِ قُلْتُ آللَّهِ قَالَ اللَّهِ قُلْتُ آللَّهِ قَالَ اللَّهِ قَالَ فَأَتَى بِصَحِيفَتِهِ فَمَحَاهَا بِيَدِهِ فَقَالَ إِنْ وَجَدْتَ قَضَاءً فَاقْضِنِي وَإِلَّا أَنْتَ فِي حِلٍّ فَأَشْهَدُ بَصَرُ عَيْنَيَّ هَاتَيْنِ وَوَضَعَ إِصْبَعَيْهِ عَلَى عَيْنَيْهِ وَسَمْعُ أُذُنَيَّ هَاتَيْنِ وَوَعَاهُ قَلْبِي هَذَا وَأَشَارَ إِلَى مَنَاطِ قَلْبِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ … ) الخ ؛ قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله وأما إنظار المعسر فإنه واجبٌ يجبُ على الإنسان إذا كان صاحبه معسرا لا يستطيع الوفاء يجب عليه أن ينظره ولا يحل له أن يكربه أو يطالبه لقول الله تعالى: { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } البقرة 280 فهناك فرق بين الإبراء وهو إسقاط الدين عن المعسر وبين الإنظار الإنظارُ واجبٌ، والإبراء سنة، ولا شك أن الإبراء أفضل؛ لأن الإبراء تبرأ به الذمة نهائيا، والإنظار تبقي الذمة مشغولة، لكن صاحب الحق لا يطالب به حتى يستطيع المطلوب أن يوفي وبعض الناس نسأل الله العافية تحل لهم الديون على أناس فقراء فيؤذونهم ويضربونهم ويطالبونهم ويدفعون بهم إلى ولاة الأمور ويحبسونهم عن أهليهم وأولادهم وأموالهم، وهذا لا شك أنه منكر والواجب على القضاة إذا علموا أن هذا معسر لا يستطيع الوفاء الواجب عليهم أن يقولوا للدائن ليس لك حق في مطالبته لأن الله تعالى هو الحكم هو الحاكم بين العباد وقد قال الله تعالى:{ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْــــرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } البقرة 280
لكن يتعلل بعض القضاة في هذه المسألة يقولون: إن بعض المدينين يتلاعبون بالناس فيأخذون الأموال ويجحدون الإيسار فيعاملونهم بهذا تنكيلا بهم وهذا نعم إذا ثبت أن هذا المدين يدعي الإعسار وليس بمعسر فإنه لا بأس أن يجبر ويحبس ويضرب حتى يوفي فإن لم يفعل فإن الحاكم يتولى بيع ما شاء من ماله ويوفي دينه … الخ
بارك الله … وأقول ما تسمعون …


الخطبة الثانية:
الحمد لله … أما بعد: فإن من صُوَرِ السَّمَاحَةِ في المعاملات المالية: رَدُّ القَرضِ بأَحسَن مِنهُ؛ إحسانا من المقترض لا شرطا وكَانَ النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ففي البخاري: ( أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَقَاضَاهُ بَعِيرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطُوهُ فَقَالُوا مَا نَجِدُ إِلَّا سِنًّا أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ أَوْفَيْتَنِي أَوْفَاكَ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطُوهُ فَإِنَّ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ أَحْسَنَهُمْ قَضَاءً ).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: يعني يقضي أحسن مما عليه سواء كان أحسن مما عليه كيفية، أو أكثر مما يُطلب، فمثلا إذا استقرضت من شخص مائة ريال وعند الوفاء أعطيته مائة وعشرة بدون شرط فإن هذا لا بأس به، وهو من خيــــر القضاء.. ) الخ
ومن صورها: حسن التعامل بين الشركاء والتسامح والتراضي وتجنب النزاع، وحب كل واحد منهما لأخيه ما يحب لنفسه مع الصدق والوضوح .
عباد الله: ولو أن الناس تعاملوا بالعفو واليسر والسماحة فيما بينهم لقضي على كثير من الدعاوى والمشاجرات، ولزال ما بين كثير من الأقارب من القطيعة، ولتحابوا وتراحموا، لو تخلق المجتمع بهذا الخلق ورُبي عليه الصغير لصلح حال المجتمع وحصَّلوا الخير العميم، ولكم حُرم الناسُ من الخير بسبب التشاجر والتشاحن؛ وقد خَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ إِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ وَإِنَّهُ تـَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ … ) الحديث رواه البخاري .
عباد الله: ثم لتحذروا رحمكم الله من شبهة يلقيها الشيطان وأعوانه من الإنس بأن التسامح ضعف، وأن المتسامح عاجز عن أخذ حقه، فلم يجد بدا من العفو والتنازل عن حقوقه أو بعضها، فلتحذروا هذه، فما هُدم هذا الخلق الكريم بمثلها، ومن ينظر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه أتقى الناس وأكرمهم وأشجعهم يتبين لها غاية البيان بطلان هذه الشبهة: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ … }الفتح 29 وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ … } المائدة 54 ثم صلوا … عباد الله : اذكروا الله …
المشاهدات 2740 | التعليقات 0