إن الله جميل يحب الجمال

الحمد لله المتفرِّد بالجلال والكمال والجمال، عالم الغَيْبِ والشهادة الكبير المتعال، أحمده -سبحانه - وأشكره على سابغ النِّعَم وجزيل النوال. وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، سجَدَ له مَن في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وظلالهم بالغدوِّ والآصال. وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله، وصفيُّه وخليلُه، خيرُ مَن مشى، وأكرم مَن قال، صلَّى الله عليه وعلى آله وصَحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم المآل.

فإنَّ أعظم ما يُوصِي به المرء أخاه أنْ يتَّقي ربَّه ومولاه، ويعتصم بحبله وهُداه ]فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا[.
إخوة الإيمان والعقيدة .. (إنَّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال) مقطعٌ من حديث نبوي اشتَمَل على جانب معرفي، وآخر سلوكي.

(إنَّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال) كلماتٌ معدودات يعدُّها العادُّ، لكن مع كلِّ كلمة أحاديث وكلمات.

(إنَّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال) عبارةٌ نحفَظُها وكثيرًا ما نُردِّدها، وربما وُضِعتْ في غير مَوضِعها.

فتعالوا إلى حديثٍ مع الجمال وأسراره، وأنواعه وثمراته.

مع الجمال الذي تأوي إليه النُّفوس وتسكُن إليه، فالكلُّ يعشق الجمال، ويستَروِح مَناظِره، ويهفو لوَضاءته ونضارَته.

عباد الله .. لا جمال أرفع وأعلى من جمال مَن خلَق الجمال، فكلُّ جمالٍ يقبُح مع جماله سبحانه، وكلُّ حسن يتلاشى مع حُسنه تعالى (إنَّ الله جميل) جمَع الجمالَ كله، فالجمال منه وإليه؛ جمالٌ لا تُحِيطه العقول، ولا تُدرِكه الفهوم، ولا يمكن أنْ يصفه الواصفون، له المثل الأعلى ]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[ هو - سبحانه - جميلٌ؛ جميلٌ في ذاته، جميلٌ في أسمائه، جميلٌ في أفعاله، جميلٌ في صفاته. جمالٌ في جمال. فانظُر إلى حال أهل الجنَّة، مع ما هم فيه من جمال، ومع ما يَعِيشونه من جمال، ينسَوْن ذلك كلَّه إذا رأوا جمال ربِّهم وتمتَّعوا به، ويفرَحُون بيوم المزيد فرحًا تَكاد تطير له القلوب من أضلاعها.

ومَن عرف ربَّه بصفة الجمال، ازداد إيمانه، ورسخت تقواه، وطابَت له العبوديَّة، واشتاقَ لربِّه، وسأله التلذُّذ برؤيته؛ كما قال أعبَدُ الخلق وأعرَفُ الخلق بالله ﷺ (وأسألك لذَّة النظَر إلى وَجهِك الكريم، والشوقَ إلى لقائك).

إخوةَ الإيمان .. ومن محبَّة الله الجميل للجمال أنْ خلق الجمال، خلق ذلك في كونه ومخلوقاته، وأرضه وسمائه ]فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ[ خلق الله الإنسان على أجمل صورة، وأحسن هَيْئة، وأكمل خِلقة ]لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ[ ]وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ[.

يا عبد الله .. أرسِل طرْفك إلى سماء ربك، ترى الجمال الأخَّاذ، والحُسن الباهر ]رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا[ لا أعمدة تُثبِّتها، ولا خروق تشوهها ]أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ[ ثم زادَها ربُّها حُسنًا وبَهاءً، فجمَّلَها بالنجوم والكواكب ]إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ[ تُشرِق الشمس فتُرسِل في الأرض ضِياءها، مُؤذِنة بِجَمالها؛ جمالٌ في إشراقها وإطْلالتها، وجمالٌ في غُروبها وتوديعها، يَتقاصَر كلُّ رسَّام عن مُحاكاة الجمال الذي فيها. ويبزغ القمر، فيبسُط في الكون النورَ الباهر، والضياء الساحر، فيتغنَّى بجماله الشعراء، ويَتِيه في وصْفه الأدباء.

وتتلبَّد السُّحب في السماء، فلا تسلْ عن رَونَقها وحلاوتها، فتبرق وترعد، فإذا المزن تجود بوابل صيِّب، وماء طيِّب، هنيئًا مريئًا، عَذبًا فُراتًا، فتنفهق لها النُّفوس، وتطرب وتبتهج ]فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ[.

خلَقَ الله الأرض للأنام، وركز فيها الحسن والجمال، خلَقَ الله الجميل الأرض فدحاها ]أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا[ ]وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ[ حدائق غنَّاء، ومُرُوج خضراء، وغدران رقراقة، وأشجار ورَّاقة، ثمر يانع، وزهر يافع ]انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ[.
تأمَّل في البحر؛ جميلٌ منظره، فيه الرَّوعة والبهاء، فيه الجمال، ويُستَخرج منه حلل للجمال ]وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا[.
وخلَقَ أحسنُ الخالقين الدوابَّ، وقال ]وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ[ ]وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ[.

هذا الجمال في الكون العلوي والسفلي لَيبرهنُ على أنَّ وَراء ذلك الجمالِ جمالاً أعظم، وبهاءً أتَمَّ.
أسأل الله أن يحيينا سعداء، ويميتنا وهو راض عنا

أقول ما تسمعون ...

 

الحمد لله رب العالمين ...

معاشر المؤمنين ... لقد كان قُدوتنا وحبيبنا ﷺ إذا رأى شيئًا يُعجِبه من جمال الدنيا وحُسنها قال (لبيك إنَّ العيش عيش الآخِرة).

عباد الله .. مَن تأمَّل في نصوص الشرع، رأى الاعتناء بالجمال والحثَّ عليه، فحين سأل أصحابُ النبي ﷺ إنَّ أحدنا يحبُّ أن يكون ثوبُهُ حسنًا، ونعلُهُ حسنةً؟ وخشوا أنْ يكون هذا نوعًا من الكِبر، قال لهم ﷺ (إنَّ الله جميل يحبُّ الجمال) أي: يحب التجمُّل، فالتجمُّل قيمةٌ إسلاميَّة، وعمل صالح مرغوبٌ إذا صحَّت معه النيَّة، فربُّكم الكريم الجميل يحبُّ أنْ يرى أثَر نعمته على عباده، تُرَى هذه النعمة في التجمُّل في اللباس والهيئات، والمسكن والمركب، وفي حَياتهم كلها، تجمُّل في غير سرف ولا مخيلة.

فلأجل الجمال وحبِّه سبحانه للجمال؛ قال الله لنبيِّه ﷺ (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ[ ووجَّه سبحانه نداءه لعباده ]خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ[ ولأجل الجمال؛ شُرِع لنا الاغتسالُ كلَّ جمعة (غسل يوم الجمعة واجبٌ على كلِّ محتلم) فالتجمُّل في المظهر له أثره البالغ في التأثير على الآخَرين.

وهذا ما تمثَّله سيِّدُ البشر ﷺ فكان يلبَسُ أحسن الثياب، ويتطيَّب بأجمل الطيب، وكانت له حلَّة جميلة خصَّها للأعياد والجمعة والمناسبات، وكان ﷺ يدهن شعره ويرجِّله، ويتجمَّل للوفود، قال أنس بن مالك خادمُه ولصيقُه: ما شممت عنبرًا قطُّ ولا مسكًا ولا شيئًا أطيب من ريح رسول الله ﷺ، كان لا يُفارِقه السواك، وكان يكرَه أنْ يُشمَّ منه ريح كريهة.

قال الفاروق t: إنَّه ليُعجِبني الشابُّ الناسك، نظيف الثوب، طيب الريح.

عباد الله .. وكما للمَظهَر جمالُه، فللمَخبَر حُسنُه، وكما حثَّنا ربُّنا على تجميل الظواهر، رغَّبنا سبحانه في تجميل البواطن؛ تجميلها بإصلاحها، وغرس التقوى فيها ]يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ[ فما أجمل أنْ يتَجمَّل القلبُ باستِقامته وطَهارته من أدران الغلِّ والبَغضاء، والكِبر والشحناء!! وإذا جمل الباطنُ، تبعَه الظاهر في الجمال، فلا يخرج منه إلا كُلُّ قول جميل، وفعل جميل، وفي الحديث (ألَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ) وإذا رُزِق العبد جمالَ الظاهر والباطن، رُزِق محبَّة القلوب، واشتاقَتْ له الأرواح، وسطرت له الألسن عِبارات المدح والثناء.

نسأل الله - عزَّ وجلَّ - كما حسَّن خَلقنا أن يجمِّل أخلاقَنا، وأنْ يصلح قلوبنا، وأنْ يجعل بَواطِننا خيرًا من ظواهرنا، صلُّوا بعد ذلك على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة.

المشاهدات 509 | التعليقات 0