{إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} 27 /5 /1446هـ

د عبدالعزيز التويجري
1446/05/26 - 2024/11/28 17:46PM

الخطبة الأولى : {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}           27/5/1446ه               

الحمد لله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر  إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ،  وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له إليه تصير الأمور ، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله صلى الله وسلم وبرك عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا..

 أما بعد ..

 فاتقوا الله أيها المؤمنون "وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا "

إذا عزّ أمرُ فاستعن أنت بالذي  ...  قديرُ على تيسيرِ كلِ عسيرِ

إذا ضاقت المعيشةُ على فئامٍ من الناسِ، وحلّ الهمُّ على آخرين، واشتدتِ المسغبةُ حتى على البهائمِ والدوابِ، وغلبَ البخلُ والجشعُ والطمعُ والتقتيرُ من أهلِ الأرضِ، فتحَ اللطيفُ الخبيرُ ، والبَرُ الرحيم خزائنَ جودهِ، فعمَّ بلطفهِ البرَ والفاجر، وشملَ برحمتهِ وبِرهَ وعطائهِ وغيثه أنعاماً وأناسي كثيرا ..

    إذا اشتملت على البؤسِ القلوبُ  **  وضاقَ بما به الصدرِ الرحيبُ

      ولم نـر لانكشافِ الضــرِ وجهـا   **   ولا أغنى بحيلتـــهِ الأريــــبُ                              

      أتاك على قنوطٍ منك غوثُ    **   يمنُ به اللطيفُ المستجيبُ

{إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} بَرٌّ بليغٌ البرِ بعباده، رفيق بهم ، يُفيضُ عليهم من فنون ألطافه، وصنوف آلائه ما لا تبلغه الأفهام، يعلم دقائق المصالح وغوامضِها، وما دق منها ولطف، ثم يسلك في إيصالها ما تقتضيه مشيئته وحكمته..

  فكـــــــمْ للهِ منْ تدبيـــــرِ أمـــــــرٍ   **   طوتهُ عنِ المُشَاهدةِ الغيوبُ

وكمْ في الغيبِ منْ تيسيرِ عسرٍ **   ومنْ تفريجِ نائبةٍ تنـــــوبُ

ومنْ كـــــرمٍ ومنْ لطفٍ خفــــــيٍّ   **  ومنْ فرجٍ تزولُ بهِ الكروبُ

 كـــــريمٌ منعـــــمٌ برٌّ لطيــــــفٌ      ** جميلُ السترِ للداعي مجيبُ

قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: حَدِّثْنَا مِنْ شَأْنِ الْعُسْرَةِ، قَالَ: خَرَجْنَا إِلَى تَبُوكَ فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، أَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ، حَتَّى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَذْهَبُ يَلْتَمِسُ الْمَاءَ، فَلَا يَرْجِعُ حَتَّى نَظُنَّ أَنَّ رَقَبَتَهُ سَتَنْقَطِعُ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبُهُ وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبِدِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَوَّدَكَ اللَّهُ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا، فَادْعُ لَنَا، فَقَالَ: «أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَرَفَعَ يَدَيْهِ r فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى أَظَلَّتْ سَحَابَةٌ، فَسَكَبَتْ، فَمَلَأُوا مَا مَعَهُمْ، ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ، فَلَمْ نَجِدْهَا جَاوَزَتِ الْعَسْكَرَ. أخرجه ابن حبان في صحيحه.

{إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} بارّ بالمؤمنين ، عطوفٌ عليهم ، مُحسنٌ بهم ، إذا قُصدَ أثاب ، وإذا سئل أجاب ، فلَا يَتْرُكُ أَحَدًا بِلَا رِزْقٍ {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} وَفَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ جَرْيًا عَلَى مَشِيئَتِهِ {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ}.

 وَمِنْ أَجْلَى مَظَاهِرِ البر والرحمة بعباده ، اللُّطْفُ بهم والرحمة عليهم عِنْدَ الِاضْطِرَار.. يُري عزته ثم يُبدي لطفه، أُلقي يوسف في الجب، ثم امتحن بامرأة العزيز، ثم رمي في السجن، فلطف الله به فأتاه الله الملك ومكنه في الأرض فقال لأبويه  {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.

 وهكذا عندما تضيق الحال ويشتد الكرب من تسلط ألاعداء، أو مرض يفتت الأعظاء  تأتي الرحمة من البر الرحيم {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} فيمتحن أولياءَه بما يكرهونه ليُنيلهم ما يحبون.

 فكم للهِ من لطفٍ وكرمٍ لا تدركهُ الأفهامُ، ولا تتصوره الأوهام، وكم استشرف العبدُ على مطلوبٍ من مطالبِ الدنيا المحبوبةِ فيصرفهُ اللهُ عنها ويصرفها عنه رحمةً به لئلا تضرُه في دينه، فيظلُ العبدُ حزينا من جهلهِ وعدمِ معرفتهِ بربه، ولو علمَ ما دُخر له في الغيب وأريد إصلاحهُ لحمدَ اللهَ وشكرَه على ذلك، فإن الله بعباده رؤوف رحيم، لطيف بأوليائه.

  لطيفٌ بلطفِ الصُنعِ فضلنا على **  خلائقَ لا تحصى وذلكَ إيثارُ

   تُسبــحُ ذراتُ الوجـــــودِ بحمــــــــدهِ  **  ويسجدُ بالتعظيمِ نجمٌ وأشجارُ

  ويبكي غمامُ الغيثِ طوعاً لأمرهِ  **  فتضحكُ مما يفعلُ الغيثُ أزهارُ

  وينشقُّ وجهُ الأرضِ عنْ معشبِ الثرى َ ** وتجري ولا يُجري سوى َ الله أنهارُ

  تباركَ ربُّ الملكِ والملكوتِ مـنْ  **  عجائبَ يرويهنَّ بدوٌ وحضارُ

سبحان ربي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مُلكًا ومِلْكًا، قد أحاط بهم قدرةً وعلمًا، فهو الْغَنِيُّ عن كل شيء، المفتقر إليه كل شيء، المحمود بنعمته قبل ثناء من في السموات والأرض عليه، المستحقُ للحمدِ جل جلاله  "أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى".

قضى وقَدَّرَ سبحانه أَنْ لَا يَخْلُوَ عُسْرٌ مِنْ مُخَالَطَةِ يُسْرٍ وَأَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَهَلَكَ النَّاسُ "وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ"

  وفي الغيبِ للعبدِ الضعيفِ لطائفٌ  **  بها جفتِ الأقلامُ وانطوتِ الصحفُ

أستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ..

 

 

 

الخطبة الثانية .. الحمدلله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وصلى الله على عبده ورسوله الداعي على رضوانه وعلى اله وأصحابه وأعوانه ، أما بعد

"اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ" يلطف بهم فلا يعاجلهم بالعقوبة ليتوبوا {إنه بهم رؤوف رحيم} والرأفة: شدة الرحمة، ، أعطاهم فوق الكفاية، وكلَّفهم دون الطاقة "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا".

وأما الكافر فأقل لطفه به أنه لا يعاجله في الدنيا ولا يعذبه فوق ما يستحق في الأخرى.

من بره سبحانه ورحمته ولطفه بالمستظعفين: أنه "يُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ".

من رحمته بعباده: توفيقِ الطاعات، وتسهيلِ العبادات، وتيسيرِ الموافقات «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ».

ومن لطيفِ لُطفِ اللهِ بعبدهِ أن يأجرَه على أعمالٍ لم يعملها "فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً".

{إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}  يُكتب للمريضِ والمسافرِ مثلَ ما كان يعمل في الصحة والإقامةِ من الحسنات «إِذَا مَرِضَ العَبْدُ، أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا».

من رحمته سبحانه إبهامُ العاقبةِ لئلا يتكلوا أو ييأسوا "وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا".

من بره سبحانه ورحمته بالعبد: إخفاءُ أجلهِ عليه لئلا يستوحش إن كان قد دنا أجله. "لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى"

{إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} ومِن بره سبحانه: تسهيلِهِ الأرزاق، وتيسير الارتفاق {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ }.

ومن برهِ ولطفه، أنه يُري عبده عزته في انتقامه وكمال اقتداره، ثم يظهر لطفه بعد أن أشرف العبد على الهلاك، فكم يسوق إلى عبده الخير، ويدفع عنه الشر بطرق لطيفة خفية.

    وَمَنْ لُطْفُهُ مَا لَسْتُ أَبْلُغُ كُنْهَهُ    **  وَلَا حَدُّهُ الْأَجْزَاءُ مِنْ عَدَدِ الْقَطْرِ

    وَمَنْ هُوَ رَبَّانِي وَغَـذَّى بِلُطْفِــــــــهِ    **  وَجَلَّـلَنِي بِاللُّطْفِ وَالْمَـنِّ وَالسِّتْرِ

  وأَنْعَشَنِي مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ وَحَيْرَةٍ   **  وَفَهَّمَنِي مِنْ بَعْدِ أَنْ كُنْتُ لَا أَدْرِي

{إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}

 اللهم كن بنا لطيفا براً رحيما ، اللهم اللطف بنا وبالمسلمين في قضائك وقدرك ..

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ..

اللهم آمنا في دورنا وأصلح ولاة امورنا ...

 

 

المرفقات

1732805139_{إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}.pdf

1732805162_{إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}.docx

المشاهدات 265 | التعليقات 1

  •