إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ
راشد بن عبد الرحمن البداح
الحمدُ للهِ لا مانِعَ لما وهَبَ، ولا واهِبَ لما سَلَبَ، وأشهَدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ المرجوُّ لكشفِ الكُرَبِ، وأشهدُ أنّ نبيَّنا محمَدًا عبدُ اللهِ ورسولُه الأسوَةُ في حسنِ الأدَبِ، صلّى اللهُ وسلمَ عليهِ وعلى أصحابِه ذوِي الرُّتَبِ، أما بعدُ:
كانتْ قرىً هانئةً هادئةً، جميلةَ الأرجاءِ، طيبةَ الأجواءِ، يأتِيها رزقُها رغدًا من كلِ مكانٍ. إنها قُرَى قومِ سبأٍ الذينَ قصَّ اللهُ علينا خبرَهُم، فقد كانُوا من طِيبِ نعيمِهم إذا سافَروا لا يكونُ عليهم مشقةٌ، بحملِ الزادِ والمزادِ: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} ولا يَتيهونَ في طريقِهم: {لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ}. فأرضُهُم مُرْبِعةٌ، وأمطارُهم مُمْرِعَةٌ: (حتى إن المرأةَ لَتَمُرُ بالمِكْتَلِ على رأسِها، فيمتلئُ بالثمارِ مما يتساقَطُ فيه مِن نُضجِهِ وكثرتهِ، ومِن صحةِ هوائِهِم لم يكنْ يُرَى عندهمْ بعوضةٌ!) ([1]).
ولكنهم بَطِرُوا نعمتَهُ، فدَعَوا دعوةَ الحُمقِ والجهلِ: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} لقد سألُوا أن يَذوقُوا في سفرِهمُ التعبَ، فاستهانُوا بالنعمةِ ومَلُّوها، فعاقبَهمُ اللهُ -تعالَى- على الكفرانِ والطغيانِ، فأرسلَ عليهم سيلَ الطوفانِ، سيلَ العرِمِ الجارفِ، الذي حطمَ سدَّهم العظيمَ، فتفجرتِ المياهُ المحتجَزَةُ، فأغرقتْ ودمرتْ ذلكَ النعيمَ. فتبدلتِ الجِنانُ الفيحاءُ، بأراضٍ خُواءٍ جرداءَ، وبأشجارٍ لا ثمرَ فيها: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ}! فتفرقُوا وتمزقُوا، بعدَما كانُوا مجتمِعينَ، وجعلهُمُ اللهُ أحاديثَ يَتحدثُ الناسُ عنهم؛ للسمَرِ أو العبرةِ: {لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}
إنهم قومُ سبأٍ الذينَ سادُوا فبادُوا! فلنعتبرْ بأخبارِهم، ولنأخذْ على أيدِي سفهائِنا، فإن تركناهُم وكفرَهم نعمةَ اللهِ كانتِ العاقبةُ علينا جميعًا في الدنيا والآخرةِ بالخسارِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ}.
وإنَّ من الإسرافِ المَقيتِ ما يكونُ في بعضِ ولائمِ الزواجِ وإكرامِ الضيوفِ. والمرءُ حينَما يخافُ؛ لا يخاُف على أولئكَ المخضرَمينَ الذين عاشُوا فترةَ الخوفِ والجوعِ، أو حتى فترةَ الفقرِ وبيوتِ الطينِ؛ فإن هؤلاءِ غالبًا يُدرِكونَ نعمةَ اللهِ عليهمُ اليومَ، ولكنْ يُخشَى على الناشئةِ التي وُلدتْ في النعيمِ، فلا تُفكرُ إلا في تطورِ تقنيةِ السياراتِ والجوالاتِ، والتمتعِ بالسهراتِ والسَّفْراتِ، ثم يَظنونَ أن هذا النعيمَ سيَبقَى لهم إلى الأبدِ!
فلنحذَرْ ولنُحذِّرْهمْ ولنتحدثْ مع أولادِنا بنعمةِ اللهِ علينا، ولنَذكرْ لهم ما كانَ الناسُ فيه من جوعٍ وخوفٍ؛ حتى يُدركُوا فضلَ اللهِ -عزَ وجلَ- عليهم. {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ}. {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
فلنكرِرْ هذا الدعاءَ النبويَ قائلينَ: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ.
يا عبدَ اللهِ: (النعمُ أضيافٌ، وقِراها الشكرُ، فاجتهدْ أن ترحلَ الأضيافُ شاكرةً حُسنَ القِرى، شاهدةً بما تسمعُ وتَرَى)([2]). وبعضُنا تعوّدَ على النعمِ، حتى إننا إذا سُئلنا عن حالِنا قُلنا: لا جديدَ! فهل استشعرْنا تجددَ وبقاءَ النعمِ؟! فإن لم نستشعِرْ ونشكرْ فإن عذابَ اللهِ شديدٌ.
ومن الأرقامِ الرسميةِ المخيفةِ: أن تكلفةَ الهدرِ الغذائيِ عندَنا بالمملكةِ تُقدَّرُ بأربعينَ مليارِ ريالٍ سنويًا، فهل هذا يدلُ على الشكرانِ أم الكفرانِ؟!
فالحذرَ الحذرَ من الإسرافِ في الطعامِ أو إهانتهِ؛ فإنه من أسبابِ سخطِ اللهِ- تعالى-، وفقدانِ الأمنِ الذي لا حياةَ إلا به، وإلا انطبقَ علينا قولُ ربِنا: [وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ].
الحمدُ للهِ حمدَ الشاكرينَ، والصلاةُ والسلامُ على محمدٍ خيرِ الحامدِينَ، أما بعدُ: فمما يُذكرُ فيُشكرُ تداعي الناسِ لاستهجانِ تلكَ المقاطعِ التي يفعلُها بعضُ الحمقَى من التباهِي والبذخِ بالأطعمةِ، وطلبِ الشهرةِ من خلالِ التهافُتِ على تصويرِها ونشرِها، مما يكسِرُ قلوبَ الفقراءِ.
ومن المظاهرِ الجميلةِ ما تقومُ به جمعياتُ حفظِ الطعامِ، من استقبالِ فائضِ الأطعمةِ وحفظِها وتوزيعِها، وكذا ما تقومُ به البلديةُ مشكورةً من إنشاءِ حاوياتٍ لحفظِ فضلاتِ الأكلِ التي لا تَصلُحُ إلا للحيوانِ.
ومن الجميلِ -أيضًا- ما انتشـرَ عندَ الكثيرينَ من الاقتصادِ في طبخِ الطعامِ، ثم حفظِ بقاياه، وأكلِها في وجبةٍ قادمةٍ، أو توزيعِها على المحتاجينَ، فإن لم تصلحْ فللبهائِم.
والأَولى من ذلكَ كلِهِ ألا نطبَخَ إلا بقدرِ حاجتِنا، في ولائِمِنا وزواجاتِنا، وسفْراتِنا واستراحاتِنا، وتنزُّهاتِنا وأكلاتِنا.
ولنَدَعْ كلمةَ: نخافُ ألا يكفِيَهُمُ الأكلُ! ألمْ تعلمُوا أنَّ الرَسُولَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالَ: طَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَةَ، وَطَعَامُ الْأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ([3]). رواهُ مسلمٌ.
· فالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا، وَكَفَانَا وَآوَانَا، فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مُؤْوِيَ.
· اللهم يَا كَثيْرَ النَّوَالِ، يا حَسنَ الفِعَالِ: إِنّا عَائِذون بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَنا.
· اللهم يا من قلَّ شكرُنا عند نعمتهِ فلم يخذُلنا، ويا من قلَّ عند بلائهِ صبرُنا فلم يُعاجِلنا، اللهم أعنا على ذكرِكَ وشكرِكَ وحسنِ عبادتِكَ.
· اللهم آمنْ أوطانَنا، واخذلْ عدوانَنا، وَاحْفَظْ جُنُودَنَا وَحُدُوْدَنا، واجمعْ على الهُدى شؤونَنا، واقضِ اللهم ديونَنا.
· رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَومِ الظَّالِمِينَ، وَأَصْلِحْ أَحْوَالَنا وَأَحْوَالَ المُسْلِمِينَ.
· اللهم وَبَارِكْ فِيْ عُمُرِ وليِّ أَمْرِنَا وَوَليِّ عَهْدِهِ، وَزِدْهُم عِزَّاً وتوفيقاً لِنُصْـرَةِ الإِسْلَامِ والمُسْلِمِيْنَ.
· اللهم صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ.
([1]) تفسير الطبري (20 / 376) وتفسير السعدي (1 / 677)
([2])قاله ابن عقيل في الفنون كما في الآداب الشرعية (2 /175)
([3])صحيح مسلم (2059)
المرفقات
1744552359_��إنه لا يحب المسرفين�.doc
1744552359_��إنه لا يحب المسرفين�.pdf