إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا
عبدالرحمن اللهيبي
الحمدُ لله ربِّ العالَمِينَ، وفَّق مَنْ شاء لطاعته، وأجزل لهم العطاء بمثوبته، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: فاتقوا الله -عباد الله- حقَّ تقاته، واخضعوا لأمره، وانقادوا لشرعه، ولا تغترُّوا بإمهاله وحِلمه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
أيها المسلمون: إنَّ من أسماء الله الحسنى الحليم، فقال سبحانه : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) ، والحليم -سبحانه- هو الصبور ذو الصفح والأناة، الذي لا يستخفه جهلُ الجاهلينَ، ولا عصيانُ العاصينَ، فها هو ربنا سبحانه يشاهد فجور العصاة والأشرار، وكيدَ الفساق والفجار، ومبارزتهم له بالمعاصي مع الإصرار ، ثم هو لا يعجل عليهم بالعذاب، ولا يسارع لهم في الانتقام، وهذا مع كمال جبروته وقدرته ، وعظيم قهره وقوته ، وشديد بطشه وسطوته ، فحلم الله على العصاة ليس عن عجز أو ضعف، حاشاه -سبحانه- فهو القوي العزيز ، وهو الجبار المنتقم ذو القوة المتين (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ) ولكنه الحليم سبحانه يؤخر عباده لينذرهم ، ويسترهم عليهم ويغفر لهم، ويمهلهم ولا يعجل عليهم ، (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ) ، فسبحانه من رب كريم حليم .. يحلم عن العاصين ليتوبوا، ويمهلهم كي ينيبوا، ولا يعجل عليهم ليقيم الحجة عليهم، (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ)
ومن حلمه جل في علاه أنه يدر على خلقه الخيرات والنعم ، مع مجاهرتهم بمعصيته ، وإصرارهم على معاندته ، ومكابرتهم بعدم الخضوع لشرعه ، والاستخفاف بأمره ونهيه ، فخيره سبحانه إلى عباده نازل ، وشرهم إليه صاعد
عبادَ اللهِ: إن الله مطلع على عصيان خلقه ، مشاهد لأعمالهم ، عالم بأحوالهم ، ولا يخفى عليه شيء من أمرهم قال -تعالى-: (وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ في الْأَرْضِ وَلَا في السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا في كِتَابٍ مُبِينٍ) وإن في هذا يا عباد الله تذكرة لنا ، ولكل من استحوذ عليه الشيطان، وسوَّلَتْ له نفسه الفسوق والعِصيان، بأن الله كان معه حين عمل السيئات ، وكان الله يشاهده حين اجترأ عليه بانتهاك الحرمات ، وكان يراقبه عندما اقتحم الكبائر والموبقاتِ، ولو أراد الحليم -سبحانه- معاقبته في تلك الساعة لأَخَذَهُ أخذا شديدا ، ولكن الحليم يُمهلنا لعلنا أن نرجع إليه ونؤوب، فإلى كل من يتهاون في أداء الصلاة ، ولكل من يُطلِق بصرَه في الحرام، ولا يصون سمعَه عن استماع اللهو والآثام ، ولكل من يفري في أعراض المسلمين ، ويحقر الضعفاء والمساكين، إلى من يأكل أموال الناس بالباطل، ويلحق الأذى والضرر بالآخَرين ، إلى من يتطاول على والديه وهو لهم من العاقِّين، إياك إياك أن تغتر بحلم الله عليك ، وإمهال الكريم لك ، فاستيقظ من غفلتك، وأفك من سكرتك، واستشعر منة الله لك بحلمه عليك، وكأن لسان حالك يقول: ما أحلم الله عني حيث أمهلني ، وقد تماديت في ذنبي ويسترني.
عبادَ اللهِ: لا ينبغي للعصاة أن يأمنوا مكر الله ، فربنا الحليم يقول: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ في تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ)
قال ابن كثير رحمه الله في قوله : (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) ؛ أي: لم يعاجلهم بالعقوبة ، فمَنْ أعظمُ مِنْ ربِّنا جودًا وكرمًا؟! ومَنْ أوسعُ منه مغفرةً وحلمًا، يعصيه العاصون ، ويتجرأ عليه المتجرئون ، وهو شاهد غير غائب، ولأفعالهم مراقِب، ثم هو سبحانه يكلؤهم في مضاجعهم كأنهم لم يعصوه، ويتولَّى حفظَهم كأنهم لم يخالفوه ، وهم في المقابل يعصونه بالجوارح التي خلقها لهم ، وأنعم بها عليهم
قال صلى الله عليه وسلم-: "لا أحدَ أصبرَ على أذًى يسمَعُه من الله -عز وجل-؛ إنه يُشرَك به، ويُجعَل له الولدُ، ثم هو يعافيهم ويرزقهم" (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) ، قال الطبري -رحمه الله- : "إن الله كان حليما لا يعجل على خَلْقه، و(غَفُورًا) ساترًا عليهم ذنوبهم، إذا هم تابُوا وأنابوا
فَلْنَتُبْ -عبادَ اللهِ- إلى ربنا، ولنحذر من موجباتِ سخَطِه وأسباب غضبه ومقته؛ فَلِحِلْمِه سبحانه زمنا ومهلة، والمؤمن البصير يتقي غضب ربه ، ويحذر أسباب سخطه ، ولا يأمن مكر ربه ، فإنه سبحانه يقول: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ)
فاللهم لا تجعلنا في غفلة وغمرة، ولا تأخذنا في حينِ غرة، واجعلنا من المستبصِرينَ، ولا تجعلنا مع الغافلينَ.
الحمد لله الحليم بعِباده، سبقت رحمته غضبه، وسبق حلمه سخطه ، وسبق عفوه مقته، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: فإن الله -تعالى- يقول: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) ؛ والمعنى : أي شيء جرأك على عصيانه، وجعلك تعرض عن طلب رضوانه ، وهو الكريم سبحانه الذي أغدق عليك من كرمه وفضله ونواله ..
عبادَ اللهِ: إذا أراد العبد أن يحلم الله عليه ، وأن يغفر له ولا يعاجله بالعقوبة والانتقام، فيجب على العبد في المقابل أن يتصف بهذا الصفة الجليلة فيحلم هو على مَنْ أساء إليه، ويغفر له ويصبر عليه ، قال -تعالى-: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ، فكما تحب أن يحلم ربك عليك ، فاحلم أنت على من تحتَ يديك.
اللهمَّ إنَّا نعوذ بك أن نغتر بحلمك، فننتهك حرماتك، ونعوذ بك أن نأمن مكرك فنتجاوز حدودك
ألَا وصلُّوا وسلِّموا عباد الله على رسول الْهُدَى، كما أمركم ربكم -جل وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، اللهمَّ انصر المستضعَفين والمجاهدين في سبيلك، والمرابطين على الثغور، وحماة الحدود، واجعل بلدنا هذا آمِنًا رخاء وسعة، وسائرَ بلاد المسلمين.
اللهمَّ آمِنَّا في الأوطان والدُّور، وأصلِحِ الأئمةَ وولاةَ الأمور، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، يا ربَّ العالمينَ.
اللهمَّ إنَّا نسألك نصرًا عاجلًا، وفرجًا قريبًا، لإخواننا المستضعفين، وأن تكتب لهم العزة والتمكين، اللهمَّ أنج المستضعَفين من المسلمين في فلسطين، وفي كل مكان، يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ اشف مرضاهم، وعاف مبتلاهم، واحقن دماءهم، وارحم موتاهم، وتقبل في الشهداء قتلاهم، اللهمَّ استر عوراتهم، وآمن روعاتهم، اللهمَّ فرج همهم، ونفس كربهم، وارحم ضعفهم، وكن لهم ولا تكن عليهم، وانصرهم على من بغى عليهم، وانتقم مِنْ عدوكَ وعدوِّهم، واشْدُدْ وطأتَكَ عليهم، واقذف الرعبَ في قلوبهم، ورُدَّ كيدَهم في نحورهم ، يا قوي يا عزيز .. سبحان ربك رب العزة