إنا لله وإنا إليه راجعون (1)
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
1439/07/03 - 2018/03/20 13:03PM
إنا لله وإنا إليه راجعون (1)
6 / 7 / 1439هـ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ أَنِيسِ الْمُسْتَوْحِشِينَ، وَأَمَانِ الْخَائِفِينَ، وَغَوْثِ الْمُسْتَغِيثِينَ، وَجَابِرِ قُلُوبِ الْمُصَابِينَ. لَا يَتَعَلَّقُ عَبْدٌ بِهِ فَيَضِيعُ، وَلَا يَرْجُوهُ فَيَخِيبُ. نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ كُلُّ الْخَلْقِ عِيَالُهُ؛ فَهُوَ سُبْحَانُهُ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ، وَهَادِيهِمْ إِلَى مَا يُصْلِحُهُمْ، وَكَافِيهِمْ مَا يَضُرُّهُمْ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ لَا مُصِيبَةَ أَعْظَمُ مِنْ مُصِيبَةِ فَقْدِهِ، وَمَا نَزَلَ بِالصَّحَابَةِ شَيْءٌ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ مَوْتِهِ، وَلَكِنَّ الْعِوَضَ فِي الْقُرْآنِ وَفِي سُنَّتِهِ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَسْلِمُوا لَهُ وُجُوهَكُمْ، وَأَقِيمُوا لَهُ دِينَكُمْ؛ فَإِنَّ الْمَوْتَ قَرِيبٌ، وَالْحِسَابَ شَدِيدٌ، وَالْجَزَاءَ عَظِيمٌ. وَالنَّاسُ بَيْنَ شَقِيٍّ وَسَعِيدٍ؛ فَلْنَعْمَلْ لِلسَّعَادَةِ عَمَلَهَا؛ فَإِنَّهَا سَعَادَةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَلْنُجَانِبْ عَمَلَ أَهْلِ الشَّقَاءِ؛ فَإِنَّهُ شَقَاءٌ أَبَدِيٌّ ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ [النِّسَاءِ: 56 - 57].
أَيُّهَا النَّاسُ: مِنْ أَعْظَمِ مَا يَنْفَعُ الْمُؤْمِنَ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ مَعْرِفَتُهُ بِمَقَامَاتِ عُبُودِيَّتِهِ لِرَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فَفِي السَّرَّاءِ عِبَادَةُ الشُّكْرِ، وَفِي الضَّرَّاءِ عِبَادَةُ الصَّبْرِ. وَالصَّبْرُ عَلَى الْمَصَائِبِ وَالِاسْتِرْجَاعُ فِيهَا مَقَامٌ جَلِيلٌ مِنْ مَقَامَاتِ الْعُبُودِيَّةِ الْحَقَّةِ، وَصَاحِبُهُ يُجَازَى بِأَعْظَمِ الثَّوَابِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْزِي الصَّابِرِينَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ. وَمَا أَحْوَجَ النَّاسَ فِي هَذَا الزَّمَنِ لِفَهْمِ سُنَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَصَائِبِ، وَفِقْهِ مُوَاجَهَتِهَا بِالصَّبْرِ وَالِاسْتِرْجَاعِ؛ إِذِ الزَّمَنُ مَخُوفٌ، وَالْمَخَاطِرُ تُحِيطُ بِالْأَفْرَادِ وَالدُّوَلِ وَالْأُمَمِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [الْبَقَرَةِ: 155 - 157].
فَسُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ بِالْمِحَنِ، وَيَمَسَّهُمْ بِالضَّرَّاءِ، وَيُصِيبَهُمْ بِالْمَصَائِبِ؛ لِيَتَبَيَّن الصَّادِقُ مِنَ الْكَاذِبِ، وَالْجَازِعُ مِنَ الصَّابِرِ؛ لِأَنَّ السَّرَّاءَ لَوِ اسْتَمَرَّتْ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، وَلَمْ يَحْصُلْ مَعَهَا مِحَنٌ وَابْتِلَاءٌ؛ لَاخْتَلَطَ أَهْلُ الْإِيمَانِ بِأَهْلِ النِّفَاقِ، وَلَمْ يَتَمَايَزْ طُلَّابُ الدُّنْيَا عَنْ طُلَّابِ الْآخِرَةِ؛ إِذْ فِي حَالِ الْعَافِيَةِ وَالرَّخَاءِ يَتَظَاهَرُ الْجَمِيعُ بِالْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ. فَلَا بُدَّ مِنْ مَصَائِبَ خَاصَّةٍ وَعَامَّةٍ تُصَفِّي هَذَا الْخَلِيطَ؛ فَحِكْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى تَقْتَضِي تَمْيِيزَ أَهْلِ الْخَيْرِ مِنْ أَهْلِ الشَّرِّ. فَهَذِهِ فَائِدَةُ الْمِحَنِ وَالْمَصَائِبِ، وَلَيْسَتْ لِإِزَالَةِ مَا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْإِيمَانِ، وَلَا رَدِّهِمْ عَنْ دِينِهِمْ. مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا كَانَ سُبْحَانَهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَهُمْ؛ وَلِذَا كَانَتِ الْإِصَابَةُ بِقَلِيلٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ؛ لِأَنَّهُ ابْتِلَاءٌ وَلَيْسَ عَذَابًا، وَفِي الْعَذَابِ قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النَّحْلِ: 112]، وَفَرْقٌ كَبِيرٌ بَيْنَ الْإِذَاقَةِ بِلِبَاسِ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ، وَبَيْنَ الْإِصَابَةِ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَهَذَا يُبَيِّنُ رَحْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُ يُرِيدُ الْخَيْرَ لَهُمْ بِمَا يُصِيبُهُمْ، فَيَكُونُ تَذْكِرَةً لَهُمْ فِي نِسْيَانِهِمْ، وَتَنْبِيهًا لَهُمْ مِنْ غَفْلَتِهِمْ، مَعَ مَا يَنَالُهُمْ مِنَ الْأَجْرِ عَلَى مُصَابِهِمْ إِنْ هُمْ صَبَرُوا وَاسْتَرْجَعُوا. فَالِابْتِلَاءَاتُ تُمَحِّصُ وَتُصَفِّي وَلَا تُهْلِكُ وَتُوبِقُ.
ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْمَصَائِبَ الَّتِي يُصَابُ بِهَا الْفَرْدُ أَوِ الْأُمَّةُ قَدْ تَكُونُ فِي بَابِ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ، وَهُمَا مِنْ أَشَدِّ الْمَصَائِبِ؛ لِأَنَّ الْجُوعَ يُؤْلِمُ الْبَدَنَ وَيُوهِنُهُ، وَالْخَوْفَ يَشْغَلُ الْقَلْبَ وَيُتْلِفُهُ، وَلَوْلَا أَنَّ الْبَلَاءَ كَانَ بِشَيْءٍ مِنَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ سُرْعَانَ مَا يَزُولُ؛ لَقَضَى عَلَى صَاحِبِهِ. وَمِنَ الْبَلَاءِ: النَّقْصُ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ بِمَا يُصِيبُهَا مِنْ جَوَائِحَ، أَوْ مَا يَقَعُ عَلَيْهَا مِنَ اعْتِدَاءٍ بِالْغَصْبِ أَوِ السَّرِقَةِ أَوِ الْإِتْلَافِ. وَنَقْصُ الْأَنْفُسِ بِمَوْتِ الْأَوْلَادِ وَالْأَحِبَّةِ؛ وَذَلِكَ يُحْزِنُ الْقَلْبَ، وَيَسْتَدِرُّ الدَّمْعَ. وَالْكَثْرَةُ عِزٌّ وَقُوَّةٌ، فَإِذَا فَقَدَ كَثْرَتَهُ أُصِيبَ فِي عِزِّهِ وَقُوَّتِهِ.
وَبَعْدَ الْإِخْبَارِ بِالْمُصِيبَةِ وَالْبَلَاءِ جَاءَتِ الْبِشَارَةُ: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ وَالصَّبْرُ الْمَحْمُودُ هُوَ الصَّبْرُ الْجَمِيلُ الَّذِي يَكُونُ مِنْ غَيْرِ أَنِينٍ وَلَا تَأَفُّفٍ، وَلَيْسَ فِيهِ جَزَعٌ وَلَا تَسَخُّطٌ، وَلَا شَكْوَى لِلْخَلْقِ؛ وَذَلِكَ كَصَبْرِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَمَا فَقَدَ يُوسُفَ فَقَالَ: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ [يُوسُفَ: 18].
وَمِمَّا يَجْعَلُ الصَّبْرَ جَمِيلًا لَا أَنِينَ فِيهِ وَلَا شَكْوَى، وَلَا تَمَلْمُلَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْبَلَاءِ أَنْ يُفَوِّضَ أَمْرَهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنْ يُحِيلَ الْمَرْجِعَ وَالْمَآبَ إِلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى فِي حَالِ الصَّابِرِينَ وَقَوْلِهِمْ عِنْدَمَا تُصِيبُهُمُ الْمُصِيبَةُ وَتَنْزِلُ بِهِمُ النَّازِلَةُ: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [الْبَقَرَةِ: 156].
وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ كَمَالِ التَّفْوِيضِ وَالِاعْتِزَازِ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالِاطْمِئْنَانِ إِلَى قُدْرَتِهِ مَا يَعْلُو بِالنَّفْسِ عَلَى الْأَنِينِ وَالشَّكْوَى لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى الْعَلِيِّ الْقَدِيرِ.
وَفِيهَا إِقْرَارٌ بِأَنَّنَا مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى يَتَصَرَّفُ فِينَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَأُمُورُنَا بَيْنَ يَدَيْهِ سُبْحَانَهُ يُصَرِّفُهَا كَمَا يَشَاءُ، وَهُوَ نِعْمَ الْمُعْتَمَدُ فِي كَشْفِ الضُّرِّ وَإِزَالَةِ الْكَرْبِ، وَلَهُ الْأَمْرُ وَالتَّدْبِيرُ، فَنَحْنُ فِي الدُّنْيَا مَمْلُوكُونَ لَهُ، وَمِنْ بَعْدِ الدُّنْيَا نَرْجِعُ إِلَيْهِ.
وَفِيهَا إِقْرَارٌ بِالتَّوْحِيدِ، وَاسْتِشْعَارٌ لِلْعُبُودِيَّةِ، وَإِيمَانٌ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَفِي ذَلِكَ عَزَاءٌ أَيُّ عَزَاءٍ، وَسَلْوَى عَنِ الْبَلَاءِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
هَذَا؛ وَإِنَّ الصَّالِحِينَ لَا يَفِرُّونَ مِنَ الْمَصَائِبِ تَنْزِلُ بِهِمْ، وَلَا يَرَوْنَهَا مِنْ جَانِبِهَا الشَّدِيدِ، بَلْ يَرَوْنَهَا مِنْ جَانِبِهَا الصَّالِحِ الْمُفِيدِ، فَهِيَ تُرَبِّي فِي الْمُؤْمِنِ الْإِحْسَاسَ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَالضَّعْفَ أَمَامَ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْإِخْلَاصَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَالْإِخْلَاصُ حَيْثُ الضَّعْفُ أَمَامَهُ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّهُ لَا كَاشِفَ لِلضُّرِّ سِوَاهُ فَيَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ، وَالدُّعَاءُ وَالتَّضَرُّعُ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ، وَأَعْلَى الْمَقَامَاتِ.
وَالْمَصَائِبُ تُطَامِنُ النُّفُوسَ وَتَجْعَلُهَا بَعِيدَةً عَنِ الِاسْتِكْبَارِ وَالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَالِاعْتِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَسَّ بِالضُّرِّ يَكْشِفُ لِلْعَبْدِ ضَعْفَهُ، وَقُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ؛ وَلِذَا أَعْلَنَ فِي اسْتِرْجَاعِهِ مِلْكِيَّتَهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَرُجُوعَهُ إِلَيْهِ، وَرُبَّمَا كَانَ قَبْلَ الْمُصَابِ غَافِلًا عَنْهُ، مُعْرِضًا عَنْ آيَاتِهِ وَمَوَاعِظِهِ.
وَأَهْلُ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ يَنْظُرُونَ إِلَى الْمَصَائِبِ نَظَرًا بَعِيدًا، فَيُوقِنُونَ بِحُسْنِ ظَنِّهِمْ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنَّ مِنْ وَرَائِهَا نَفْعًا عَظِيمًا قَدْ لَا يُحِسُّونَ بِهِ وَقْتَ الْمُصِيبَةِ، وَلَكِنَّهُمْ يَجِدُونَهُ بَعْدَهَا ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [الْبَقَرَةِ: 216]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النِّسَاءِ: 19].
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَالْمُعَافَاةَ الدَّائِمَةَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَنَسْأَلُهُ الصَّبْرَ وَالرِّضَا فِي حَالِ الْمُصِيبَةِ، وَأَنْ يُضَاعِفَ لَنَا الْأَجْرَ وَالْمَثُوبَةَ، وَأَنْ يُحْسِنَ لَنَا الْعَاقِبَةَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاشْكُرُوهُ فِي السَّرَّاءِ، وَاصْبِرُوا فِي الضَّرَّاءِ، وَاسْتَرْجِعُوا فِي الْبَلَاءِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 200].
أَيُّهَا النَّاسُ: حِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ ابْتِلَاءِ النَّاسِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَصَائِبِ، وَأَمَرَهُمْ فِيهَا بِالصَّبْرِ وَالِاسْتِرْجَاعِ؛ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ لَهُمْ عَظِيمَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، وَهُوَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ. وَهَذَا الْبَيَانُ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِحَفْزِ النُّفُوسِ عَلَى الصَّبْرِ، وَحَثِّهَا عَلَى الِاسْتِرْجَاعِ، فَيُنْسِيهَا عَظِيمُ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ أَلَمَ الْبَلَاءِ وَجَلَلَ الْمُصَابِ ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [الْبَقَرَةِ: 157]، يُصَلِّي عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ سُبْحَانَهُ؛ أَيْ: يُثْنِي عَلَيْهِمْ، وَيُنَوِّهُ بِصَبْرِهِمْ وَاسْتِرْجَاعِهِمْ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى. فَأَهْلُ الْأَرْضِ يَرِقُّونَ لَهُمْ لِأَجْلِ مُصَابِهِمْ، وَمَلَائِكَةُ السَّمَاءِ يَغْبِطُونَهُمْ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ، وَثَنَائِهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ، وَتَنْوِيهِهِ عَزَّ وَجَلَّ بِصَبْرِهِمْ وَاسْتِرْجَاعِهِمْ، فَمَا أَعْظَمَهُ مِنْ ذِكْرٍ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى!! مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُمْ مِنَ الْعِوَضِ، وَمِنْ عَظِيمِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ.
وَيُضَافُ إِلَى صَلَاةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ رَحْمَةٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ تَغْشَاهُمْ، وَمَنْ أَصَابَتْهُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَلَنْ يَضِلَّ وَلَنْ يَشْقَى. وَوَصَفَهُمْ سُبْحَانَهُ بِالِاهْتِدَاءِ، وَهَذِهِ تَزْكِيَةٌ مِنْهُ تَعَالَى لَهُمْ، وَهِيَ أَعْظَمُ تَزْكِيَةٍ وَأَنْفَعُهَا لِصَاحِبِهَا ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التَّغَابُنِ: 11]. فَالْهِدَايَةُ كَانَتْ بَعْدَ الْإِيمَانِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلصَّبْرِ، وَهَذِهِ الْهِدَايَةُ ثَوَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي آيَةِ الصَّبْرِ وَالِاسْتِرْجَاعِ: «نِعْمَ الْعِدْلَانِ، وَنِعْمَ الْعِلَاوَةُ» أَرَادَ بِالْعِدْلَيْنِ صَلَاةَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَحْمَتَهُ بِالصَّابِرِينَ الْمُسْتَرْجِعِينَ، وَأَرَادَ بِالْعِلَاوَةِ هِدَايَتَهُمْ.
وَالْمُؤْمِنُ الصَّابِرُ الْمُسْتَرْجِعُ فِي الْمُصِيبَةِ مُبَايِنٌ لِحَالِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ الَّذِينَ يَجْزَعُونَ وَلَا يَصْبِرُونَ، وَيَتَسَخَّطُونَ وَلَا يَسْتَرْجِعُونَ؛ فَالْكَفَّارُ قَالُوا لِرَسُولِهِمْ: ﴿اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ﴾ [النَّمْلِ: 47]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي الْمُنَافِقِينَ: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ﴾ [النِّسَاءِ: 78].
فَلْيُوَطِّنِ الْمُؤْمِنُ نَفْسَهُ عَلَى الشُّكْرِ فِي الْعَافِيَةِ وَالسَّرَّاءِ، وَعَلَى الصَّبْرِ فِي الْبَلَاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَلْيَتَسَلَّحْ بِالصَّبْرِ وَالِاسْتِرْجَاعِ؛ فَإِنَّهُمَا سِلَاحَانِ فِي الْبَلَاءِ لَا يَخِيبَانِ، وَسُرْعَانَ مَا يَجِدُ الْمُصَابُ أَثَرَهُمَا عَلَى قَلْبِهِ بِالرِّضَا وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ رَغْمَ عِظَمِ الْمُصَابِ ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [التَّغَابُنِ: 11].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات
لله-وإنا-إليه-راجعون-1-مشكولة
لله-وإنا-إليه-راجعون-1-مشكولة
لله-وإنا-إليه-راجعون-1
لله-وإنا-إليه-راجعون-1
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق