(إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ)
عبدالله منوخ العازمي
الحمدُ للهِ المحمودِ بجميعِ المحامدِ تَعظيماً وتَشريفًا وثَناءً، المتصِّفِ بصفاتِ الكمالِ عزةً وقوةً وكبرياءً، وبه نؤملُ دَفعَ الكروبِ شِدَّةً وبلاءً،
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأَشهدُ أن نبيَّنا مُحمدًا عَبدُ اللهِ ورسولُه، أَفضلُ هذه الأمةِ جِهادًا وفِداءً، وأعظمُها قدوةً واصطفاءً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبِه الذين ضَربوا أَروعَ الأمثلةِ صَفاءً ووفاءً، وطُهراً ونَقاءً، والتَّابعينَ ومن تبعَهم وسارَ على نهجِهم اهتداءً واقتفاءً، وسَلمْ تَسليمًا يَزيدُه بَهجةً وبهاءً، ونُوراً وضِياءً وبَركةً وسَناءً، أما بعد:
فبأي مُقدمةٍ؟، وكيفَ يَبدأُ الحديثَ من أرادَ الكلامَ عمَّن لا تُحصَى فَضائُله، ولا تُعدُّ شمائلُه، الذي وصفَهُ الله تَعالى بالرِّسالةِ فقالَ: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ)، ونَاداهُ بالنُّبوةِ فقالَ: (يَا أَيٌّهَا النَّبِيٌّ)، وشَرفَهُ بالعبوديةِ فقالَ: (سُبحَانَ الَّذِي أَسرَى بِعَبدِهِ)، زَكَّى اللهُ عقلَه: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُم وَمَا غَوَى)، وزَكَّى لسانَه: (وَمَا يَنطِقُ عَن الهَوَى)، وزَكَّى كلامَه: (إِن هُوَ إِلاَّ وَحيٌ يُوحَى)، وزكَّى مُعلِّمَه: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى* ذُو مِرَّةٍ فَاستَوَى)، وزَكَّى قَلبَه: (مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى)، وزَكَّى بصرَه: (مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى)، وزَكَّى أخلاقَه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، وزَكَّى أصحابَه: (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَينَهُم).
شَرحَ اللهُ له صَدرَه، ووَضعَ عنه وزرَه، ورَفعَ له ذِكرَه .. ما وَدَّعَه ربُه وما قَلاه، وجعلَ آخرتَه خيراً له من أُولاهُ، وَجدَه ضَالاً فهَداهُ، وفَقيرًا فأَغناه، ويَتيمًا فآواه، ولما خيَّرَه بين الدُّنيا وبينَ لقاءِ مولاهُ، قال والشوقُ يملأُ فاهُ: (بَل الرَّفيقُ الأعلى، بَل الرَّفيقُ الأعلى).
ربَّاكَ ربُّكَ، جلَّ من ربَّاكا *** ورعاكَ في كنفِ الهُدى وحَمَاكا
سبحانَه أَعطاكَ فيضَ فَضائلٍ *** لم يُعْطِها في العالمينَ سِواكا
عَاداهُ مشركو قريشٍ وطردوهُ فأخزاهم اللهُ،
ومزَّقَ كِسرى رِسالتَه فمزَّقَ مُلكَه اللهُ، وإذا كَانَ اللهُ تَعالى يَقولُ: (من عَادى لي وَليَّاً فقد آذنتُه بالحربِ)، فكيفَ بمن عَادى إمامَ الأولياءِ، وسَيدَ الأنبياءِ؟، وصدقَ اللهُ تعالى: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبتَرُ)، فكلُّ من أبغضَ النَّبيَّ صلى اللهُ عليه وسلمَ أو عاداه، فإن اللهَ تعالى يَقطعُ دَابرَه وذِكراه، وتبقى الصَّلاةُ والسلامُ عليه تملأُ الأفواهَ، وتطيبُ بذكرِه ومَحَبَتِهِ الحياةُ.
كَيفَ بِرَجُلٍ، اللَّهُ (هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ)، كَيفَ بِرَجلٍ، قَالَ اللهُ تَعَالى لَهُ: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ)، فَكَفَاه فِي الحَياةِ وبَعدَ المَمَاتِ، وَجَعَلَ الدِّفاعَ عَنْهُ مِنْ أَعظَمِ القُرُباتِ، حَتَى قَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَسَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عِندَما هَجَا قُريشَ: (إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ لَا يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ مَا نَافَحْتَ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ)، وَقَد قَالَ حَسَّانُ:
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ *** وَعِنْدَ اللهِ فِي ذَاكَ الجَزَاءُ
فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي *** لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
فَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللهِ مِنْكُمْ *** وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ
وَفداهُ الصَّحابةُ رضيَ اللهُ عنهم بأرواحِهم وأموالِهم وأعراضِهم، فَعن زَيدِ بنِ ثَابتٍ رَضيَ اللهُ عَنه أَنَّه قَالَ:
بعثني رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أُحُدٍ أطلُبُ سعدَ بنَ الرَّبيعِ، وَقَالَ لي: (إنْ رَأَيْتَهُ فأقرئه منِّي السَّلامَ)، وقُلْ لهُ: يقولُ لَكَ رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَيْفَ تَجِدُكَ؟)، قالَ: فجعلتُ أطوفُ بَيْنَ القَتْلَى، فأتيتُه، وهو بآخِرِ رَمَقٍ، وفيه سَبعونَ ضَربةً، ما بين طَعنةٍ برُمحٍ، وضَربةٍ بسَيفٍ، ورَميةٍ بسَهمٍ، فقلتُ: يا سَعدُ؛ إنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقرأُ عَليكَ السَّلامَ، ويَقولُ لكَ: أَخبرني كَيفَ تَجِدُكَ؟، فقال: وعلى رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلامُ، قُلْ لَهُ:
يا رسُولَ اللهِ؛ أَجِدُ ريحَ الجَنةِ، وقُلْ لقَومي الأنصارِ: لا عُذْرَ لكم عِندَ اللهِ إن خُلِصَ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيكم عَيْنٌ تَطْرِفُ، ثُمَّ فاضَتْ نفسُهُ من وَقتِه، ولسانُ حاله:
عِرضي فِدا عِرضَ الحبيبِ محمدٍ *** وفِداهُ مُهجةُ خَافقي وجَنانيِ
وفِداه كلُّ صغيرِنا وكَبيرِنا *** وفِداهُ ما نَظرتْ له العَينانِ
أستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كُلِّ ذَنبٍ فاستغفروه إنَّه هو الغَفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ على فضلِه وإحسانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، وسلمَ تَسليماً كَثيراً، أما بَعدُ:
وها هو خُبيبُ بنُ عَديٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ مَربوطٌ مَصلوبٌ على خَشبةٍ ليُقتلَ، فيُقالُ له: أَتحبُ أنَّ محمداً مَكانَك، وأنتَ سَليمٌ مُعافى في أهلِكَ، فقالَ دونَ تَردِّدٍ: واللهِ ما أحبُّ أَني في أهلي ووَلدي، مَعي عَافيةُ الدُّنيا ونعيمُها، ويُصابُ رسولُ اللهِ بشَوكةٍ .. فما هذا الحبُّ الذي أحبوه، حتى بكلِّ شيءٍ يفدوه؟.
أيُّها الأحبَّةُ .. لا جَديدَ في الإسَاءةِ إلى نّبيِّنا عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن عُبَّادِ الصَّليبِ والبَقَرِ، ولا جَديدَ في أنَّه يَبقَى هُو بأَبي وأُمِّي إمَامَ النَّاسِ وسَيِّدَ البَشَرِ، لا يَضرُّه نَعيقُ نَاعقٍ، ولا صَريخُ زَاعقٍ، ولَكنَّ الجَديدَ: ما هو مَوقفُنا ودَورُنا في الدِّفاعِ عَن نبيِّنا؟، فَلا بُدَّ مِنْ تِلكَ المَشاعرِ النَّبيلةِ، وكَلِماتِ الحُبِّ الجَميلةِ، ومَواقفِ النُّصرةِ الجَليلةِ، فالخَطيبُ في خُطبتِهِ، والكَاتبُ في صَحيفتِه، والإعلاميُّ في شَاشتِه، والمُغَرِّدُ في تَغريدَتِهِ، والتَّاجرُ في تِجارتِهِ، والسِّياسيُّ في بياناتِه وتَصريحاتِه، لِيَعلمَ العَالَمُ أَجمعُ أنَّ هَنَاكَ أُمَّةً تَنتَصرُ له، (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ)، وأَعظمُ نَصرٍ هو مَعرِفَةُ سِيرَتِه، وتَطبيقُ سُنَّتِهِ، كَما أَمرَ اللهُ تَعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).
ايه الاكارم :
كلبٌ يَغارُ لعِرضِه الشريفِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يغارُ بعضُنا !
واسمعوا لهذه القصة العجيبة التي رواها
الحافظ ابن حجر العسقلاني-رحمه الله-: قال
(ذات مرة توجه جماعة من كبار النصارى؛ لحضور حفلٍ مغوليٍّ كبيـر عُقد بسبب تنصُّرِ أحد أمراء المغول، فأخذ واحد من دعاة النصارى في شتم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هناك كلبُ صيدٍ مربوط؛
فلما بدأ هذا الصليبي الحاقد في سب النبي صلى الله عليه وسلم؛ زمجر الكلب وهاج! ثم وثب على الصليبي وخمشه بشدة!
فخلّصوه منه بعد جهد، فقال بعض الحاضرين: هذا بكلامك في حق محمد عليه الصلاة والسلام.
فقال الصليبي: كَلاَّ؛ بل هذا الكلب عزيز النفس؛ رآني أشيـر بيدي فظنَّ أني أريد ضربه، ثم عاد لسب النبي صلى الله عليه وسلم وأقذع في السب،
عندها قطع الكلب رباطه ووثب على عنق الصليبي، وقلع زوره في الحال، - أعلى صدره - فمات الصليبي من فوره،
فعندها أسلم نحو أربعين ألفًا من المغول).
الدرر الكامنة ( ج ٣ / ص ٢٠٢ ).
وقال شاهد القصة وهو جمال الدين:
وافترسه الكلب - والله العظيم - وأنا أنظر، ثم عضَّ على الصليبي زردمته - أي: حلقه -. فاقتلعها فمات الملعون، ثم اشتهرت الواقعة !
اللَّهُ أَكبَرُ! (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ)
اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّم وبارِك عَلَى نبيِّنا مُحَمَّدٍ.
اللهمَّ أَعزَّ الإسلامَ وانصُرِ المسلمينَ، اللهمَّ أذلَّ الشركَ والمشركينَ، اللهمَّ دَمِّرْ أَعداءَ الدينِ، اللهمَّ اجمعْ شَملَ المسلمينَ، وأَلِّفْ ذَاتَ بَينِهم، وعَلِّقْ قُلوبَ صِغارِهم وكِبارِهم ورِجالِهم ونِسائهم بالاقتداءِ بنَبيِّكَ مُحمدٍ، اللهمَّ صلِّ وسلم على عبدِك ورسولِك محمدٍ النَّبيِّ الأميِّ البشيرِ النذيرِ، والسراجِ المنيرِ، اللهمَّ صلِّ وسلم عليه عددَ ما صُليَ عليه من أولِ الدنيا إلى آخرِها، اللهمَّ وارضَ عن أصحابِه الخلفاءِ؛ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ وعن الستةِ الباقينَ من العَشرةِ، وعن الذينَ بايعوا نبيَّكَ تحتَ الشجرةِ، وعن زوجاتِه أمهاتِ المؤمنينَ، وعن بقيةِ الصَّحابةِ أَجمعينَ، اللهمَّ ارضَ عن التابعينَ وتَابعي التابعينَ، ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، اللهمَّ ارضَ عَنَّا مَعهُم بِمَنِّكَ وكَرمِكَ وجُودِكَ وإحسَانِكَ يا ربَّ العالمينَ.
للهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار
﴿سُبۡحَـٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا یَصِفُونَ ١٨٠ وَسَلَـٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِینَ ١٨١ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ١٨٢﴾
المرفقات
1654772576_إنا كفيناك المستهزئين.docx