إلى متى الخصام؟
هلال الهاجري
الحمدُ للهِ الذي خلقَ الإنسانَ في أحسنِ تَقويمٍ، وفَضَّله على كثيرٍ ممن خَلَقَ تفضيلاً، الحمدُ للهِ الذي خلقنا من ذكرٍ وأُنثى، وجعلنا شعوباً وقبائلَ لنتعارفَ .. وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأَشهدُ أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، بعثَه اللهُ للعالمينَ بشيرًا ونذيرًا، صلِّ اللَّهُمَّ عليه وعلى آلِه وصحبِه وسَلِّم تسليمًا كثيرًا .. أما بعد:
(إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)
إخوانٌ يجمعُهم الدَّمُ واللَّحمُ، عَاشُوا طُفولةً سَعيدةً، ومَواقفَ فَريدةً، لَعِبوا كثيراً، واستمتعوا كثيراً، لهم قِصَصٌ وحِكاياتٌ، وبينهم أسرارٌ وذِكرياتٌ، حياتُهم مليئةٌ بالمرحِ والألعابِ، وكانَ الخِصامُ ينتهي بكَلمةِ عِتابٍ، هكذا كَانوا في سَعَادةٍ وهَناءٍ، وقُلوبُهم مَليئةٌ بالحُبِّ والصَّفاءِ، وفي موقفٍ حضرَ فيه الشَّيطانُ، وضَعُفَ فيه وازعُ الإيمانِ، اختلفوا وتشاحنوا وتخاصموا، فتلاشتْ رابطةُ الحبُّ والوِئامِ، وبدأتْ رِحلةُ الصُّدودِ والخِصامِ، وطارتْ الأُخوَّةُ في مَهبِّ الرِّيحِ، وأُغلقتْ القلوبُ بالمفاتيحِ، ومُنذُ شُهورٍ لا يُكلِّمُ بَعضُهم بَعضاً، ولا يسَلِّمُ أحدُهم على الآخرِ.
فاسمعوا معي لهذا الحديثِ الخطيرِ، وتأملوا ما فيه من الخُذلانِ الكبيرِ، وماذا يَقولُ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا).
لا إله إلا اللهُ .. كم في هذا الأسبوعِ من عِباداتٍ، كم فيه من صَلواتٍ، كم فيه من صَدقاتٍ، كم فيه من أَذكارٍ، كم فيه من تَوبةٍ واستغفارٍ، كم فيه من صِيامٍ، وبرٍّ للوالدينِ وصِلةِ أرحامٍ، ومع ذلكَ لا يُغفرُ لهذا العبدِ، بل ولا يُنظرُ في عَملِه، فأيُّ خسارةٍ هذه، وأيُّ مُصيبةٍ تِلكَ.
يا أهلَ الإيمانِ .. أتعلمونَ ما هي أولُ خُطوةٍ للشَّيطانِ بعدَ أن يعجزَ عن دعوةِ المُسلمينَ إلى الشِّركِ؟، يَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبَدُه الْمَصْلُونُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ)، لأَنَّ التَّحريشَ سَببٌ لِلخِلافِ والخِصَامِ، ولِذَلِكَ حَذَّرَنا اللهُ تَعالى في كِتَابِهِ بِقَولِهُ: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا)، فَقُولوا التي هِيَ أَحسنُ، وأَصلِحوا ذَاتَ بِينِكم، واتَّخِذوا الشَّيطانَ عَدوَّاً.
من مِنكم يُريدُ أن يأتيَ يومَ القيامةِ وهو قد سَفَكَ دَمَ مُسلِمٍ بغيرِ حقٍّ؟، ولا يَزالُ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا، اسمعوا معي لهذا الحديثِ: (قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ)، هل تسمعُ يا من هجرَ أخاهُ سنينَ؟، هل ترضى أن تُحشرَ مع سَافكي دماءِ المُسلمينَ؟.
فالأمرُ خطيرٌ، ولا يحتملُ التَّأخيرَ، فكن خيرَ الرَّجلينِ عندَ اللهِ تعالى، فعَنْ أبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا يحلُّ لمسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَياَلٍ يَلْتْقَيِاَنِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بالسَّلَامِ)، فالتمس لأخيكَ عُذراً، فإن لم تجدْ فقلْ لعلَّ له عذراً لا أعرفُه.
إذا شِئتَ أن تُدعى كَريمًا مكـرَّمًا *** أديبًا ظَريفًا عاقلًا ماجِدًا حُــرَّا
إذا ما أتتْ من صاحبٍ لك زَلَّةٌ *** فكن أنتَ محتالًا لِــزلّته عُـذرا
جرى بينَ الحسينِ بنِ عليٍّ وأخيه محمدٍ بنِ الحنفيَّةِ رضيَ اللهُ عنهم أجمعينَ كلامٌ فانصرفا مُتَغاضبيْن، فلما وصلَ محمدٌ –وهو الأصغرُ- إلى منزلِه أخذَ رُقعةً وكتبَ فيها: (بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ .. من محمدٍ بنِ عليٍّ بنِ أبي طالبٍ إلى أخيه الحسينِ بنِ عليٍّ بن أبي طالبٍ، أما بعدُ: فإنَّ لك شرفًا لا أبلغُه، وفضلاً لا أدركُه، فإذا قرأتَ رِقعتي هذه فالبسْ رداءَك ونعليكَ، وسِرْ إليَّ فترضَّاني، وإياكَ أن أكونَ سابقَك إلى الفَضلِ الذي أنتَ أولى به مني، والسَّلامُ)، فلما قرأَ الحسينُ رضيَ اللهُ عنه الرِّقعةَ لَبسَ رداءَه ونعليه، ثم جاءَ إلى أَخيهِ فترضَّاه، وهكذا فَافعَلْ مَعَ أخِيكَ، أَو تَعَالَ إليهِ قَبلَ أَن يَأتيكَ.
أقُوْلُ قَوْلِي هَذا، وَأسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيْمَ لَيْ وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إنَّهُ هُوَ الْغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على سيِّدِ البَشرِ، الذي انشقَّ له القمرُ، وسلَّمَ عليه الحجرُ، ما طلعتْ الشَّمسُ على أشرقَ منه وجهًا ولا أنورَ، فاللهمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ عليه وعلى آلِه وصحبِه والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ المحشرِ .. أما بعدُ:
عبادَ اللهِ .. ألم يقلْ اللهُ تعالى في كتابِه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)؟، فكيفَ تُخالفُ هذه الآيةَ وتجعلُ المؤمنَ عدوَّاً؟، إلى متى الخِصامُ والهجرُ؟، ألم يأتِك ما جاءَ في ذلكَ من الزَّجرِ؟، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ).
أيُّها الأحبَّةُ .. الصُّلحَ الصُّلحَ، والعُذرَ العذرَ، وكونوا عبادَ اللهِ إخواناً، وكن سابقاً مُعتذراً، أو كن للعُذرِ قابلاً، قَالَ يُونُسُ الصَّدَفِيُّ: مَا رَأَيْتُ أَعْقَلَ مِنَ الشَّافِعِيِّ، نَاظَرْتُهُ يَوْمًا فِي مَسْأَلَةٍ، ثُمَّ افْتَرَقْنَا، وَلَقِيَنِي، فَأَخَذَ بِيَدِي، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا مُوسَى، أَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ نَكُونَ إِخْوَانًا وَإِنْ لَمْ نَتَّفِقْ فِي مَسْأَلَةٍ .. قالَ الذَّهبيُ رحمَه اللهُ تعالى بعدَ ذِكرِ هذه القِصَّةِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ عَقْلِ هَذَا الْإِمَامِ، وَفِقْهِ نَفْسِهِ، فَمَا زَالَ النُّظَرَاءُ يَخْتَلِفُونَ.
إِذَا اعْتَذَرَ الْجَانِي مَحَا الْعُذْرُ ذَنْبَهُ *** وَكَانَ الَّذِي لا يَقْبَلُ الْعُذْرَ جَانِيَا
وإيَّاكَ أن يُرفعَ عملُكَ إلى اللهُ تعالى، ثُمَّ لا يُعرضُ لشحناءٍ بينَكَ وبينَ أَخيكَ، فيا خسارةَ من سعيا واجتهدا وعمِلا صالحاً، ثُمَّ يَقُولُ اللهُ تعالى في أعَمَالِهما: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا.
اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، اللهمَّ إنا نَسألُكَ أن تَجعلَنا إخوةً مُتحابينَ في سَبيلِكَ، قَائمينَ بحقُوقِكَ، عَاملينَ لِدينِكَ، اللهمَّ إنا نَسألُكَ أن تَجعلَ قُلوبَنا عَامرةً بِذكرِكَ، وأَنْ تُطهرَ قُلوبَنا من الشِّركِ والنِّفاقِ، وأن تُطهرَ ألسنتَنا مِنَ الكَذبِ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَجَنِّبْنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا، وَأَبْصَارِنَا، وَقُلُوبِنَا، وَأَزْوَاجِنَا، وَذُرِّيَّاتِنَا، وَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ شَاكِرِينَ لِنِعْمِكَ مُثْنِينَ بِهَا عَلَيْكَ، قَابِلِينَ لَهَا، وَأَتِمِمْهَا عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
المرفقات
1705462939_إلى متى الخصام؟.docx
1705462949_إلى متى الخصام؟.pdf