إلفُ الأمانِ! [مختصرة]
عبدالله الغامدي
الـخطبة الأولى:
إنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إلَيْهِ، ونعوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فلا مضلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أن لاَ إلَهَ إلا اللَّهُ وَحَدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون﴾ أما بعد:
بعد ما أُسدلَ السِّتارُ في سورةِ الفيل علىٰ مشهدِ العَصفِ المأكول، من الأشلاء المتناثرة والجثث المتفرِّقة في كُلِّ جانب؛ لمن غرَّتهم قوتُهم فأرادوا هدمَ بيتِ اللهِ الحرام، متناسين قدرةَ الله وقوته؛ فجعلهم اللهُ كالتبن الذي تدوسه الأنعام بطَيرٍ متناهيةٍ في الصِّغر.
وبعدَ انتهاءِ هذا المشهدِ الـمروِّع؛ تُطالعنا السورةُ التي تليها بهذا المطلعِ العَجيب: قال تعالى: ﴿لإِيلاَفِ قُرَيْش﴾ أي فعلنا ما فعلنا بأصحابِ الفيلِ من تضليلِ كيدهم وتدميرِ جندهم؛ من أجلِ أن تبقى قريشٌ آمنةً مطمئنةً، تَخرجُ كما اعتادتْ وألفتْ إلى رحلةِ الشِّتاءِ والصَّيف.
ثُمَّ بيَّن -سبحانه وتعالى- ما هذه النِّعمةُ التي أصبحت مألوفةً عندهم ومُعتادةً لديهم، فقال تعالى: ﴿إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْف﴾
وهاتان الرحلتان -رحلة الشتاء والصيف- كانتا من أهمِّ الرحلاتِ لقُريش، ولولاهما لما كانت قُريشٌ لتهنأ بعَيش ولا تَنعم بحَياة؛ ولذلك امتنَّ عليهم بهاتين الرحلتين؛ وذلك لأنَّ قريش كانت بمكة المكرمة، ومكةُ كما هو معلوم وادٍ غير ذي زرعٍ ولا ثَمر؛ فكان لا بُدَّ لهم من رحلاتٍ يخرجونَ فيها للتجارةِ، والإتيان ببعض السِّلع الأساسيَّة من خارج مكَّة؛ حتى ينعموا بحياةٍ هانئةٍ كريمة.
لكن كيف لهم بالخروج إلى تلك المسافاتِ الطَّويلة، والنَّاس يُتخطَّفون حولَهم من كُلِّ جانب؟!
إذ قد كانت بيئةُ جزيرةِ العَربِ بيئةً مخوفةً مليئةً بالحروبِ والصراعاتِ وقُطَّاعِ الطريقِ -كما هو معلوم-، وكان كثيرٌ من النَّاسِ لا يخرجون خارجَ بلادهم لئلا يتعرَّضوا للنهبِ والسَّرقةِ والقتلِ وقَطعِ الطَّريق.
أمَّا قريشٌ فقد كانت تخرجُ للتجارةِ إلى الشَّامِ في فَصلِ الصيفِ لا تَخافُ أحدًا، وتَذهبُ إلىٰ اليمنِ في فصلِ الشتاءِ لا تَخشَ شيئًا!
وذلكَ لأنَّ اللهَ فضَّلهم على سائرِ الناسِ؛ بأن جعلهم مجاوري بيتهِ وسُكَّان حَرمهِ المبارك
والعربُ كانوا يُعظِّمونَ أهلَ الحرم، ولا يتعرَّضونَ لهم؛ لأنَّه ما من واحدٍ منهم إلا وسيأتي للحرمِ يومًا للحَجِّ، والحرمُ لقريشٍ؛ فكانوا يحترمونَ قريشًا من أجلِ ذلكَ ولا يتعرَّضونَ لها؛ فتخرجُ قريشٌ من مكةَ إلى الشام في الصيف، وتذهبُ في الشتاءِ إلى اليمنِ، وهي لا تَخشى شَيئًا!
وهذه النعمةُ من حصولِ الأمنِ وتيسّر طلبِ الرزق؛ نعمةٌ عظيمةٌ فضَّلَ اللهُ بها قريشًا على سائرِ العرب؛ فما هو المنبغي على قريش وكُلِّ من امتنَّ الله عليه في زماننا بنعمةِ الأمن وتيسِّرِ طلبِ الرزق تِجاه هذه النعمة العظيمة والمنّةِ الجليلة؟!
إنَّه أَمرٌ واحَد، وطَلبٌ وحَيدٌ فقط! قال تعالى: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْت * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْف﴾.
أي أن الله يسَّر لهم كلَّ ذلك ليتفرُّغوا لعبادته وحدَه لا شريك له، فليشكروا هذه النعمة العظيمةَ إذن بعبادةِ ربِّ هذا البيت الذي منحهم تلك النعمة.
وعبادةُ ربِّ هذا البيت الذي أطعمَ عباده من جوع وآمنهم من خوف؛ تكون بشكرهِ باللسانِ علىٰ نعمةِ الأمنِ والأمانِ، عبادتهُ تتحققُ بالصيامِ وإقامةِ الصَّلاةِ وقراءةِ القُرآن، عبادتهُ تَتمثَّلُ في اجتنابِ المنكرات والمعازفِ ومُحرَّمِ الألحان.
فما أغفلَ مَنْ رزقهُ اللهُ الأمنَ في هذه البلادِ المباركةِ ليحققَ أعظمَ غايةٍ وأشرفَ مقصدٍ، ثُمَّ كفرَ بهذه النِّعمةِ وكان سببًا في زوالها بقلةِ العبادةِ والشُّكر، أو استغلالها فيما يُسخطُ ربَّنا ولا يرضيهُ -سبحانه وتعالى-!
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقهِ وامتنانه، وأشهدُ ألا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه الداعي إلى رضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون﴾ أما بعد:
-أيُّها المباركون-: ننعمُ بحمدِ اللهِ في بلادنا هذهِ -بلادِ الحرمين المباركةِ- بنعمةِ الأمنِ والأمانِ، وهذهِ النعمةُ العظيمةُ التي أنعمَ اللهُ بها علينا ينبغي أن يكونَ هدفُ استدامتِها مسؤوليةَ وهمَّ الجميع؛ لأنَّ الأمنَ إذا فُقدَ فلا يُفقدُ مِنْ شخصٍ دونَ شَخص، وإنَّما يَعمُّ الجميعَ؛ وطريقُ استدامةِ هذهِ النعمةِ العظيمةِ بثلاثةِ أمورٍ:
الأمرُ الأولُ: شكرُ اللهِ الـمُنعمِ -سبحانه وتعالى- بالقلبِ والعملِ واللسانِ على هذهِ النعمةِ العظيمةِ، ولنسأل أنفسَنا يا كِرام: متى هي آخرُ مرةٍ شكرنا اللهَ فيها على نعمةِ الأمنِ والأمانِ وسألناهُ أن يديمها علينا؟!
إن كانَ ذلكَ قريبًا فالحمدُ للهِ ولنستمرَّ على ذلكَ، وإنْ كانَ غير ذلك فلا بُدَّ للمرءِ أن يُدرِجَ الشكرَ على هذهِ النعمةِ العظيمةِ في قائمةِ النِّعمِ التي يَشكرُ اللهَ عليها؛ لأنَّ هذهِ النعمةَ إذا فُقدتْ فلن يهنأُ الإنسانُ بمنامٍ ولا طَعامٍ ولا شَرابٍ، وقد قالوا: "النِّعمُ إذا شُكرتْ قرَّتْ، وإذا كُفرتْ فرَّتْ"، وخيرٌ مِنْ ذلكَ قولُ ربِّنا في قَانونِ النِّعمِ: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد﴾.
الأمرُ الثَّاني: توحيدُ اللهِ سبحانهُ وتَعالى ونبذُ جميعِ مَظاهرِ الشِّركِ؛ فبينَ التوحيدِ والأمنِ عَلاقةٌ وثيقةٌ، بل قالَ أهلُ العلم: "بقدرِ تحقيقِ التوحيدِ يكونُ الأمنُ، وبقدرِ حصولِ الشركِ يكونُ الخوفُ"، ويَدلُّ على ذلكِ قولُ الحقِّ سبحانهُ وتَعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُون﴾.
الأمرُ الثَّالث: السمعُ والطاعةُ لولاةِ الأمرِ بالمعروفِ ما لم يأمروا بمعصيةِ اللهِ، وعدمُ الخروجِ على جماعةِ المسلمين لأيِّ سببٍ مِنْ الأسبابِ -ما خلا الكفرَ البَواح كما قال ﷺ-.
وتقديرُ هذهِ الأمور العِظامِ لا يُردُّ ولا يُؤخذُ عن كُلِّ أَحدٍ يَخرجُ للناسِ في الشَّاشاتِ أو وسائلِ التواصلِ ويَدعي الفَهمَ والعِلمَ، وإنّما تُردُّ هذهِ الأمورُ إلى العُلماِء الكبارِ الراسخين في العلم: ﴿وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾.
فاللهمَّ أدمْ علينا وعلى عمومِ بلادِ المسلمين نعمةَ الأمنِ والأمانِ، والعافية والإيمان
هذا وصلّوا وسلّموا...
المرفقات
1726810850_خطبة إلف الأمان.docx
1726810850_خطبة إلف الأمان.pdf