إكرام من طال بهم العمر


أيها المسلمون:
الإنسان في هذه الحياة يمر بمرحلة الضعف، ثم القوة، ثم الضعف، قال الله تعالى : ﴿اللَّهُ الَّذي خَلَقَكُم مِن ضَعفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعدِ ضَعفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعدِ قُوَّةٍ ضَعفًا وَشَيبَةً يَخلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ العَليمُ القَديرُ﴾ [الروم: ٥٤]، ومن عظمة الإسلام، اهتمامه بالإنسان في مراحله كلها، وفي كل مرحلة لون من الاهتمام؛ وإن حديث اليوم عن الإنسان إذا طال به العمر كيف قدّره الإسلام؟ وآخر العمر يحصل معه التعب، ولا عجب أن يتعوذ الرسول ﷺ من هذه المرحلة حيث يقول: (وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر) رواه البخاري، وأرذل العمر آخره كما ذكر ذلك العلماء قالوا: وإنما خصّه رسول الله ﷺ بهذا الوصف لأنها حالة لا رجاء بعدها لإصلاح ما فسد. قال بعض العلماء: إن الإيمان وعمل الصالحات في الصغر قد يمنع الرد إلى أرذل العمر في الكبر، وقال القرطبي ‘: إن هذا لا يكون للمؤمن، يعني الرد إلى أرذل العمر، لأن المؤمن لا ينزع عنه عمله.
أيها المسلمون: إن الإنسان الذي كبر سنّه، ورقّ عظمه أحوج ما يكون للرعاية والمساعدة ومن هنا جاءت نصوص الشريعة بالاهتمام بالكبير وتقديره بدءًا بالوالدين إحسانًا، وشمولًا لكبار السن رجالًا ونساءً، وعطفًا على الضعفة منهم، والمحتاجين للمساعدة تقديرًا وإجلالًا، إنها العظمة في تعاليم الإسلام، بل هي الرعاية والحنو والعطف تقديرًا لماضيهم ووفاءً لجهودهم وحقوقهم. إن رعاية الوالدين والإحسان إليهما جاءت بهما الشرائع السماوية كلها قال تعالى-: ﴿وَإِذ أَخَذنا ميثاقَ بَني إِسرائيلَ لا تَعبُدونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا﴾ [البقرة: ٨٣].
وحرّم الإسلام عقوق الوالدين - بأي شكل من الأشكال - وإن قلّ في عين العاق كالتأفف مثلًا، وقد نقل عن الحسن بن علي رضي الله عنه قوله: لو علم الله شيئًا من العقوق أدنى من أفّ لحرّمه.
وإذا كان الوالدان في أعلى قائمة الكبار رعاية وتقديرًا واحترامًا، فقد شملت رعاية الإسلام للمسنين عمومًا واتخذت هذه الرعاية أشكالًا وأساليب كثيرة، ومنها:
البدء بالتحية للكبار فقد أمر نبيّنا ﷺ أن يسلّم الصغير على الكبير. ومن الرعاية والتقدير: ألا يتكلم الصغير في أمر دون الكبير، وقد وجّه النبي ﷺ بهذا حين قال لصغير تحدث عنده: (كبّر كبّر)، وكذلك يقدم الأكابر في الشرب، فقد كان ﷺ إذا سُقي قال: (ابدأ بالكبراء) أو قال: (بالأكابر) وبلغت عناية الإسلام بالكبار استثناءهم من القتل، وإن كان ذووهم محاربين، فقد كان من وصيته لقواده: (ولا تقتلوا وليدًا ولا شيخًا كبيرًا) وفي أحكام الإسلام تيسير ومراعاة لأحوال الكبار فالصلاة تخفف لأجلهم: (إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير) الحديث، متفق عليه. وفي الصيام يرخص لهم في الإفطار حين عجزهم، ويكفيهم أن يطعموا عن كل يوم مسكينًا. وفي الحج يرخص لهم في إنابة من يحج عنهم، والحجاب المشروع يؤذن للمرأة الكبيرة في تركه وإن أُمرت به ص ﴿وَالقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللّاتي لا يَرجونَ نِكاحًا فَلَيسَ عَلَيهِنَّ جُناحٌ أَن يَضَعنَ ثِيابَهُنَّ غَيرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزينَةٍ ) [النور: ٦٠].
عباد الله: وفوق ما مضى فقد جاء في جملة آداب الإسلام، توقير الشيخ الكبير وجاءت الرحمة بالمرأة الكبيرة فذلك من إجلال الله.
أخرج البخاري في الأدب المفرد: (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم) قال النبي ﷺ: (ليس منّا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا) رواه الترمذي وإذا انتقلنا من النصوص النظرية إلى الواقع العملي في المجتمع الإسلامي فإننا نرى عجبًا في تقدير الكبار واحترامهم وقضاء حوائجهم، وحين كان رسول الله ﷺ القدوة في هذا الأدب، تسارع المسلمون للعناية بالكبار، وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدون. وفي (تاريخ عمر) لابن الجوزي أن عمر ﭬ خرج من سواد الليل، فرآه طلحة ﭬ فذهب عمر ﭬ فدخل بيتًا ثم دخل بيتًا آخر، فلمّا أصبح طلحة ﭬ ذهب إلى ذلك البيت فإذا عجوز عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجل الذي يأتيك؟ قالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى. وفي الجهاد تمثل قادة المسلمين الأدب والرحمة بالكبار فهذا خالد بن الوليد ﭬ يدرج في صلحه لأهل الحيرة رعاية الكبير، وقد جاء في صلحه معهم: (وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنيًا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين) وقد رأى بعض العلماء: أن الجزية لا تؤخذ من الشيخ الكبير الذي لا يستطيع العمل ولا شيء له.
وهكذا شمل أسلافنا رعاية الكبير في حال السلم والحرب، ومع المسلمين وغير المسلمين، ومع القريب والبعيد، والرجال والنساء، فهل ندرك عظمة هذا الأدب؟ وهل نتمثل هذه الرعاية وتلك الآداب؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿هَل جَزاءُ الإِحسانِ إِلَّا الإِحسانُ﴾ [الرحمن: ٦٠]، إن دين الإسلام أمر بالرعاية والإحسان، وعلمنا الأدب مع الكبار، وما أروع المجتمع الذي يرحم الكبير فيه الصغير، ويوقّر فيه الصغير الكبير، وما أجمل الشاب يأخذ بناصية الكبير يقبّله، ويأخذ بيد الضعيف والكفيف يوجّه مسيرته، ويجنبه المزالق، وآفات الطريق، وكم هو أدب جميل أن يستمع الصغار إلى حديث الكبار! ويحفظوا رصيد تجاربهم في الحياة، وكم هو أدب رفيع أن يُنادى الكبير بأحب الأسماء إليه! وأن يُكنّى بدل أن يُسمّى. إن من غير اللائق أن يكون التعريف بالكبير أو أن تكون مناداته أو السؤال عنه بكبير السن، وفي كتاب الله درس لهذه الأمة فقد ذكر المولى في كتابه كيفية مناداة إبراهيم الخليل ڠ لأبيه المشرك حيث إنه لم يقل یا والدي أو يا كبير السن، ونحو ذلك، بل اختار هذه اللفظة الرقيقة (يا أبت) قال الله -تعالى-: ﴿إِذ قالَ لِأَبيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعبُدُ ما لا يَسمَعُ وَلا يُبصِرُ وَلا يُغني عَنكَ شَيئًا﴾ [مريم: ٤٢].
أيها المسلمون: إن من الجميل جدًا أن لا يُتقدم قبل الكبير في الأكل والشرب والمشي وأجمل من ذلك أن تُغفر زلته، وأن يتجاوز عن خطئه، وأن لا يؤاخذ ببعض تصرفاته، وتقدير الكبير من آداب الإسلام، ومن جميل المكارم ومعالي الأخلاق.
أيها المؤمنون: وبتوقير الكبار عمومًا وبأي شكل من الأشكال تصفو الحياة، وتتحقق السعادة ويتمثل الناس حالة من البر والوفاء، ويشيع الإحسان، وتطمئن نفوس الأكابر. وفوق ذلك فالبر سلف، والإحسان محفوظ، ومن يفعل الخير لا يعدم جوازيه؛ وقد ورد عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (ما أكرم شاب شيخًا لسنّه إلا قيّض الله له من يكرمه عند كبر سنّه) رواه الترمذي.
أيها المسلمون: إننا مطالبون جميعًا برعاية الكبار وتقدير الشيوخ، ومراعاة أحوال ونفسيات الكبار.. فهل نستشعر ذلك في واقعنا العملي؟ وهل نتنافس في الإحسان؟ وهل نشيع ذلك في المجتمع كلّه عبر وسائل عدة؟ بالمحاضرات والندوات والخطب؛ وبحديث المجالس؛ وبطباعة المطويات المختصرة والتي تعنى بهذا الجانب وتأليف الكتب التي تدرس هذه الظاهرة وتؤصّلها ويمتد ذلك إلى وسائل الإعلام في برامج مسموعة ومرئية وفي أعمدة الصحف والمجلات؛ وفي القنوات الفضائية فرصة لعرض هذا الجانب المضيء من حضارتنا ومن المهم جدًا استغلال وسائل التواصل الاجتماعي وما أجمل أن تساهم مناهج تعليم البنين والبنات بالعناية بهذه القضية فينشأ ناشئ الفتيان والفتيات مغروس في قلبه وقلبها تقدير واحترام الكبير، والإحسان للوالدين. وكم هو جميل أن تزود الملتقيات العامة كالمدارس والمستشفيات والطرقات بملصقات تحمل عبارات التقدير والعطف على الكبير وإعطائه الأولية فيما يحتاج فيه للمساعدة؛ إشعارًا بقدره وتقديرًا لسنّه.
عباد الله: وأخيرًا يحق لنا أن نفاخر بعظمة ديننا، وشمول شريعتنا، وسمو آدابنا، في مقابل ما يسمى بالحضارة المادية وفيها - فيما نحن بصدده - سلوكيات يترفع عن سلوكها الحيوان الذي لا يعقل، ووقع فيها الإنسان حين غابت عنه شريعة السماء، وقد جاء في إحدى صحفنا المحلية نماذج من هؤلاء: مسن يبقى متوفيًا داخل شقته لمدة أربع سنوات ولم تكشف جثته إلا صدفة، وعجوز تموت جوعًا في شقتها بسبب ابنها الذي قطع عنها الماء والكهرباء والغاز حتى اكتشف الجيران أمرها!! وثالثة الأثافي - في  هذا المجتمع - أن هرمًا جاوز التسعين مات في دار خاصة بالمسنين ولم يعلم بموته إلا بعد خمسة أيام إلى غير ذلك من صور كثيرة في مجتمع حرم من الإيمان والأمان فلاحول ولا قوة إلا بالله.
 
***
 
المرفقات

1728541721_إكرام من طال بهم العمر.docx

المشاهدات 1121 | التعليقات 0