إِكْرَامُ كِبَارِ السِّنِّ وَاجِبٌ شَرْعِيٌّ.
أ.د عبدالله الطيار
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالمينَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ، وَأَشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلّا اللهُ وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ أحسنُ الخالقينَ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، خاتمُ النَّبِيِّينَ والمرسلينَ، صلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلهِ وصحبِهِ وَسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا إِلى يَوْمِ الدِّينِ أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ واعلمُوا أنَّكم مخلوقونَ، ولآجالِكُمْ سَائِرُونَ، ويومَ القيامَةِ تُبْعَثُونَ، وعَلَى رَبِّكُمْ تُعرَضُونَ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَُمون) البقرة: [281].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: يعيشُ المرءُ في الدُّنْيَا بَيْنَ مَرَاحِلَ ومنَازِلَ، وأَطْوَارٍ وَأَدْوَارٍ، جَعَلَهَا اللهُ عزَّ وجلَّ دليلًا على حِكْمَةِ الْخَالِقِ، وضَعْفِ المخْلُوقِ، قَالَ سُبْحَانَهُ: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً) الروم: [54] فبيَّنَ سبحانَهُ أنَّ الإنْسَانَ يُولَدُ ضَعِيفًا، وَهِيَ مَرْحَلَةُ الطُّفُولَةِ، ثُمَّ يَسْتَوِي شَيئًا فَشَيئًا حتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، وَتَسْتَوِي قَامَتُهُ، وَتَكْمُل قُوَّتُهُ، ثُمَّ يَعُودُ ضَعِيفًا، وهذَا الضَّعْفُ الأَخِيرُ ليسَ بعدهُ قُوَّةً، وهو ضعفُ الشَّيْبِ، ولذا خَتَمَهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: (وَشَيْبَةً).
عِبَادَ اللهِ: والشَّيْبُ في الإِسْلامِ لَهُ مَكَانَةٌ عَظِيمَةٌ، ومنزلةٌ فريدةٌ، فهو سَمْتُ الوَقَارِ وشَامَةُ الْحِكْمَةِ، وَمُوجِبٌ للإِكْرَامِ، قَالَ ﷺ: (إنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ إِكْرامَ ذي الشَّيبةِ المسلِمِ) أخرجه أبو داود: (4843) وصححه الألباني والشَّيْبُ في الإِسْلامِ نُورٌ لِصَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ ﷺ: (مَنْ شَابَ شيبةً في الإسلامِ كانت له نورًا يومَ القيامةِ) أخرجه ابن حبان (2983) وصححه.
أيُّهَا المؤمنُونَ: وَكَبِيرُ السِّنِّ لَهُ عِنْدَ اللهِ مَكْرَمَةٌ، وفي الإِسْلامِ شَرَفٌ وَمَنْزِلَةٌ، ولأَنَّ الشَّيْبَ قَرِينُ الضَّعْفِ، كَانَتْ الرَّحْمَةُ بِكِبَارِ السِّنِّ حَقًّا أَصِيلًا، وَوَاجِبًا أَكِيدًا، قَالَ ﷺ: (ليسَ منَّا من لَم يَرحَمْ صغيرَنا، ويعرِفْ حَقَّ كَبيرِنا) أخرجه أحمد (2733) وصححه الألباني في الترغيب (100).
عِبَادَ اللهِ: وَإِذَا كَانَتْ رِعَايَةُ كِبَارِ السِّنِّ وَإِجْلالُهِمْ وَاجِبٌ شَرْعِيٌّ، فَإِنًَّ الْعِنَايَةَ بِالْوَالِدَيْنِ فَرْضٌ عَيْنِيٌّ، وَإِذَا كَانَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قُرْبَةً وَطَاعَةً، فَإِنَّ ذَلِكَ حَالَ الْكِبَرِ أَشَدّ وَطْئًا، وَأَعْظَم أَجْرًا، وَالْقِيَامُ بِحَقِّهِمْ حَالَ الْكِبَرِ أَوْجَبُ، والتَّفْرِيطُ فِيهِ أقْبَحُ وَأَشْنَعُ، قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) الإسراء: [23-24].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَرِعَايَةُ الْوَالِدَيْنِ عِنْدَ الْكِبَرِ غَنِيمَةُ الأَبْنَاءِ، وَفُرْصَةُ النُّجَبَاءِ، لا يُوَفَّقُ لَهَا إلا مُوَفَّق مَيْمُونٌ، ولا يَغْفَلُ عَنْهَا إلا غَافِلٌ مَغْبُونٌ، قالَ ﷺ: (رَغِمَ أنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُهُ قيلَ: مَنْ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: مَن أدْرَكَ والِدَيْهِ عِنْدَ الكِبَرِ أحَدَهُما، أوْ كِلَيْهِما، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ) أخرجه مسلم (2551).
عِبَادَ اللهِ: والنَّاظِرُ في هَدْيِ النَّبِيِّ ﷺ يَجِدهُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِحَقِّ الْكَبِيرِ، ففي السُّنَنِ أنَّ أبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ جَاءَ بِأَبِيهِ أَبِي قُحَافَةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ ﷺ: (لو أقْرَرْتَ الشَّيْخَ في بَيْتِه لأتَيْنَاهُ) أخرجه الحاكم (5147) وابن حبان (5472) وصححه.
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَإِرْضَاءُ الْكَبِيرِ، وَجَبْرُ خَاطِرِهِ، والتَّلَطُّفُ مَعَهُ هَدْيٌ نَبَوِيٌّ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ في الصَّحِيحَينِ مِنْ حَدِيثِ المِسْوَرِ بْن مَخْرَمَةَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدِمَتْ عَلَيْهِ أُقْبِيَةٌ -أَنْوَاعٌ مِنَ الثِّيَابِ- فَقَالَ مَخْرَمَة -وَالِدُ مِسْوَر- انْطَلِقْ بِنَا إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ عَسَى أَنْ يُعْطِيَنا مِنْهَا شَيْئًا، فَقَامَ مَخْرَمَةُ عَلَى بَابِ النَّبِيِّ ﷺ، فَتَكَلَّمَ، فَعَرَفَ النَّبِيُّ ﷺ صَوْتَهُ، فَخَرَجَ ﷺ وَمَعَهُ قَبَاءٌ وهو يُرِيهِ مَحاسِنَهُ، ويَقُولُ: خَبَأْتُ هَذَا لَكَ، خَبَأْتُ هَذَا لَكَ، فَنَظَرَ النَّبِيُّ ﷺ إلَى مَخْرَمَةَ، فَقالَ: (رَضِيَ مَخْرَمَةُ) أخرجه البخاري (5800) ومسلم (1058).
عِبَادَ اللهِ: اعْلَمُوا أَنَّ الْعِنَايَةَ بِكِبَارِ السِّنِّ وَرِعَايَتَهم وحُسنَ صحبتِهم والقيامَ بحقِهم يعودُ على المجتمعِ بالخيرِ العميمِ، فهمْ أَهْلُ حِنْكَةٍ وَخِبرَةٍ، وتَجْرِبَةٍ ودِرَايَةٍ، وَمَعْرِفَةٍ بِبَوَاطِنِ الأُمُورِ؛ وَقَدْ عَرَكَتْهم الْحَيَاةُ، وَدَرَّبتْهُم الموَاقِفُ، وأَنَضَجَتْهمُ الأَحْدَاثُ، يَقُولُ ﷺ: (الْبَرَكةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ) رواه ابن حبان (559)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2884).
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَكَبِيرُ السِّنِ كُلَّمَا زَادَ اللهُ تعَالى في عُمُرِه كانَ ذلكَ خيرًا لَهُ؛ قَالَ ﷺ: (وَإنَّهُ لا يَزِيدُ المُؤْمِنَ عُمْرُهُ إلّا خَيْرًا) رواه مسلم (2682) ولمَّا سُئِلَ ﷺ عَنْ خَيْرِ النَّاسِ؟ قَالَ:(مَنْ طَالَ عُمرُهُ، وحَسُنَ عملُهُ) رواه الترمذي (2329)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2329).
عِبَادَ اللهِ: وَوُجُودُ كِبَارِ السِّنِّ في المجتمعِ سببٌ لِكَثرةِ الرِّزقِ وحلولِ البركةِ وتيسيرِ الأمورِ، وصرْفِ الفتنِ والمحَنِ والبلايَا عن البلادِ والعبادِ، قالَ ﷺ:(أبغُونِي ضُعَفَاءَكم فإنَّما تُرزَقونَ وتُنصَرونَ بِضُعَفائِكم) رواه الترمذي (1702)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1702).
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون) النحل:[97].
بَارَكَ اللهُ لي ولكم فِي الْوَحْيَيْنِ، وَنَفَعَنَي وَإِيَّاكُم بِهَدْيِ خَيْرِ الثَّقَلَيْنِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، وتوبوا إليه، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ ذِي الْجُودِ وَالإِحْسَانِ، وأَشْهَدُ ألا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، عَظِيم الشَّأْن، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا أمَّا بَعْـدُ: فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ حَقَّ كبيرِ السِّنِّ الَّذِي شَابَ شَعْرُهُ فِي الإِسْلامِ، أَنْ يُكْرَمَ وَلا يُهَان، وأَنْ يُحْتَمَل مَا يَصْدُرُ مِنْهُ وَيُعَانَ، ولا يَعْرِفُ حَقَّ الْكَبِيرِ، إلا مَنْ فَقِهَ دِينَهُ، وَحَسُنَ خُلُقُهُ، وَطَابَتْ نَفْسُهُ، وَكَمُلَ أَدَبُهُ؛ ولِيَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، ومَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّه،ِ إلا قَيَّضَ اللهُ منْ يُكْرِمُهُ عندَ كِبَرِ سِنِّهِ.
اللَّهُمَّ انْثُر الرَّحْمَةَ فِي قُلُوبِ المسْلِمِينَ، وَأَصْلِحْ شَبَابَهُمْ، وَارْحَمْ ضَعْفَ شُيُوخِهِمْ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ.
اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا المسْلِمِينَ المُسْتَضْعَفِينَ في كُلِّ مَكَانٍ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اَللَّهُمَّ أمِّنا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحَ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ الشريفينِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وخُذْ بِنَاصِيَتِهِ إِلَى اَلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْه وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ.
اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ.
اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّم عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
الجمعة 8/ / 4/ 1446هـ