إعصار ساندي
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
الحَمْدُ للهِ العَزِيزِ العَلِيمِ، الجَبَّارِ الحَكِيمِ؛ بَطْشُهُ شَدِيدٌ، فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، شَدِيدُ المِحَالِ، عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ؛ خَلَقَ الخَلْقَ بِقُدْرَتِهِ، وَيُمْهِلُهُمْ بِحِلْمِهِ، وَيَعْفُو عَنْهُمْ بِرَحْمَتِهِ، وَيُعَذِّبُهُمْ بِعَدْلِهِ؛ [وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا] {الكهف:49}، نَحْمَدُهُ حَمْدًا يَمْلَأُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا يَدْفَعُ نِقْمَتَهُ وَعَذَابَهُ، وَيَسْتَجْلِبُ رِضَاهُ وَآلاءَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ خَضَعَ المُؤْمِنُونَ لِعَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَاسْتَسْلَمُوا لِدِينِهِ وَشَرْعِهِ، وَأَذْعَنُوا لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَسَلَّمُوا بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ؛ فَسُعِدُوا فِي الدُّنْيَا بِرَاحَةِ القَلْبِ، وَطُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ؛ [وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ] {التغابن:11}، وَلَهُمُ الفَوْزُ الكَبِيرُ فِي الآخِرَةِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ كَانَ إِذَا تَغَيَّرَتِ السَّمَاءُ، وَهَاجَتِ الرِّيحُ لاَ يَقِرُّ لَهُ قَرَارٌ، وَلَا يَهْدَأُ لَهُ بَالٌ، يَخْشَى أَنْ يَكُونَ عَذَابًا، حَتَّى إِذَا مَطَرَتِ السَّمَاءُ، وَانْقَشَعَ الغَمَامُ، وَهَدَأَتِ الرِّيحُ سَكَنَتْ نَفْسُهُ، وَاطْمَأَنَّ قَلْبُهُ، وَاسْتَبْشَرَ بِرَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَعَظِّمُوهُ كَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَظَّمَ، وَاعْبُدُوهُ حَقَّ عِبَادَتِهِ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ؛ فَقَدْ دَلَّتْ دَلاَئِلُ الخَلْقِ وَالوَحْيِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَدَلَّتْ آيَاتُهُ الكَوْنِيَّةُ، وَأَيَّامُهُ فِي الأُمَمِ السَّالِفَةِ عَلَى شِدَّةِ بَطْشِهِ، وَسُرْعَةِ عِقَابِهِ، وَأَلِيمِ عَذَابِهِ؛ [سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] {فصِّلت:53}.
أَيُّهَا النَّاسُ: لِرَبِّنَا سُبْحَانَهُ وتَعَالَى أَفْعَالٌ وَمَقَادِيرُ فِي خَلْقِهِ يَجْهَلُ الخَلْقُ عِلَلَهَا، وَلاَ يُحِيطُونَ بِحِكَمِهَا، أَفْعَالٌ فِي الإِنْسِ وَالجِنِّ وَالحَيَوَانِ، وَفِي الكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، وَأَفْعَالٌ فِي الأَفْرَادِ وَالجَمَاعَاتِ، وَأَفْعَالٌ فِي الدُّوَلِ وَالأُمَمِ، مَقَادِيرُ خَاصَّةٌ بِأَشْخَاصٍ، وَمَقَادِيرُ عَامَّةٌ عَلَى النَّاسِ؛ فَيُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ، وَيَرْفَعُ وَيَضَعُ، وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيُعَافِي وَيَبْتَلِي، وَيُؤْتِي المُلْكَ مَنْ يَشَاءُ، وَيَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ؛ [كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ] {الرَّحمن:29}، فَهَذَا مِنْ شَأْنِهِ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ.
وَالخَلْقُ كُلُّ الخَلْقِ لاَ يَعْلَمُونَ مِنْ فِعْلِهِ وَقَدَرِهِ وَأَمْرِهِ وَشَرْعِهِ وَخَبَرِهِ إِلاَّ مَا عَلَّمَهُمْ بِوَحْيِهِ، أَوْ دَلَّهُمْ عَلَيْهِ بِخَلْقِهِ، عَرَفَ ذَلِكَ عَنْهُ مَلاَئِكَتُهُ المُقَرَّبُونَ، وَأَنْبِيَاؤُهُ المُرْسَلُونَ، وَعِبَادُهُ الصَّالِحُونَ؛ فَسَلَّمُوا وَاسْتَسْلَمُوا، وَأَذْعَنُوا وَقَبِلُوا، وَأَيْقَنُوا وَآمَنُوا، وَقَالُوا: [رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] {آل عمران:191}، وَلَمْ يُحَادُّوا اللهَ تَعَالَى فِي أَمْرِهِ، وَلَم يُنَاكِفُوهُ فِي فِعْلِهِ، وَلَمْ يَسْعَوْا فِي كَشْفِ قَدَرِهِ، وَلَمْ يَتَكَلَّفُوا مَعْرِفَةَ عِلَلِ أَفْعَالِهِ، فَقَالَ المَلاَئِكَةُ -عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ-:[سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ] {البقرة:32}، وَقَالَ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ: [لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ] {المائدة:109}، وَقَالَ أَوَّلُ الرُّسُلِ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: [رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ]{هود:47}، وَقَالَ المَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: [تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ] {المائدة:116}، وَقَالَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَائِهِ: "اللهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي"؛ رَوَاهُ أَحْمَدُ.
تَأَمَّلُوا هَذَا الدُّعَاءَ العَظِيمَ حِينَ يَتَوَسَّلُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى اللهِ تَعَالَى بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ فِي اخْتِيَارِ مَا هُوَ أَحْسَنُ لَهُ: الحَيَاةُ أَوِ المَوْتُ، مَعَ أَنَّ بَنِي آدَمَ يَكْرَهُونَ المَوْتَ، وَيَفِرُّونَ مِنْهُ، فَهُوَ تَوَسَّلَ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ فِي أَخْطَرِ خِيَارٍ لِلْإِنْسَانِ وَهُوَ الخِيَارُ بَيْنَ الحَيَاةِ وَالمَوْتِ.
وَإِذَا كَانَ الإِنْسَانُ يَجْهَلُ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ فِي نَفْسِهِ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ، وَفِي أَخْطَرِ قَضِيَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِهَا؛ فَأَنَّى لَهُ أَنْ يُحِيطَ بِحِكَمِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، أَوْ يُدْرِكَ عِلَلَ أَفْعَالِهِ عَزَّ وَجَلَّ؟!
وَفِي قِصَّةِ مُوسَى مَعَ الخَضِرِ عَلَيْهِما السَّلاَمُ [قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا] {الكهف:66-68}.
فَخَرَقَ الخَضِرُ السَّفِينَةَ فَاعْتَرَضَ مُوسَى، ثُمَّ قَتَلَ الغُلاَمَ فَاشْتَدَّ اعْتِرَاضُ مُوسَى، ثُمَّ أَقَامَ الخَضِرُ الجِدَارَ فَاحْتَجَّ مُوسَى وَهُوَ نَبِيُّ اللهِ الكَلِيمُ، وَلَكِنْ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ الحِكْمَةَ كَانَتْ تَقْتَضِي خَرْقَ السَّفِينَةِ وَقَتْلَ الغُلاَمِ وَإِقَامَةَ الجِدَارِ؛ وَلِذَا قَالَ الخَضِرُ فِي خِتَامِ القِصَّةِ: [وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي] {الكهف:82}، فَكَانَ فِي عِلْمِ اللهِ تَعَالَى مَا لَيْسَ فِي عِلْمِ مُوسَى، وَكَانَتْ هَذِهِ الأَفْعَالُ الَّتِي اسْتَنْكَرَهَا مُوسَى بِسَبَبِ عَدَمِ عِلْمِهِ بِأَسْبَابِهَا وَعِلَلِهَا هِيَ الصَّوَابَ، وَكَانَ إِنْكَارُ مُوسَى لَهَا خَطَأً.
إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ زَاغَ قَلْبُهُ، وَعَمِيَتْ بَصِيرَتُهُ، وَاسْتَكْبَرَ عَنِ التَّسْلِيمِ وَالانْقِيَادِ لِرَبِّهِ سُبْحَانَهُ؛ فَأَرَادَ بِضَعْفِهِ وَعَجْزِهِ، وَمَحْدُودِ مَكَانِهِ وَزَمَانِهِ، وَقِلَّةِ عِلْمِهِ وَإِدْرَاكِهِ، أَرَادَ أَنْ يَكْشِفَ عِلَلَ اللهِ تَعَالَى فِي أَفْعَالِهِ، وَيَطَّلِعَ عَلَى أَسْرَارِهِ فِي أَقْدَارِهِ، وَلَوْ كَانَتْ مَطْوِيَّةً عَنِ البَشَرِ، مَحْجُوبَةً عَنِ الخَلْقِ، قَدِ اسْتَأْثَرَ الخَالِقُ سُبْحَانَهُ بِعِلْمِهَا، فَاعْتَرَضَ المَفْتُونُ عَلَيْهَا، وَنَثَرَ مَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الحَيْرَةِ وَالزَّيْغِ وَالشَّكِّ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَمْ يَسْتَعْظِمْ جَرَيَانَهُ عَلَى لِسَانِهِ، وَتَسْطِيرَهُ بِقَلَمِهِ، وَلَقَدْ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى الإِنْسَانَ بِثَلاَثَةِ أَوْصَافٍ كَانَتْ كَفِيلَةً بِأَنْ يَعْرِفَ الإِنْسَانُ قَدْرَهُ، وَلاَ يُجَاوِزَ حَدَّهُ، وَيَجْتَهِدَ فِي تَعْظِيمِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ، وَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى بِالضَّعْفِ وَالجَهْلِ وَالظُّلْمِ؛ [وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا] {النساء:28}، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: [إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا] {الأحزاب:72}.
تَبًّا لِهَذَا الإِنْسَانِ الضَّعِيفِ الظَّلُومِ الجَهُولِ حِينَ يُرِيدُ مُحَاكَمَةَ أَفْعَالِ اللهِ تَعَالَى إِلَى عَقْلِهِ القَاصِرِ الَّذِي يَجْهَلُ كَثِيرًا مِنْ أَسْرَارِ نَفْسِهِ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ، وَلاَ يُحِيطُ عِلْمًا بِأَحْدَاثِ اللَّحْظَةِ الَّتِي يَعِيشُهَا، فَضْلاً عَنْ إِحَاطَتِهِ بِأَحْدَاثِ الزَّمَانِ كُلِّهِ وَالعَالَمِ كُلِّهِ.
هَذَا الإِنْسَانُ الظَّلُومُ الجَهُولُ يُرِيدُ بِجَهْلِهِ المَاحِقِ أَنْ يُصَادِرَ حِكْمَةَ اللهِ تَعَالَى فِي أَفْعَالِهِ، وَيُرِيدُ بِظُلْمِهِ أَنْ يَنْفِيَ عِلَّتَهَا.
إِنَّه بِجَهْلِهِ وَظُلْمِهِ وَضَعْفِهِ يَعْتَرِضُ عَلَى أَفْعَالِ الخَلاَّقِ العَلِيمِ الحَكِيمِ القَدِيرِ؛ [أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] {الملك:14}، [إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا] {طه:98}.
أَنَّى لِلْإِنْسَانِ مَهْمَا بَلَغَتْ قُوَّتُهُ، وَكَثُرَتْ عُلُومُهُ، وَأَزْهَرَتْ حَضَارَتُه؟! أَنَّى لَهُ أَنْ يُحَاكِمَ أَفْعَالَ اللهِ تَعَالَى إِلَى جَهْلِهِ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُؤْتَ مِنَ العِلْمَ إِلاَّ قَلِيلاً، وَكَلِمَاتُ اللهِ تَعَالَى لاَ تَنْفَدُ، وَأَفْعَالُهُ سُبْحَانَهُ مِنْ آثَارِ كَلِمَاتِهِ؛ [وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] {البقرة:117}، [قُلْ لَوْ كَانَ البَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا] {الكهف:109}.
عَجَبًا لِمَنْ عَاشَ فِي الجَهْلِ، وَتَقَلَّبَ فِي الظُّلْمِ، وَوُلِدَ لاَ يَعْلَمُ شَيْئًا فَعَلَّمَهُ اللهُ تَعَالَى مَا جَهِلَ ثُمَّ يَكْفُرُ نِعْمَةَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ بِمَا عَلَّمَهُ، فَيُرِيدُ مُحَاكَمَةَ أَفْعَالِ اللَّطِيفِ الخَبِيرِ الخَلاَّقِ العَلِيمِ إِلَى جَهْلِهِ وَظُلْمِهِ وَضَعْفِهِ.
إِنَّ عِلْمَ اللهِ تَعَالَى ذَاتِيٌّ أَزَلِيٌّ، وَلَيْسَ مُكْتَسَبًا كَعِلْمِ البَشَرِ أَوْ مَوْهُوبًا مِنَ الغَيْرِ؛ كَمَا آتَى اللهُ تَعَالَى رُسُلَهُ العِلْمَ، وَعَلَّمَهُمُ الحِكْمَةَ، وَزَوَّدَهُمْ بِالوَحْيِ؛ فَاللهُ تَعَالَى كَانَ عَلِيمًا وَلَمْ يَزَلْ عَلِيمًا، وَهُوَ سُبْحَانَهُ فِي عِلْمِهِ مُسْتَغْنٍ عَنِ الخَلْقِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ فِي عِلْمِهِ إِلَيْهِمْ، كَيْفَ وَهُوَ الَّذِي عَلِمَ كُلَّ شَيْءٍ عَنْهُمْ قَبْلَ خَلْقِهِمْ، وَعِلْمُهُ سُبْحَانَهُ كُلِّيٌّ شَامِلٌ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، خُلِقَ أَمْ لَمْ يُخْلَقْ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ حَكِيمٌ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا عَبَثًا، وَلاَ لِغَيْرِ مَعْنًى وَمَصْلَحَةٍ وَحِكْمَةٍ, فَأَفْعَالُهُ سُبْحَانَهُ صَادِرَةٌ عَنْ حِكْمَةٍ بَالِغَةٍ لِأَجْلَهَا فَعَلَ, وَقَدْ دَلَّ كَلاَمُهُ وَكَلامُ رَسُولِهِ عَلَى هَذَا فِي مَوَاضِعَ لاَ تَكَادُ تُحْصَى مِنْ كَثْرَتِهَا.
وَمِثْلُ هَذَا التَّأْصِيلِ المُهِمِ يَجِبُ تَقْرِيرُهُ حَالَ وُقُوعِ الكَوَارِثِ وَالأَعَاصِيرِ الَّتِي تَجْتَاحُ المُدُنَ، فَتُصِيبُ البَشَرَ، وَيَمُوتُ فِيهَا الأَطْفَالُ وَالحَيَوَانُ، وَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ، وَيُشَرَّدُ الضُّعَفَاءُ، وَلَوْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ؛ فَهِيَ كَوَارِثُ دَائِرَةٌ عَلَى مَنْ أُصِيبُوا بِهَا بَيْنَ الابْتِلاَءِ وَالعَذَابِ؛ فَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ قَائِمِينَ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى فَهِيَ ابْتِلاَءٌ لَهُمْ، وَتَكْفِيرٌ لِسَيِّئَاتِهِمْ، وَرِفْعَةٌ لِدَرَجَاتِهِمْ، وَإِنْ أَصَابَتْ كُفَّارًا أَوْ فُجَّارًا يُبَارِزُونَ اللهَ تَعَالَى فِي مُلْكِهِ، وَيُحَادُّونَهُ فِي حُكْمِهِ، وَلاَ يَخْضَعُونَ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ فَهِيَ عَذَابٌ عَلَيْهِمْ كَمَا عُذِّبَتِ الأُمَمُ الَّتِي قَبْلَهُمْ.
وَلاَ يَحِلُّ نِسْبَةُ هَذِهِ الكَوَارِثِ لِأَسْبَابٍ أَرْضِيَّةٍ بَحْتَةٍ دُونَ مُلاَحَظَةِ قَدَرِ اللهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ، وَلاَ يُعْتَرَضُ عَلَيْهَا فَيُقَالُ فِيهَا: مَا ذَنْبُ الأَطْفَالِ وَالحَيَوَانِ؟ وَمَا ذَنْبُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَ اللهِ تَعَالَى لاَ تَصْدُرُ إِلاَّ عَنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ، وَمِنْ شُكْرِ اللهِ تَعَالَى عَلَى نِعْمَةِ العِلْمِ اليَقِينُ بِحِكْمَتِهِ فِي الفِعْلِ؛ [وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] {النحل:78}، جَعَلَنَا اللهُ تَعَالَى مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَنَظَمَنَا فِي سِلْكِ المُوقِنِينَ، وَجَنَّبَنَا طُرُقَ الزَّائِغِينَ وَالمُلْحِدِينَ، اللَّهُمَّ آمِينَ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ [وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] {آل عمران:131-132}.
أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ أَوَّلَ الحَقَائِقِ الوَاجِبِ مَعْرِفَتُهَا وَالتَّذْكِيرُ بِهَا حِينَ وُقُوعِ الكَوَارِثِ: أَنَّهُ لاَ يَقَعُ فِي هَذَا الكَوْنِ حَادِثٌ صَغِيرٌ وَلاَ كَبِيرٌ، مِمَّا يَفْرَحُ لَهُ النَّاسُ أَوْ يَحْزَنُونَ أَوْ يَتَفَرَّقُونَ فِيهِ، إِلاَّ بِقَدَرٍ سَابِقٍ سَطَّرَهُ القَلَمُ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ -وَعَرْشُ الرَّحْمَنِ عَلَى المَاءِ- مُطَابِقًا لِعِلْمِ العَلِيمِ الحَكِيمِ، الَّذِي لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ، فَلاَ تَهْمِسُ شِفَةٌ، وَلاَ تَنْزِلُ قَطْرَةٌ، وَلاَ تَسْتَقِرُّ ذَرَّةٌ، إِلاَّ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ، عَلِمَ مَنْ عَلِمَ، وَجَهِلَ مَنْ جَهِلَ، وَرَضِيَ مَنْ رَضِيَ، وَغَضِبَ مَنْ غَضِبَ، وَمِنْ هُنَا أَخْرَسَ العَارِفُونَ أَلْسِنَتَهُمْ عَنِ السُّؤَالِ وَالاعْتِرَاضِ، وَأَخْبَتَتْ قُلُوبُهُمْ لِأَحْكَامِ القَضَاءِ، وَهَانَ عَلَيْهِم الصَّبْرُ عَلَى البَلاَءِ، وَالشُّكْرُ عَلَى السَّرَّاءِ، وَزَادُوا عَلَى الإِيمَانِ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى [لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] {الأنبياء:23}.
وَالإِعْصَارُ الَّذِي ضَرَبَ دَوْلَةَ البَغْيِّ وَالظُّلْمِ وَالاسْتِكْبَارِ هَذَا الأُسْبُوعَ لاَ يَخْرُجُ عَنْ قَدَرِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ عَذَابٌ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ العَذَابَ مِنَ الكُفَّارِ وَالظَّلَمَةِ وَالمُسْتَكْبِرِينَ مِمَّنْ أَصَابَهُمْ وَهُمُ الأَكْثَرُ، وَيَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِمَا أَصَابَهُمْ؛ لِأَنَّهُ يُشْرَعُ الدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ لِكُفْرِهِمْ وَظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ، فَإِذَا أَصَابَهُمْ بَعْضُ مَا دُعِيَ عَلَيْهِمْ بِهِ كَانَ الفَرَحُ بِهِ مَشْرُوعًا مِنْ بَابِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ بِعَذَابِ الظَّالِمِينَ أَعْظَمُ أَثَرًا مِنْ مُجَرَّدِ الفَرَحِ بِهِ، فَإِذَا شُرِعَ الدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ شُرِعَ مَا هُوَ دُونَهُ وَهُوَ الفَرَحُ بِمُصَابِهِمْ. وَكَيفَ لَا يُفْرَحُ بِمُصَابِ مَنْ شَتَمُوا النَّبِيَّ صَلَى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بَأَفْلَامِهِم، وَدَافَعُوا عَنْ شَاتِمِيهِ بِحُجَّةِ حُرِّيَةِ الرَأْيِّ التِي يُصَادِرُونَهَا إِنْ مُسَّ بِهَا اليَهُودُ؟ وَكَيفَ لَا يُفْرَحُ عَلَى مَنْ آذَوُا المُسلِمِينَ فِي رَبِّهِمْ وَنَبِيِّهِمْ وَدِينِهِمْ، وَرَامُوا تَبْدِيلَهُ بِقَانُونِ الطَاغُوتْ، وَفَرَضُوا إِفسَادَ نِسَاءِ الأُمَّةِ عَلَى سَاسَةِ الأُمَّةِ، وَآذُوا المُسْلِمِينَ فِي إِخْوَانِهِمْ فَقَتَّلُوهُمْ وَأَسَرُوهُمْ وَعَذَّبُوهُمْ؟! وَمَنْ شَكَّ فِي مَشْرُوعِيةِ الفَرَحِ عَلَيهِمْ فَلْيَتَفَقَدْ إِيمَانَهُ، وَلْيَسْعَ فِي إِصْلَاحِ قَلْبِهِ وَتَنْقِيَتِهِ مِنَ الوَلَاءِ لِغَيرِ الله تَعَالَى.
وَهُذَا الإِعْصَارُ ابْتِلاَءٌ لِمَنْ أَصَابَ مِنَ المُؤْمِنِينَ الطَّائِعِينَ، وَيَحْزَنُ المُؤْمِنُونَ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ مُصَابِهِمْ، وَيُدْعَى لَهُمْ بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ، وَلَيْسَ ثَمَّةَ مَا يَمْنَعُ مِنَ اجْتِمَاعِ الفَرَحِ وَالحُزْنِ فِي الكَارِثَةِ الوَاحِدَةِ لِاخْتِلاَفِ مَحِلِّ الفَرَحِ وَالحُزْنِ.
وَأَهَمُّ مِنَ الفَرَحِ وَالتَّشَفِّي بمَا يُصِيبُ المُحَادِّينَ للهِ تَعَالَى فِي شَرْعِهِ، المُجَاهِرِينَ بِحَرْبِهِ، الظَّالِمِينَ لِعِبَادِهِ النَّظَرُ إِلَى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى فِي هَذَا الحَدَثِ العَظِيمِ، وَمَلْءِ القَلْبِ بِمَحَبَّتِهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، فَهَا هِيَ أَقْوَى دُوَلِ الأَرْضِ تَعْجِزُ عَنْ رَدِّ جُنْدِيٍّ وَاحِدٍ مِنْ جُنُودِ اللهِ تَعَالَى؛ [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ] {المدَّثر:31}، فَتَتَرَقَّبُهُ وَتَنْتَظِرُهُ وَلاَ تَسْتَطِيعُ إِيقَافَهُ وَلاَ تَخْفِيفَهُ، وَتَتَجَرَّعُ أَلَمَ خَسَائِرِهِ وَهِيَ تَنْظُرُ عَاجِزَةً حَسِيرَةً.
لَمْ تَنْفَعْهَا بِوَارِجُهَا الَّتِي مَخَرَتِ المُحِيطَاتِ، وَلَا طَائِرَاتُهَا وَصوَارِيخُهَا الَّتِي أَرْهَبَتِ العَالَمَ، وَقَدْ سَحَقَتْ بِهَا الضُّعَفَاءَ فِي أَفْغَانِسْتَانَ وَالعِرَاقِ، وَخَلَّفَتْ فِي كُلِّ بَيْتٍ مُصِيبَةً، هَا هِيَ تُضْرَبُ بِالذُّلِّ وَالعَجْزِ وَالذُّعْرِ فِي سَاعَاتٍ خَسِرَتْ خِلاَلَهَا عَشَرَاتِ المِلْيَارَاتِ، وَتَوَقَّفَتْ حَرَكَةُ الطَّيَرَانِ فِي مَدِينَةٍ كَانَتْ تَعُجُّ سَمَاؤُهَا بِالطَّائِرَاتِ، وَشُلَّتْ حَرَكَةُ النَّقْلِ، وَعَانَى المَلاَيِينُ مِنَ انْقِطَاعِ الكَهْرُباَءِ الَّذِي هُوَ ضَرُورَةٌ فِي هَذَا العَصْرِ، وَرَأَى العَالَمُ آثَارَ الحُطَامِ وَالدَّمَارِ، وَأَصْبَحَتِ المَدِينَةُ النَّشِطَةُ بِالحَرَكَةِ، المَلِيئَةُ بِالبَشَرِ خَالِيَةً مَهْجُورَةً، وَأَعْلَنَ زَعِيمُهُمْ حَالَةَ "الكَارِثَةِ الكُبْرَى"؛ فَمَا أَعْظَمَ اللهَ تَعَالَى! وَمَا أَضْعَفَ البَشَرَ! وَمَا أَشَدَّ انْتِقَامَهُ سُبْحَانَهُ! وَمَا أَعْجَزَ المُسْتَكْبِرِينَ وَأَذَلَّهُمْ وَأَحْقَرَهُمْ وَأَضْعَفَهُمْ وَلَوْ أَرْهَبُوا الدُّوَلَ، وَأَخَافُوا النَّاسَ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لِكُلِّ ظَالِمٍ بِالمِرْصَادِ؛ [وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] {هود:102}، [وَتِلْكَ القُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا] {الكهف:59}، [وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ] {الأنبياء:11}، [فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ] {الحج:45}.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ.
المرفقات
إعصار ساندي.doc
إعصار ساندي.doc
إِعْصَارُ سَانْدِي.doc
إِعْصَارُ سَانْدِي.doc
المشاهدات 6575 | التعليقات 14
بارك الله فيك على هذة الخطبة الموفقة
زادك علما واصلح ذريتك ...وتقبل مرورري
وتقبل الله منا ومنكم..
نفع الله بكم ورفع قدركم !
شكر الله لك شيخنا الكريم .... واذا كان بالامكان ان تضمن الخطبة ماحدث صباح اليوم من انفجار ناقلة الغاز بأسلوبك الجميل نفع الله بك وسدد خطاك
جزاك الله خيرا
إعصار ساندي.. عظة وعبرة 02/11/2012
الْحَمْدُ للهِ الذي بث في الكون الكثير من الآيات والعبر، فغفل عنها من غفل وتنبه لها أولوا الأبصاروالنظر، نحمده سبحانه ونشكره أن تكفل بحفظ عباده الصالحين من الشرور والخطر، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يرتجى، ولا ند ينتظر، ونشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله شهد بنبوته ورسالته الإنس والجآن والحجر والشجر، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما تقطر من السماء مطر، وما تفتح على الأغصان زهر.. أَمَّا بَعْدُ: فأوصيكم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فإن آياته في خلقه عظيمة، يراها العباد في السموات وفي الأرض وفي أنفسهم، وكلها دلائل على عظمة الله تعالى وقدرته، وعلمه وإحاطته، وعجيب صنعه وتقديره، {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ، وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا، وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ}، {وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ، فَأَيَّ آيَاتِ اللهِ تُنْكِرُونَ}، أيها المسلمون، في هذه الأيام توالت على بعض البلاد رياح شديدة تأذى منها الناس وتضرروا، ولا تزال إلى الآن تهبّ ريح عاتية بأمر ربها، وأصبح القوم أضعف ما يكونون يتوارون في سيّاراتهم أو يكنّون في منازلهم، ومع ذلك أصابهم ما أصابهم، حاصرهم الموت وهم مختفون، ودخل إلى مساكنهم وإن كانوا لها محكمين، ونحن البشر والله ضعفاء، الله عزوجل لما أرسل هذه العاصفة عليهم عدلا منه جل وعلا، إنما أرسل جزءا يسيرا لا يعدّ ولا يذكر من جند الريح.. ربنا سبحانه لما أرسل على عاد الريح العقيم، ما أرسل عليهم جل وعلا ـ كما ثبت في سنن الترمذي- إلا مثل فتحة الخاتم من هذه الجند، وهم لما هبت هذه الريح أغلق الواحد منهم على نفسه أبوابه وشبابيكه، وحصن داره ودكانه، ولولا فضل الله عزوجل لهلكوا جميعا، كما أهلك الله عادا الأولى. عباد الله، لقد بان عجز الإنسان الضعيف عن ردها ودفع ضررها، حتى بإغلاق الأبواب والنوافذ في وجهها! إنها نذر، ولكن أين المعتبرون؟! وآيات، ولكن أين المؤمنون؟! فلنتق الله عز وجل.. ما أهون الخلق على الله! وما أعظم قدرة الله! تختلّ برامجهم لأدنى حدث كوني. وهذه- أيها المسلمون- وقفات وحقائق وتوجيه ينبغي على المسلمين جميعا أن يتفكروا فيها، ويعيدوا النظر في مجموعها، ويستفيدوا منها في التعامل مع الكوارث والعواصف والمحن المتتابعة التي تتعرض لها البشرية كل يوم في أنحاء المعمورة؛ فالمسلم ليس كغيره من البشر، فهو يعبد ربّا واحدا مدبرا عزيزا حكيما في قضائه وتقديره، وأخذه وعطائه، يبتلي عباده بالسراء والضراء، ويرسل من الآيات والعبر ما يؤدب به المجرمين، ويُطمئِن به المؤمنين، وهو فوق هذا وذاك، مأمور بالاستقامة وترك الغفلة والمعصية والتقلل من الدنيا والاستعداد للآخرة، وأخذ العبر والدروس، من أحوال الأمم والشعوب. ألا ما أكثر العبر و أقل الاعتبار! ألا ما أشد قسوة القلوب وغفلة العباد عن علام الغيوب وعن آياته وقدرته! والأخطار الجسيمة تحيط بهم من كل جانب، والفساد ظهر في البر والبحر، وربّنا يذكّرنا بآياته الدائمة والطارئة الدالة على قدرته وأفول خلقه؛ لعلنا نرجع مما نحن فيه، {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. أيها المسلمون، إن المعاصي سبب الكوارث والعواصف والرياح والمحن، وطريق التعاسة والشقاء، ما حلت في ديار إلا أهلكتها وأضعفتها، ولا فشت في مجتمعات إلا دمرتها وأزالتها، وما أهلك الله أمة من الأمم إلا بذنب ومعصية، فكم دعانا القرآن الكريم إلى الاعتبار بما حلّ بمن قبلنا وبمن حولنا لنتعظ ونقف عند حدود الله فلا نتعداها:{ فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ، وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون}. فتأمل ذلك المشهد المفزع في كتاب الله، يرسمه لينظر إليه من أراد العبرة:{ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ، تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِر، فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ}، فسبحان من قدَّر ذلك عليهم! وسبحان من خوَّف عباده وأنذرهم بالنذر والآيات! { وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاّ تَخْوِيفًا}. وكل هذه وقعت ولا تزال تقع رأي العين في مشارق الأرض ومغاربها. أيها المسلمون، إن الريح جند من جنود الله تعالى التي لا يقاومها شيء، فإذا خرجت عن سرعتها المعتادة بإذن ربها دمرت المدن وهدمت المباني، واقتلعت الأشجار وصارت عذابا على من حلت بدارهم. فلما عتا قوم عاد وقالوا:{ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}. أرسل الله عليهم الريح العقيم، فقال جل وعلا:{ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ، مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ}. قال البغوي: هي التي لا خير فيها ولا بركة، ولا تلقح شجرا ولا تحمل مطرا، ما تذر من شيء أتت عليه من أنفسهم وأنعامهم ومواشيهم وأموالهم إلا جعلته كالرميم؛ أي: كالشيء الهالك البالي، وهو نبات الأرض إذا يبس وديس. قال مجاهد: كالتبن اليابس. وقد سماها الله تعالى: عَاتِيَةٍ في قوله:{ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}، قال المفسرون: عتت عليهم بغير رحمة ولا بركة. وقيل: عتت على الخزنة فخرجت بغير حساب. كيف لا وهي جند من جنود الله ينصر بها من يشاء من عباده المؤمنين كما حصل في غزوة الخندق؟! قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا، وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا، وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}. روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: هي الصبا كفأت قدورهم، ونزعت - خيامهم ـ حتى أظعنتهم. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله : " نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ"، والصبا: هي الريح الشرقية، والدبور: هي الريح الغربية. وَقِيلَ: "إِنَّ الصَّبَا هِيَ الَّتِي حَمَلَتْ رِيح قَمِيص يُوسُف إِلَى يَعْقُوب قَبْل أَنْ يَصِل إِلَيْهِ" . وعن عائشة قالت: كان رسول الله إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سرّ به، وذهب عنه ذلك، قالت عائشة: فسألته، فقال: "إني خشيت أن يكون عذابا سلط على أمتي" رواه مسلم. وكان النبي إذا عصفت الريح قال: (اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به) رواه مسلم. وقد قال الله عن"عاد" عندما أرسل عليهم الريح:{ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا، بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ، رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}، فلم يظنوا في السحابة التي أظلتهم سوى أنها ظاهرة كونية قد تتسبب في نزول المطر، خاصة وأنهم كانوا ممحلين محتاجين إلى المطر، ولكن لم تكن هذه الغمامة سوى العذاب. ونقل ابن كثير في تفسيره عن عبد الله بن عمرو قال: ( الرياح ثمانية: أربعة منها رحمة، وأربعة منها عذاب، فأما الرحمة: فالناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات، وأما العذاب: فالعقيم والصرصر وهما في البر، والعاصف والقاصف وهما في البحر، فإذا شاء سبحانه وتعالى حركه بحركة الرحمة؛ فجعله رخاء ورحمة وبشرى بين يدي رحمته، ولاقحا للسحاب تلقحه بحمله الماء، كما يلقح الذكر الأنثى بالحمل، وإن شاء حركه بحركة العذاب؛ فجعله عقيما، وأودعه عذابا أليما، وجعله نقمة على من يشاء من عباده؛ فيجعله صرصرا وعاتيا ومفسدا لما يمر عليه). عباد الله، كما أن الرياح جند من جنود الله يسلطها على من يشاء فإنها أيضا خلق من خلق الله يسخرها لمن يشاء من عباده، قال المولى تبارك وتعالى: { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا، وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ}، وقال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ، وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}. قال قتادة: " تغدو مسيرة شهر إلى نصف النهار، وتروح مسيرة شهر إلى آخر النهار؛ فهي تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين". إن كثيرا من الدول والأمم والمجتمعات غالبا ما تضرب لهذه الرياح والأعاصير ألف حساب؛ فتقرأ الأحوال الجوية وتتنبأ بوقت ومكان حدوثها، وتتخذ من أجلها الاحتياطات، وتشغيل الإنذارات، وتجهيز الملاجئ. ومع ذلك كله لا تتجاوزهم إلا بخسائر فادحة في الأرواح والأموال والممتلكات. وإنه مما ينبغي ـ يا عباد الله ـ الحذر منه هو نسبة هذه الظواهر إلى الطبيعة كما يسميها بعضهم: "غضب الطبيعة"! ويقول آخرون: "إن هذه ظواهر طبيعية، لها أسباب معروفة، لا علاقة لها بأفعال الناس ومعاصيهم"! وجرى ذلك على الألسنة حتى صار الناس لا يخافون عند حدوثها، ولا يعتبرون بها. أيها المسلمون، إن من الناس من يتذمر عندما يرى الريح أوالغبار، وربما تطاول فسبها وشتمها! وهذا أمر قد نهى عنه رسول الله حيث قال: ( لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به) رواه الترمذي، وقال : ( لا تسبوا الريح؛ فإنها من روح الله تعالى، تأتي بالرحمة والعذاب، ولكن سلوا الله من خيرها، وتعوذوا بالله من شرها) رواه أحمد. فلنتق الله تعالى أيها المسلمون، ولنأخذ بأسباب النجاة؛ فإن هلاك الإنسان ونجاته مقيد بما كسبت يداه، ولنعتبر بمن حولنا، ولنتعظ بما يجري بالأقوام من غيرنا، كان عبد الله بن مسعود يحدث في المسجد، يقول: ( إن الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره). نسأل الله عزوجل أن يجعلنا من الذين إذا وعظوا اتعظوا، وإذا أذنبوا استغفروا، وإذا ابتلوا صبروا، إنه سميع مجيب، قريب رقيب.. (آمين) وَأقُولُ قَوْلي هَذَا..
الْحَمْدُ للهِ، جرَت بالأقدار أقلامُه، ومضَت في الخلائق أحكامُه، نحمده سبحانه ونشكره شكرًا يزيد به فضلُ ربّنا وإِنعامه، ونشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له شهادةَ حقٍّ ويقين يزول بها عن القلبِ غِشاوته وظلامُه، ونشهد أنّ سيّدَنا ونبينا محمّدًا عبد الله ورسوله ببعثته ورسالته كَمُل الدِّين وارتفعت أعلامه، صلى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابِه، وعلى رسل الله وأنبيائه، صلواتٍ وسلامًا وبرَكات دائِمَاتٍ ما دام الدّهرُ: ليالِيه وأيّامُه.. أَمَّا بَعْدُ،أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ أَوَّلَ الحَقَائِقِ الوَاجِبِ مَعْرِفَتُهَا وَالتَّذْكِيرُ بِهَا حِينَ وُقُوعِ الكَوَارِثِ: أَنَّهُ لاَ يَقَعُ فِي هَذَا الكَوْنِ حَادِثٌ صَغِيرٌ وَلاَ كَبِيرٌ، مِمَّا يَفْرَحُ لَهُ النَّاسُ أَوْ يَحْزَنُونَ، إِلاَّ بِقَدَرٍ سَابِقٍ سَطَّرَهُ القَلَمُ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ -وَعَرْشُ الرَّحْمَنِ عَلَى المَاءِ- مُطَابِقًا لِعِلْمِ العَلِيمِ الحَكِيمِ، الَّذِي لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ، فَلاَ تَهْمِسُ شِفَةٌ، وَلاَ تَنْزِلُ قَطْرَةٌ، وَلاَ تَسْتَقِرُّ ذَرَّةٌ، إِلاَّ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ، عَلِمَ مَنْ عَلِمَ، وَجَهِلَ مَنْ جَهِلَ، وَرَضِيَ مَنْ رَضِيَ، وَغَضِبَ مَنْ غَضِبَ، وَمِنْ هُنَا أَخْرَسَ العَارِفُونَ أَلْسِنَتَهُمْ عَنِ السُّؤَالِ وَالاعْتِرَاضِ، وَأَخْبَتَتْ قُلُوبُهُمْ لِأَحْكَامِ القَضَاءِ، وَهَانَ عَلَيْهِم الصَّبْرُ عَلَى البَلاَءِ، وَالشُّكْرُ عَلَى السَّرَّاءِ، وَزَادُوا عَلَى الإِيمَانِ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}. وَالإِعْصَارُ الَّذِي ضَرَبَ دَوْلَةَ البَغْيِّ وَالظُّلْمِ وَالاسْتِكْبَارِ هَذَا الأُسْبُوعَ لاَ يَخْرُجُ عَنْ قَدَرِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ عَذَابٌ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ العَذَابَ مِنَ الكُفَّارِ وَالظَّلَمَةِ وَالمُسْتَكْبِرِينَ.. وَيَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِمَا أَصَابَهُمْ؛ لِأَنَّهُ إِذَا شُرِعَ الدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ شُرِعَ مَا هُوَ دُونَهُ وَهُوَ الفَرَحُ بِمُصَابِهِمْ. وَكَيفَ لَا يُفْرَحُ بِمُصَابِ مَنْ شَتَمُوا النَّبِيَّ بَأَفْلَامِهِم، وَدَافَعُوا عَنْ شَاتِمِيهِ بِحُجَّةِ حُرِّيَةِ الرَأْيِّ التِي يُصَادِرُونَهَا إِنْ مُسَّ بِهَا اليَهُودُ أحبابهم؟ وَكَيفَ لَا يُفْرَحُ عَلَى مَنْ آذَوُا المُسلِمِينَ فِي رَبِّهِمْ وَنَبِيِّهِمْ وَدِينِهِمْ، وَآذُوا المُسْلِمِينَ فِي إِخْوَانِهِمْ فَقَتَّلُوهُمْ وَأَسَرُوهُمْ وَعَذَّبُوهُمْ؟! وَإن كان هذَا الإِعْصَارُ يكون قد أصاب مُؤْمِنِينَ طَّائِعِينَ، من المسلمين الذين يسكنون في ذلك البلد، وآخرين أبرياء لا علاقة لهم بما تفعله إدارتهم وحكومتهم، وَهؤلاء يَحْزَنُ المُؤْمِنُونَ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ مُصَابِهِمْ، وَيُدْعَى لَهُمْ بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ، وَلَيْسَ ثَمَّةَ مَا يَمْنَعُ مِنَ اجْتِمَاعِ الفَرَحِ وَالحُزْنِ فِي الكَارِثَةِ الوَاحِدَةِ لِاخْتِلاَفِ مَحِلِّ الفَرَحِ وَالحُزْنِ. وَأَهَمُّ مِنَ الفَرَحِ وَالتَّشَفِّي بمَا يُصِيبُ المُحَادِّينَ للهِ تَعَالَى فِي شَرْعِهِ، المُجَاهِرِينَ بِحَرْبِهِ، الظَّالِمِينَ لِعِبَادِهِ، النَّظَرُ إِلَى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى فِي هَذَا الحَدَثِ العَظِيمِ، وَمَلْء القَلْبِ بِمَحَبَّتِهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، فَهَا هِيَ أَقْوَى دُوَلِ الأَرْضِ تَعْجِزُ عَنْ رَدِّ جُنْدِيٍّ وَاحِدٍ مِنْ جُنُودِ اللهِ تَعَالَى؛ {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}، فَتَتَرَقَّبُهُ وَتَنْتَظِرُهُ، وَلاَ تَسْتَطِيعُ إِيقَافَهُ وَلاَ تَخْفِيفَهُ، وَتَتَجَرَّعُ أَلَمَ خَسَائِرِهِ وَهِيَ تَنْظُرُ عَاجِزَةً حَسِيرَةً كَسِيرَةً. لَمْ تَنْفَعْهَا بِوَارِجُهَا الَّتِي مَخَرَتِ المُحِيطَاتِ، وَلَا طَائِرَاتُهَا وَصوَارِيخُهَا الَّتِي خرقت الأرض والسماوات، وَقَدْ سَحَقَتْ بِهَا الضُّعَفَاءَ فِي أَكثر من بلد كان آمنا، وَخَلَّفَتْ فِي كُلِّ بَيْتٍ مُصِيبَةً، هَاهِيَ تُضْرَبُ بِالذُّلِّ وَالعَجْزِ وَالذُّعْرِ فِي سَاعَاتٍ خَسِرَتْ خِلاَلَهَا عَشَرَاتِ المِلْيَارَاتِ، وَتَوَقَّفَتْ حَرَكَةُ الطَّيَرَانِ فِي مَدِينَةٍ كَانَتْ تَعُجُّ سَمَاؤُهَا بِالطَّائِرَاتِ، وَشُلَّتْ حَرَكَةُ النَّقْلِ، وَعَانَى المَلاَيِينُ مِنَ انْقِطَاعِ الكَهْرُباَءِ الَّذِي هُوَ ضَرُورَةٌ فِي كل شيئ، وَرَأَى العَالَمُ آثَارَ الحُطَامِ وَالدَّمَارِ، وَأَصْبَحَتِ المَدِينَةُ النَّشِطَةُ بِالحَرَكَةِ، المَلِيئَةُ بِالبَشَرِ خَالِيَةً مَهْجُورَةً، وَأَعْلَنَ زَعِيمُهُمْ حَالَةَ "الكَارِثَةِ الكُبْرَى"؛ فَمَا أَعْظَمَ اللهَ تَعَالَى! وَمَا أَضْعَفَ البَشَرَ! وَمَا أَشَدَّ انْتِقَامَهُ سُبْحَانَهُ! وَمَا أَعْجَزَ المُسْتَكْبِرِينَ وَأَذَلَّهُمْ وَأَحْقَرَهُمْ وَأَضْعَفَهُمْ وَلَوْ أَرْهَبُوا الدُّوَلَ، وَأَخَافُوا الأفراد والأمم؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لِكُلِّ ظَالِمٍ بِالمِرْصَادِ؛ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}، {وَتِلْكَ القُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا، وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا}، {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِين}، {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ}. عباد الله، إن الكَوَارِث وَالأَعَاصِيرِ الَّتِي تَجْتَاحُ المُدُنَ، فَتُصِيبُ البَشَرَ، وَيَمُوتُ فِيهَا الأَطْفَالُ وَالحَيَوَانُ، وَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ، وَيُشَرَّدُ الضُّعَفَاءُ، وَلَوْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ؛ هِيَ كَوَارِثُ دَائِرَةٌ عَلَى مَنْ أُصِيبُوا بِهَا بَيْنَ الابْتِلاَءِ وَالعَذَابِ؛ فَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ قَائِمِينَ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى فَهِيَ ابْتِلاَءٌ لَهُمْ، وَتَكْفِيرٌ لِسَيِّئَاتِهِمْ، وَرِفْعَةٌ لِدَرَجَاتِهِمْ، وَإِنْ أَصَابَتْ كُفَّارًا أَوْ فُجَّارًا يُبَارِزُونَ اللهَ تَعَالَى فِي مُلْكِهِ، وَيُحَادُّونَهُ فِي حُكْمِهِ، وَلاَ يَخْضَعُونَ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَهِيَ عَذَابٌ عَلَيْهِمْ كَمَا عُذِّبَتِ الأُمَمُ الَّتِي قَبْلَهُمْ. وَلاَ يَحِلُّ نِسْبَةُ هَذِهِ الكَوَارِثِ لِأَسْبَابٍ أَرْضِيَّةٍ بَحْتَةٍ دُونَ مُلاَحَظَةِ قَدَرِ اللهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ، وَلاَ يُعْتَرَضُ عَلَيْهَا فَيُقَالُ فِيهَا: مَا ذَنْبُ الأَطْفَالِ وَالحَيَوَانِ؟ وَمَا ذَنْبُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَ اللهِ تَعَالَى لاَ تَصْدُرُ إِلاَّ عَنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ، وَمِنْ شُكْرِ اللهِ تَعَالَى عَلَى نِعْمَةِ العِلْمِ، اليَقِينُ بِحِكْمَتِهِ فِي الفِعْلِ؛ { وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، جَعَلَنَا اللهُ تَعَالَى مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَنَظَمَنَا فِي سِلْكِ المُوقِنِينَ، وَجَنَّبَنَا طُرُقَ الزَّائِغِينَ وَالمُلْحِدِينَ.. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ.. اَللّـهُمَّ اختم لنا بخير، وافتح لنا بخير. اللهم تداركنا برحمتك، ونجنا من غضبك ونقمتك. اللهم لاتؤاخذنا بسيئ أعمالنا، وحقق فيما رجوناك جميع آمالنا. اللهم ألهمنا سبيل الرشاد، وبلغنا الآمال وادراك المراد، وأعذنا من الزيغ والفتن وكل فساد. اللهم ارزقنا التقوى، ووفقنا للاستمساك بالعروة الوثقى، واعصمنا مما يوقع في الشقاء والبلوى. اللهم احفظنا من الشرور، والغفلة والغرور، وقاصمات الظهور، وموجبات الثبور. اللهم اجعلنا من أهل عنايتك، المبادرين لامتثال أمرك وطاعتك، المحفوظين بحفظك. اللهم اجعلنا ممن اعتصم بكتابك المجيد، واهتدى بهديه المستقيم السديد، فكان من الفريق السعيد، يوم الهول الشديد. اللهم متعنا بطمأنينة الأمن، واجعلنا في هالة السعادة واليمن، واحفظ دينك المتين، بحفظك المنيع الحصين، وانصر حماته بنصرك المبين. اللهم عافنا في قدرتك، وأدخلنا في رحمتك، واقض آجالنا في طاعتك، واختم لنا بخير عمل، واجعل ثوابه الجنة. اللهم إنا نعود بك من أن نذل ونخزى، ووفقنا لما تحب وترضى. ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولمن.. ربنا آتنا في .. (آمين).. عبادَ اللهِ! اذْكُرُوا اللَّهَ الْعَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشكرُوهُ علَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ).
إخواني الكرام، هذه مساهمة مني أرجو أن تنال قبولكم، وهي خطبة مقتبسة من كلام الأئمة الخطباء الأجلاء، منهم الخطيب الجليل، إبراهيم بن محمد الحقيل حفظه الله ورعاه..
جزاك الله خير الجزاء شيخ إبراهيم00
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا ونفع بعلمك
تعديل التعليق