إضاعة المال وصوره المعاصرة

عبدالله يعقوب
1432/08/21 - 2011/07/22 11:25AM
أصل هذه الخطبة لفضيلة الشيخ محمد صالح المنجد حفظه الله
هذبتها وزدت عليها ونقصت منها فكانت على الصورة التي ترون الآن
أسأل الله تعالى ان يتقبل وأن يجزي الشيخ محمد المنجد خيراً



الحمد لله.. نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله.. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين... أما بعد... فاتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، فمن اتقى ربه علا، ومن اعرض عنه غوى، ولم يضر الله شيئا.
أيها الناس...
من المقرر شرعاً وعقلاً.. أن الله تعالى هو الرزاق.. يرزق من يشاء بغير حساب. جعل بحكمته الأموالَ قياماً للناس، وقسمها بعدله بين عباده كما يشاء سبحانه: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً).
وجعل سبحانه وتعالى الناس مع هذا المال صنفين.. أهل إيمان ودين.. ينفقونه في مرضاة الله بعدما يكتسبونه مما أحل الله. وأهل شر وفساد يكتسبونه من الحرام أو ينفقونه في الحرام، أو هما معاً. قال سبحانه وتعالى عن إبليس: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ) ومشاركةُ إبليس للناس في أموالهم هو ما يأمرهم به من إنفاقها في معاصي الله عزَّ وجلَّ. فكل مالٍ عُصي الله فيه.. بإنفاقٍ في حرام.. أو اكتسابٍ في حرام.. فهو من مشاركات إبليس لعنه الله.
وقال تعالى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا) (َلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) حتى لا يضيّعوها ولا يحسنوا التصرف فيها.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاَثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاَثًا فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ). رواه مسلم.
وإضاعةُ المال تكون بإنفاقِه في الحرام.. وإنفاقِه في غير وجوهه الشرعية، أو تعريضِه للتلف. أو الإسرافِ والتبذيرِ ولو شيئاً يسيراً. ومن صفات المؤمنين أنهم: (إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وكان بين ذلك قواما) فكانوا وسطاً في إنفاقهم. وسط بين الإسراف والشح، وبين التبذير والبخل.

عباد الله...
كثيرٌ من صور إضاعة المال التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم... تحدث لدى الناس اليوم، بعضها مرئيٌ محسوس، وبعضها ليس كذلك، وقد ذكر العلماءُ أمثلةً كثيرةً لإضاعة المال.. ومن ذلك:

* الذين ينفقون الأموال في القمار، أو ينفقونه في الأسفار والسياحات التي هي في معصية الله أو لا منفعة فيها.

* الذين يرمون الطعام.. وانظروا لفائض الولائم والمناسبات ما يُصنع به عند أكثر الناس. وقد نهى أهل العلم عن رمي الطعام، وقالوا: يأكله في اليوم الآخر، أو يوزعه بين جيرانه، أو يجعله في أكياس ويتصدق به على المحتاجين، أو يطعمه لبهيمةٍ، ولا يرميه، يتقى الله تعالى ولا يرميه. اللقمة إذا سقطت.. اللقمة إذا سقطت.. يبعد عنها الأذى ويأكلها.. ولا يدعها للشيطان.. فكيف برمي الطعام الذي يكفي العشرات من الناس... وإذا لم يجد حيلة ولم يهتد سبيلاً مع الطعام الفائض فليتصل على بعض الجمعيات الخيرية.. يأخذونه ويتصرفون به حسب خبرتهم ومعرفتهم.

* من صور إضاعة المال.. إهدار الطاقة الكهربائية.. مكيفات التبريد تعمل، والمنزل مضاء.. ولا أحد في المنزل.
يجلس في غرفة.. والمكيف يعمل في الأخرى الفارغة!
ولو فتشت في نفسك وبيتك.. لرأيت صوراً متعددة لإهدار هذه الطاقة الكهربائية (الثمينة).

* من صور إضاعة المال.. إهدار الثروة المائية.. الماء الذي هو أساس خلق الإنسان.. نرى هدراً له وإسرافاً شديداً..
يتوضأ بعض الناس أو يغسل يديه والماء يصب صبا..
يمد خرطوم الماء ليغسل سيارته بماء التحلية (النفيس)، ربع ساعة.. وربما نصف ساعة.. وهذا الماءُ (الثمين) يسكب على قارعة الطريق!
الخادمات في البيوت يهدرن الماء، وخاصة حين غسيل الأطباق ونحوها..
فهل أديت دورك تجاه هذا ؟ بالنصح والتوجيه.

* من صور إضاعة المال.. شراء التحف والمحنّطات التي ليس من ورائها فائدة. وتأمل ماذا يحدث عند بعض المترفين من مربي الكلاب.. ينفقون أموالهم في الكلاب.. شراءً وعلاجاً وملابس وفنادق، وأخيراً.. مسابقاتٍ لملك جمال الكلاب... وفي الأثر (من اقتنى كلباً نقص من أجره كل يوم قيراط).
الذين يربون الكلاب في غير حاجةٍ شرعية ككلب الزرع والماشية وكلب الصيد والحراسة.. ينقص من أجورهم وحسناتهم كل يوم قيراط..

* من صور إضاعة المال.. الإسراف في الأعراس.. ومن ذلك..
- الكوشات التي تهيأ ويجعل خلفها الديكورات وأصناف الورود، والتي تكلف الآلاف.
- الفساتين التي تُفصَّل بعشرات الآلاف لأجل ليلةٍ واحدة بل ساعات محدودة.
- أنواع البوفيهات والأطعمة الشرقية والغربية والهندية والصيينة! كل ذلك في ليلة واحدة.. ثم يرمى الفائض ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فأين هؤلاء ؟ أين عقولهم ؟ بل أين إيمانهم.


* المبالغة في تزيين وتزويق بناء المساجد.. فقد نهى الشرع عن زخرفتها؛ لأجل عدم صرف الناس عن الخشوع في الصلاة وإشغال المصلين، ولأجل عدم إضاعة المال. (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد). قال ابن عباس: لتزخرفنّها كما زخرفت اليهود والنصارى. وكان عمر رضي الله عنه يأمر ببناء المساجد ويقول: أكنّ الناس من المطر وإياك أن تحمّر أو تصفّر فتفتن الناس. قال أنس: يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلا.
من صور إضاعة المال.. المبالغة فيما يسمى تشطيب البيوت حال البناء..
المبالغة في وضع الجبس والديكورات..
المبالغة في وضع الطلاء والبويات..
بصورٍ وأشكالٍ وألوانٍ تكلف آلافاً مؤلفة للغرفة الواحدة، فضلاً عن الشقة أو العمارة أو غيرها.
عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ: أَنَّهَا أَخَذَتْ نَمَطًا (بساطاً أو قماشاً) تَسْتُرُ بِهِ عَلَى الْبَابِ، فَلَمَّا قَدِمَ النبي صلى الله عليه وسلم فَرَأَى النَّمَطَ عَرَفَتِ الْكَرَاهِيَةَ فِي وَجْهِهِ، قالت: فَجَذَبَهُ حَتَّى هَتَكَهُ أَوْ قَطَعَهُ، وَقَالَ: (إِنَّ اللهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ) رواه مسلم.
ومن ذلك أيضاً.. المبالغة في أثاث المنزل حتى يصل إلى مئات الآلاف.. وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (فِرَاشٌ لِلرَّجُلِ وَفِرَاشٌ لاِمْرَأَتِهِ وَالثَّالِثُ لِلضَّيْفِ وَالرَّابِعُ لِلشَّيْطَانِ). أخرجه مسلم.


أيها الناس.. جاءت الوصايا الربانية والتوجيهات النبوية بكل خير ورحمة للإنسان.. فمن اخذ بها سعد في الدنيا والآخرة.. ومن تركها وأعرض عنها خاب وشقي، والواجب على العباد أن يتأدبوا بما أدبهم الله به (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) ويقول تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ). وفي الحديث: (كُلْ, وَاشْرَبْ, وَالْبَسْ, وَتَصَدَّقْ فِي غَيْرِ سَرَفٍ, وَلَا مَخِيلَةٍ) أَخْرَجَهُ أحمد وأَبُو دَاوُدَ.
ألا فاتقوا الله عباد الله.. والزموا هدي نبيكم.. واحذروا الإسراف والتبذير.. وأنفقوا المال في مراضي ربكم تفلحوا..
أقول ما تسمعون.. وأستغفر الله لي ولكم..







الخطبة الثانية...
عباد الله..
لا بد من التحلي بخلق القناعة. وفي الحديث (قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه). رواه مسلم.
لا بد أن يربي المسلم نفسه وأولاده على القناعة. وعدم الاغترار بالدنيا. وترك النظر في زينتها وزخرفها وبهرجها. (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ). (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى). إذا احتجت لشراء شيء ما.. إذا صارت حاجة.. اشترى مقتصداً على حسب الحاجة. الغني يشتري على حسب حاله والفقير على حسب حاله، ومتوسط الدخل على حسب حاله.
احذروا التوسع في الشراء؛ فهذا المال محاسب عليه الإنسان، فيم اكتسبه، وفيم أنفقه؟، فلا تجعلنّ الأمر الذي عليه مناط حسابك يوم الدين شهوة نفس، وليس المسلم الحكيم بالذي يرهق نفسه بكثرة الشراء، ويهدر الأوقات والأموال والأعمار، وفي كثير من الأحيان يكون مصير شراء ما لا حاجة له من الأطعمة براميل القمامة... وقد قال تعالى: (وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا)
مرّ جابر بن عبد الله ومعه لحم على عمر -رضي الله عنهما- فقال: ما هذا يا جابر؟ قال: هذا لحمٌ اشتهيتُه فاشتريته. قال: أو كلما اشتهيت شيئاً اشتريته، أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا)
ثانياً: مراعاة الأولوية في الإنفاق، وقد وجد في بعض الدراسات أن الكماليات هي ثلثا المشتريات.
ثالثاً: لا بد من ترشيد الاستهلاك، والحرص على أن يصرف المال في محله.
رابعاً: الفطنة وعدم الاغترار بالعروض والإعلانات والدعايات، نحن في عصر الإعلام والإعلان؛ وهذه الإعلانات تحوي كثيراً من المبالغات والكذب، وعلى العاقل ألا ينساق وراءها. بل يتعقل ويفكر قبل الشراء..
اللهم وسّع لنا في أرزاقنا، وبارك لنا فيما آتيتنا..
واجعل أموالنا في سبيلك ومراضيك..
اللهم صلى على نبينا محمد..
المشاهدات 4172 | التعليقات 0