إذا كثر الشوك

عبدالله حمود الحبيشي
1441/02/11 - 2019/10/10 12:21PM

الخطبة الأولى ..

أما بعد .. عباد الله .. لا يخلوا زمان من الأزمنة ، ولا يسلم مجتمع من المجتمعات من الفتن والمنكرات .. وقد تكثر في زمان دون زمان ، وفي مكان دون غيره .. فتظهر وتنتشر ، ويسهل الوقوع في المعاصي والسيئات ، وتُفتح على مصاريعها أبواب المخالفات .. فكيف تكون النجاة وبأي شيء تكون السلامة .
النجاة والسلامة لا تكون إلا بأمور يجب على من يريد الخير لنفسه أن يعرفها ويلزمها .

أولها وأهمها الحذر .. كما قال أبن المعتز : كُنْ مِثْلَ مَاشٍ فَوْقَ أَرْضِ الشَّوْكِ يحْذَرُ مَا يَرَى .. فالسلامة لا يعدلها شيء .. والوقاية خير من العلاج .. خاصة إذا كان للشيطان جولة ، ولأعوانه دولة ، وقد توعدنا وتهددنا "قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ" ، "قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ" ، "وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا" .. فمن يأمن على نفسه بعد هذا التهديد والوعيد.. إننا نمشي في حقل ألغامٍ فأي مزلةِ قدمٍ قد يكون فيها الهلاك ..

ومن الحذر البعد عن مواطن الشبهات ومثيرات الشهوات ، يقول عليه الصلاة والسلام (ضَربَ اللهُ مثلًا صِراطًا مستقِيمًا ، وعَنْ جَنَبَتِي الصِّراطِ سُّورانِ فيهِما أبوابٌ مفتحةٌ ، وعلى الأبوابِ سُتُورٌ مُرْخاةٌ ، وعِند رأسِ الصِّراطِ داعٍ يقولُ : استقِيمُوا على الصِّراطِ ولا تَعْوَجُّوا ؛ وفَوقَ ذلكَ داعٍ يدعُو كلَّما هَمَّ عبدٌ أنْ يفتحَ شيئًا من تلكَ الأبوابِ ؛ قال : ويْلَكَ ! لا تفتحْه ، فإنَّك إنْ تَفْتَحْه تَلِجْهُ) أي: لو فتَحْتَ هذه الأبوابَ وهي محارم الله لنْ تَستطيعَ أنْ تُمسِكَ نفْسَك عن الدُّخولِ .
قد يظن ظان أنه يملك نفسه ، ويقدر على كبح جماح شهواته ، فيقدم على أمر يكون فيه هلاكه .. فالحذر والسلامة خير من المقاومة والمدافعة .. قال صلى الله عليه وسلم (لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وسَلُوا اللَّهَ العَافِيَةَ) .

عباد الله .. مع الحذر قد تزل القدم ، ويحصل شيء من الخلل .. فالنفس قد تضعف ، وكل بني آدم خطاء .. وهذا ليس تبريرا ، ولا تهويننا من المعصية ، ولكن ليعرف العاصي والمذنب ماذا عليه؟ ، وكيف يتعامل مع خطيئته وزلته .

فأول ما يجب على العاصي والمذنب – وكلنا ذووا خطأ وتقصير- أول الواجبات وآكدها المبادرة بالتوبة والاستغفار ، وهي برهان على حياة القلب ، وبقاء الإيمان ، قال سبحانه عن عباده المتَّقين ، والموْعودين بجنَّة عرْضها السَّموات والأرض (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) .. ومن بادر بالتوبة والاستغفار ليبشر بفرح الله به ، ويكفر عنه خطيئته ، بل وتستبدل سيئاته حسنات ..
يَا مَنْ عَدَا ثُمَّ اعْتَدَى ثُمَّ اقْتَرَفْ = ثُمَّ انْتَهَى ثُمَّ ارْعَوَى ثُمَّ اعْتَرَفْ
أَبْشِرْ بِقـَوْلِ اللَّهِ فِي آيـَاتِهِ = إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفْ

ومما يلزم العاصي أو المذنب : مهما كان ذنبك ، ومهما كانت معصيتك ، لا تَسْتَصْغِرِ الذَّنب ، ولا تُهوِّن من شأن المعصية ؛ فلا تدري ، فلعلَّ ما احتقرتَه يكون سببًا لشقائك في الآخرة .. (وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) .
دخلتِ النَّارَ امرأةٌ بسبب هرَّة حبستها.
ورجلٌ مُجاهد ، كُبَّ في النار على وجهه ، من أجل شملة أخذَها.
وربَّ كلمة يتكلَّم بها العَبْد لا يُلْقِي لها بالًا ، يَهْوِي بها في جَهَنَّمَ .
وبقدرِ إيمان العبدِ وتقواه ، وخوفه من ربِّه ومولاه ، يهون الذنب في قلبِه أو يعظم .
قال ابن مسعود رضي الله عنْه : إنَّ المؤمن يرى ذنوبَه كأنَّه قاعدٌ تحت جبل ، يَخاف أن يقعَ عليه ، وإنَّ الفاجرَ يرى ذنوبَه كذُبابٍ مرَّ على أنفِه فقال به هكذا .
ولذا حذَّرنا النَّاصح لأمَّته صلَّى الله عليه وسلَّم من استحقارِ الذنوب وتهوينها ، فقال (إيَّاكُم ومحقَّرَاتِ الذُّنوبِ فإنَّهنَّ يجتمِعنَ على الرَّجلِ حتَّى يُهلِكنَهُ كرجلٍ كانَ بأرضِ فلاةٍ فحضرَ صنيعُ القومِ فجعلَ الرَّجلُ يجيءُ بالعودِ والرَّجلُ يجيءُ بالعودِ حتَّى جمعوا من ذلِكَ سوادًا وأجَّجوا نارًا فأنضجوا ما فيها) .

ومما يجب على من وقع بمعصية أن يحذر من المجاهرة ، فما ظلمَ عبدٌ نفسه ، بمثل استعلانه بالإثم والآثام ، وقد دلَّتْ نصوص الوحيين على أنَّ المعاصي الخفيَّة أخفُّ جرمًا وإثمًا من المعاصي المستعلنة ؛ يقول الله سبحانه {لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ} ، ويقول المصطفى صلَّى الله عليْه وسلَّم (كلّ أمَّتي معافًى إلاَّ المجاهرين ، وإنَّ من المجاهَرة أن يَعْمَل الرَّجُل باللَّيل عملاً ، ثمَّ يُصْبِح وقد سَتَره الله ، فيقول : يا فلانُ عمِلْتُ البارحة كذا وكذا ، وقد باتَ يستُره ربُّه ويصبح يكشِف سِتْرَ الله عنه) .

وليعلم المجاهر بالمعاصي أنه يُدْخِل الناس في حرج ، إما الإنكار أو العقوبة الجماعية .. يقول عليه الصلاة والسلام (ما من قومٍ يُعمَلُ فيهم بالمعاصي ، ثمَّ يقدِرون على أن يُغيِّروا ، ثمَّ لا يُغيِّروا إلَّا يوشِكُ أن يعُمَّهم اللهُ منه بعقابٍ) .

كما أن المجاهرة بالمعصية هي دعوة لنشرها ، وأن يعمل بها غيره ، فيكون للمجاهر أثمها وأثم من عمل بها .. فتكون المعصية من الخطيئات المتعدية ، والسيئات المضاعفة ، وقد توعد الله فاعلها بقوله {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۙ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} ..

عباد الله .. ومما يجب أن نعلمه جميعا أن الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر لا يسقط عن أحد ، حتى وإن كان عاصيا .. فلا يُعفي العاصي والمقصر من ترك الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر بحجة التقصير في العمل ، أو الوقوع في بعض المنكرات .
فالواجب على الإنسان أمران : اجتناب المنكر ، والنهي عنه ، فإذا أخلَّ بأحدهما ، لا يسقط عنه الآخر .
يقول الإمام النووي رحمه الله : قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْآمِرِ وَالنَّاهِي أَنْ يَكُونَ كَامِلَ الْحَالِ ، مُمْتَثِلًا مَا يَأْمُرُ بِهِ ، مُجْتَنِبًا مَا يَنْهَى عَنْهُ ، بَلْ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَإِنْ كَانَ مُخِلًّا بِمَا يَأْمُرُ بِهِ ، وَالنَّهْيُ وَإِنْ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِمَا يَنْهَى عَنْهُ . فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْئَانِ : أَنْ يَأْمُرَ نَفْسَهُ وَيَنْهَاهَا ، وَيَأْمُرَ غَيْرَهُ وَيَنْهَاهُ ، فَإِذَا أَخَلَّ بِأَحَدِهِمَا ، كَيْفَ يُبَاحُ لَهُ الْإِخْلَالُ بِالْآخَرِ؟! .

وقال السفاريني رحمه الله : وَالْحَاصِلُ : أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ .. الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَوْ فَاسِقًا .. حَتَّى عَلَى جُلَسَائِهِ وَشُرَكَائِهِ فِي الْمَعْصِيَةِ وَعَلَى نَفْسِهِ فَيُنْكِرُ عَلَيْهَا ، لِأَنَّ النَّاسَ مُكَلَّفُونَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ" أ.هـ
نسأل الله السلامة والعافية من جميع الفتن والذنوب والمعاصي كما نسأله أن يمن علينا بالستر والتوبة والإنابة .. وأقول قولي هذا واستغفر الله ..

الخطبة الثانية ..

أما بعد .. عباد الله .. قد يقع المسلم في ذنب ومعصية ، ويحاول تركها وهجرها ، فيصعب عليه أو يعجز .. فلا تستسلم ولا تنهزم .. عليك بكثرة الحسنات ، وفعل الطاعات ، فلا يقعدنَّك الشيطان عن الطاعة .. رجل استزله الشيطان فوقع بمعصية عظيمة ، وذنب كبير ، لم يستسلم لذنبه ، ويتمادى في خطيئته ، فبادر إلى الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم يسأله كيف الخلاص والتوبة .. جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ ، فَقالَ : يا رَسُولَ اللهِ ، إنِّي عَالَجْتُ امْرَأَةً في أَقْصَى المَدِينَةِ ، وإنِّي أَصَبْتُ منها ما دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا ، فأنَا هذا ، فَاقْضِ فِيَّ ما شِئْتَ ، .. فَلَمْ يَرُدَّ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ شيئًا ، فَقَامَ الرَّجُلُ فَانْطَلَقَ ، فأتْبَعَهُ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ رَجُلًا دَعَاهُ ، وَتَلَا عليه هذِه الآيَةَ {وأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ، إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذلكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} فَقالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ : يا نَبِيَّ اللهِ هذا له خَاصَّةً؟ قالَ : بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً .

وكلَّما كانت الحسنة من جنس السيّئة كان ذلك أبلغ في التَّكفير والإذهاب ، فإنْ كانت السيّئة من خطايا اللّسان ، فليكثر العبد من طاعة الله بلسانه ، وإن كانتْ خطيئته سماعَ حرام ، فليشنِّف سمعه بالذكر والقرآن .

قال شيخ الإسلام : وينبغي أن تكون الحسنات من جنس السيئات ؛ فإنَّه أبلغ في المحو .أ.ه

ولا يستعظم العاصي معصيته بأن لا يغفر الله له ، فعفو الله أعظم لمن طلب العفو ، وتوبته أقرب لم تاب ، ورحمته أوسع .. يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم (قالَ اللَّهُ تبارَكَ وتعالى يا ابنَ آدمَ إنَّكَ ما دعوتَني ورجوتَني غفَرتُ لَكَ على ما كانَ فيكَ ولا أبالي ، يا ابنَ آدمَ لو بلغت ذنوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثمَّ استغفرتَني غفرتُ لَكَ ، ولا أبالي ، يا ابنَ آدمَ إنَّكَ لو أتيتَني بقرابِ الأرضِ خطايا ثمَّ لقيتَني لا تشرِكُ بي شيئًا لأتيتُكَ بقرابِها مغفرةً) .

المشاهدات 1798 | التعليقات 0