إذا طال زمان الوباء
سامي بن محمد العمر
إذا طال زمان الوباءِ
أما بعد:
فإذا طال على الناس زمان البلاء، وتأخر عنهم ذهاب الوباء، وتقلبت بهم الأحوال، وضعفت منهم الآمال...
فقد وجب عليهم أن يعيدوا التفتيش في الأسباب ليتركوها إنابة وتوبة، ويبحثوا عن العلاج فيبادروا إليه سرعة وأوبة.
ولئن كان في الناس عاقل وسفيه، وغافل ونبيه، وحريص ومتفلت، وملتزم ومتهتك، فإن من الواجب في هذه الأزمان أن يؤخذ على يد السفيه، ويؤطر على الحق أطًرا، ويقصر عليه قصراً.
فإن الله يبتلي الناس بالمصائب والمحن، والأوبئة والفتن: لعلهم يرجعون، لعلهم يتضرعون؛ فإذا أبدوا من حالهم عكسَ ذلك، وأظهروا لربهم ضدَ ذلك، فقد أُنذروا بالبأساء فلم يحذروا، وخُوِّفوا بالضراء فلم ينتهوا، فأعظِم بها في القلوب من قسوة؛ دواؤها: الأخذ بغتة؛ عياذاً بالله.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 42 - 44]
عن أبي بكر بن عياش، قال: لما خرج علي بن أبي طالب إلى صفين مرّ بخرائب المدائن، فتمثل رجل من أصحابه فقال:
جرت الرياح على مكان دياره... فكأنما كانوا على ميعادِ
وإذا النعيم وكلُّ ما يُلهى به ... يومًا يصير إلى بِلىً ونفادِ
فقال عليٌّ رضي الله عنه: "لا تقل هكذا، ولكن قل كما قال الله تبارك وتعالى: {كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين، كذلك وأورثناها قوما آخرين} ، إن هؤلاء القوم كانوا وارثين فأصبحوا موروثين؛ إن هؤلاء القوم استحلوا الحُرُم فحلت بهم النقم، فلا تستحلوا الحُرُم فتحل بكم النقم"([1]).
وعن النعمان بن بشير الأنصاري رضي الله عنه أنه قال وهو يخطب الناس في حمص: "إن الهلكة كل الهلكة أن تعمل السيئات في زمان البلاء"([2]).
نعم والله، فأي عقل هذا الذي تأتيه نُذرُ ملكِ الملوك تخوِّفه السطوة، والبلاء والغَلَبة، ويستمر في لهوه وباطله، ويتجرأ على أوامر خالقه وبارئه؟
إن زمان البلاء زمانُ رجوع وتوبة ودعاء وإنابة وخوف وتضرع وإلحاح.
إن زمان البلاء زمان اختبار للإيمان والصبر والتوكل والأمل.
إن زمان البلاء زمان لجأٍ ودعاء وإخبات ودموع، وتضرع وخشوع؛ وإن طالت مدته، واستحكمت عقدته
" فإياك إياك أن تستطيل زمان البلاء، وتضجر من كثرة الدعاء؛ فإنك مبتلى بالبلاء، متعبد بالصبر والدعاء، ولا تيأس من روح الله، وإن طال البلاء"([3]).
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة 214] .
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
أما بعد:
ما العذر وقد مسنا الضر؟ وصار الواحد منا عظيم الرجاء كثير الدعاء، فلما استجاب الله دعوته وفرج كربته؛ وخفف عنه أثر البلاء، وحماه مما أصاب غيره من الضراء؛
انطلق لا يفكر ليشكر ولا يتوقف ليتدبر ولا يتأمل ليعتبر؟
{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي
الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) }
الخطاب لنا: (لننظر كيف تعملون)
فاجعلوا مع التباعد بعدا عن المساوئ والعيوب، ومع ترك العناق والمصافحة ترك الذنوب، ومع الكمامات تكميم الأعينِ والألسنِ لتَطهُر القلوب،
وتمسكوا بحبل النجاة الأكيد الذي به تسلمون {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) } [الأنفال: 33]
([1]) العقوبات لابن أبي الدنيا ص 209، وتاريخ بغداد (1/458)
([2]) العقوبات لابن أبي الدنيا (ص: 209)
([3]) صيد الخاطر (ص: 439)