إدمانُ الجوالِ-14-7-1442هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري
محمد بن سامر
إدمانُ الجوالِ-14-7-1442هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ونستغفره، ونعوذ باللهِ من شرورِ أنفسِنا، وسيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، عليه وآلهِ صلاتُه وسلامُه وبركاتُه.
"يا أيها الذينَ آمنوا اتقوا اللهَ حقَ تقاتِه ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون".
أما بعد: فيا إخواني الكرام:
مشاهدُ عجيبةٌ، وأحوالٌ غريبةٌ، فهذا يجلسُ وحدَه ليسَ معهُ أحدٌ، فمرةً يضحكُ، ومرةً يغضبُ، وثالثةً يحزنُ، وترى في لحظةٍ على وجهِهِ جميعَ الانفعالاتِ، فتقولُ أمجنونٌ هذا أم تأتيهِ بعضُ الحالاتِ؟
وهؤلاءِ أقاربُ وأصحابُ، قد اجتمعوا بعدَ طولِ غيابٍ، وإذا بهم قد خيَّمَ عليهم صمتٌ مُطبقٌ، فتقولُ وأنتَ عليهم مُشفقٌ، أعوذُ باللهِ من الشَّيطانِ الرَّجيمِ، لعلَّه ذكَّرَهم ما كانَ من خِصامٍ قديمٍ.
وهذا شابٌ كانَ معروفًا ببِرِّه بوالديهِ الكِبارُ، يقومُ بخدمتِهم ومؤانستِهم باللَّيلِ والنَّهارِ، فأصبحَ إذا كانَ عندَهم نكَّسَ رأسَه، وخفضَ بصرَه، مشغولًا عنهم فيتعجبونَ من حالِه ما الذي غيَّرَه؟
وهذا زوجٌ وزوجتُه يجلسونَ في غرفةٍ واحدةٍ، الأجسادُ متقاربةٌ والقلوبُ والأرواحُ متباعدةٌ، فيبكي الطِّفلُ بينهما، فينظرُ كلٌّ منهما لصاحبِه بطَرْفٍ خفيٍّ، ليقومَ بإسكاتِ هذا الطِّفلِ الشَّقيِّ.
وهذا موظفٌ قد عطَّلَ مصالحَ المُراجعينَ، والملفاتُ قد تراكمتْ على مكتبِه مثلُ الجبلينِ، فهو يؤجلُ المعاملاتِ إلى مَواعيدَ بَعيدةٍ، ليتفرغَ لقِراءةِ ما بينَ يَديهِ من الرسائلِ العديدةِ.
فهل علمتم سببَ هذه المشاهدِ والأحوالِ والمآسي المُحزناتِ؟، إنَّها الجوَّالاتُ! وما أدراكَ ما الجوَّالاتُ!
لن أتكلمَ عن فوائدِ الهواتفِ الذَّكيةِ الكثيرةِ، ولا أُريدُ أن أسردَ مخاطرَها الكبيرةَ، وإنما هذه نفثةُ مهمومٍ، وزفرةُ مكلومٍ، على ما سلبتْه مِنَّا هذه الأجهزةُ من أوقاتٍ، وعلى ما فرطنا بسببِه من أجورٍ وحسناتٍ.
لقد أصبحَ وجودُ هذه الهواتفِ ضرورةً وإدمانًا، وبدونَها يصبحُ المرءُ ضائعًا حيرانًا، يُدخلُ يدَه في جيبِه ليُخرجَ الجِهازَ لينظرَ فيه، وقبلَ أن يُرجعَهُ إلى جيبِه، يُخرجُه لينظرَ في شاشتِه مرةً أخرى، دونما سببٌ، إنما هو الإدمانُ، وأما إذا نسيه مرة فلا تسلْ عن المزاجِ والحالِ، فهو حزينٌ مشغولُ البالِ، حتى يرجعَ إليه سريعًا ملهوفًا يُستقبلُ به عندَ البابِ، فيضمُّهُ بينَ يديه كأنَّه أمٌّ لقيتِ ابنَها بعدَ طولِ غيابٍ.
يدخلُ أحدُنا في الصَّلاةِ وهي أعظمُ أعمالِنا، وقد أرسلَ رسالةً إلى صديقٍ أو قريبٍ، أو ينتظرُ مكالمةً من خليلٍ أو حبيبٍ، فهو مشغولٌ عن الصَّلاةِ وقراءةِ الإمامِ والأذكارِ، فتكونُ الصَّلاةُ عليه أطولُ من ليلِ المحزونِ، فإذا سلَّمَ الإمامُ قامَ كالمجنونِ، ليخرجَ ليرى شاشةَ جوَّالِه، هل وصلَ ما كانَ ينتظرُ من اتصالٍ أو رسالةٍ، حتى صلاتُنا لم تسلمْ من هذه الأجهزةِ، كان محمدُ بنُ إسماعيلَ البخاري-رحمه الله تعالى-يُصلي ذاتَ ليلةٍ، فلسعته حشرةٌ سَبعَ عَشرةَ مَرةً، فلما قَضى الصلاةَ، قَالَ: "انظروا أيش آذاني".
نقضي ليالينا في تقليبٍ للشَّاشةِ ما بينَ رسالةٍ ومقطعٍ وردٍّ وتعقيبٍ، رسائلُ مختلطةٌ بالغثِّ والسَّمينِ والصِّدقِ والأعاجيبِ، فآهٍ على ساعاتنِا وأيامِنا، المفضَّلُ بنُ يونسَ رأى محمدَ بنَ النَّضرِ حزينًا كئيبًا، فقالَ له: "ما شأنُكَ؟، قَالَ: مَضتْ الليلةُ من عُمري، ولم أكتسبْ شيئًا، فإنَّا للهِ وإنا إليه راجعونَ"-رحمهما الله تعالى-.
إخواني: أمَّةُ (اقرأ) أصبحتْ لا تقرأُ إلا الرسائلَ ولو كانتْ طويلةً، والرُّدودَ ولو كانتْ ثقيلةً، كانَ الخليلُ بنُ أحمدٍ-رحمَه اللهُ-يقولُ: "أثقلُ السَّاعاتِ علي ساعةٌ آكلُ فيها"، أتعلمونَ لماذا؟، لأنَّها ساعةٌ لا يستطيعُ أن يقرأَ فيها ولا يكتبَ، وأما نحنُ فقد وجدنا حلًّا لهذه المشكلةِ، فنحنُ نأكلُ باليُمنى ونقرأُ ونكتبُ ونصوِّرُ باليسرى، حتى لا تضيعَ علينا أوقاتٌ ننشغلُ بها عن الجوالاتِ، والمحزنُ جِدًّا أنَّه لم يسلمْ من هذه الأجهزةِ، صغيرٌ ولا كبيرٌ، ولا ذكرٌ ولا أُنثى، ولم يخلُ منها وقتٌ في اللِّيلِ والنَّهارِ، والعجيبُ أن ترى من شابَ رأسُه وقاربَ الزَّوالِ، قد أشغلتْه هذه الأجهزةُ عن خواتيمِ الأعمالِ، فهو يخوضُ مع الخائضينَ، وتضيعُ أوقاتُه مع الجاهلينَ، وصدقَ الشَّاعرُ:
وَمَا أَقْبَحَ التَّفْرِيطَ فِي زَمَنِ الصِّبَا*فَكَيْفَ بِهِ وَالشَّيْبُ للرَّأْسِ شَاعِلُ
تَرَحَّلْ مِنَ الدنْيَا بِزَادٍ مِن التُّقَى*فَعُمْرُكَ أَيْامٌ وَهُنَّ قَلائِلُ
أستغفر اللهَ لي ولكم وللمسلمين...
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ كما يحبُ ربُنا ويرضى، أَمَّا بَعْدُ:
فكم ساعةً نقضيها على هذه الأجهزةِ؟ وكم دقيقةً نفتحُ فيها المصحفَ يوميًّا؟، تخيَّلوا لو قضينا نصفَ الوقتِ الذي نقضيه على الجوَّالِ في قراءةِ القُرآنِ كلَّ يومٍ، والرسولُ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِه وَسَلَّمَ-يقولُ: "مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ"، فيا الله كم حسنةً نفوزُ بها في ذلكَ اليومِ؟، وكم ختمةً سنختمُ في الشَّهرِ؟، سنصبحُ حافظينَ لكتابِ اللهِ-تعالى-، لا ننسى منه حرفا.
والوقتُ أنفسُ ما عُنِيتَ بحفظِه*وأراهُ أسهلَ ما عَلَيْكَ يَضيعُ
أينَ تلك الأذكارُ والقراءةُ النَّافعةُ؟، وأينَ الزياراتُ والأحاديثُ الماتعةُ؟، أينَ الرِّياضةُ والخروجُ إلى الصَّحاري الواسعةِ؟، أينَ أنا ذلك الذي كانَ قبلَ هذه الأجهزةِ الخادعةِ؟
أرجو أن أكونَ قد وضعنا يدَنا على مكانِ الألمِ، لعلَّه أن يكونَ مِنَّا فيما مضى من أوقاتِنا بعضُ النَّدمِ، عسى اللهُ أن يُنقذَنا من الخسارةِ والإفلاسِ، في نعمةٍ قد خَسِر فيها كثيرٌ من النَّاسِ، كما قالَ-عليه وآلِه وصحبِه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "نِعْمَتانِ مغبونٌ فيهمَا كثيرٌ منَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ"، فاسألِ اللهَ تعالى النَّجاةَ، وعليكَ بكثرةِ الدُّعاءِ، وحافظْ على وقتِك، فإنَّه حياتُكَ وعمرُكَ، فعسى يومًا أن تكونَ سعيدًا بإنجازِكَ، أنَّك قد تعافيتَ من إدمانِ جِهازِكَ.
لا إلهَ إلا اللهُ العظيمُ الحليمُ، لا إله إلا اللهُ ربُ العرشِ العظيمِ، لا إلهَ إلا اللهُ ربُ السماواتِ وربُ الأرضِ وربُ العرشِ الكريمِ، لا إلهَ إلا أنتَ سبحانَك إنَّا كنا من الظالمينَ، اللهم أصلحْ ولاةَ أُمورِنا وأُمورِ المسلمينِ، وأصلحْ بطانتَهم، ووفقهمْ لما تحبُ وترضى، وانصرْ جنودَنا المرابطينَ، ورُدَّهُم سالمينَ غانمينَ، اللهم اهدنا والمسلمين لأحسن الأخلاق والأعمال، واصرف عنا وعنهم سيئها، اللهم اغفرْ لنا ولوالدينا وللمسلمينَ، نسألُك لنا ولهم من كلِّ خيرٍ، ونعوذُ ونعيذُهم بك من كلِّ شرٍ، اللهم اشفنا واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اجعلنا والمسلمينَ ممن نصرَك فنصرْته، وحفظَك فحفظتْه، اللهم عليك بأعداءِ المسلمينَ فإنهم لا يعجزونَك، اكفنا واكفِ المسلمين شرَّهم بما شئتَ يا قويُ يا عزيزُ، اللهمَ اسقنا وأغثنا(ثلاثًا).
اللهم صلِ وسلمْ وباركْ على نبيِنا محمدٍ وأنبياءِ ورسلِه وآلِهِ وصحبِهِ، والحمدُ للهِ ربِ العالمينَ.
المرفقات
1614262868_إدمانُ الجوالِ-14-7-1442هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.docx
1614262870_إدمانُ الجوالِ-14-7-1442هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.pdf